أثير – الروائي الأردني جلال برجس
أنا واحد من أولئك الذين أخذوا بواقعية (غابرييل غارسيا ماركيز) السحرية، حين أقدمتُ للمرة الأولى، وفي الثمانينات، على قراءة روايته الشهيرة: (مئة عام من العزلة)،ثم قرأت كثيرًا مما رآه النقاد وراء فكرتها وبنائها الاستثنائيين.
بطبيعة الحال فإن اللقاء الأول بأي رواية عادة ما يكون مجرد توطئة لبلوغ أسرارها الدفينة، لذلك دلتني القراءات المتلاحقة، وبخاصة الخامسة، على نقطة الالتقاء السرية بيني وبينها؛ إذ إني ومنذ معرفتي الأولى بعالم ماركيز على أرض صفحاتها، كنت أستشعر ذلك الرابط الخفي، وتلك العلاقة التي تشبه التعلق برائحة لها في الذاكرة أصل عتيق، من دون معرفة جذر ذلك التعلق.
بعد تلك القراءة التي تخلصت فيها من عاطفة القراءة المحملة بالدهشة المتهورة، ومما يمكن أن يخلفه وهج الكتاب الكبار، ومما يمكن أن يؤدي إليه الرأي العام (سيكيولوجيا) حول عمل روائي شديد الانتشار، أدركت أنني تعرفت بالواقعية السحرية في زمن مبكر، وقبل أن أقرأ ماركيز. تعرفت بها في زمن الطفولة في قريتي (حنينا) ليس على يدي جدتي – معلمتي الأولى في الحكاية- فقط، إنما من فضاء القرية التي كانت تتشكل آنذاك من عدة عناصر شديدة الاستثنائية؛ فضاء مزيج من ثقافة البدو الرُّحَّل الذين استقروا على رأس ربوة، وعاشوا لسنين في الكهوف شتاء، وفي بيوت الشعر ربيعًا، إلى أن استقروا بشكل كامل في بيوت بنيت من الطين والحجر، زرعوا، وامتلكوا أدوات الإنتاج على مراحل زمنية من دون التخلي عن الرؤية البدوية للكون.
الواقعية السحرية شكل سردي غير مستقر، له العديد من التعريفات، ويمكنني القول إنها القدرة السردية على جعل القارئ يصدق ما يُروى له على أنه حقيقة ثابتة لا خيال. هناك نقاد رأوا أنها امتداد للسوريالية، وهناك من رأى منهم -إلى درجة الخلط- أن بينها وبين الفنتازيا والخرافة والعجائبية والسوريالية والأسطورة حاجزا منخفضا جدًا، والحقيقة التي أؤمن بها هي أنها استفادت من كل تلك المدارس والأشكال السردية، على نحو أجده نتاجًا حتميًّا للتطورين الاجتماعي والثقافي.
حين تذكر الواقعية السحرية يأتي ذكر (ماركيز) من دون الالتفات إلى ظهورها المبكر في الأدب الألماني، ومن دون الإشارة إلى (بورخيس) و(كافكا) الذي عرَّف عبر روايته (المسخ) (ماركيز) بهذا الشكل السردي الذي وجد رواجًا عالميًا منقطع النظير؛ إذ كتب قصة قصيرة- متأثرا بـ (مسخ) ( كافكا)- فيها ملامح سحرية، كانت بمثابة الانطلاقة الأولى نحو التفكير بـ (مئة عام من العزلة). ومن دون الالتفات إلى (ألف ليلة وليلة) و (التيجان في ملوك حمير)، أو القصص، والحكايات التي يتناقلها الفضاء الاجتماعي العربي. فضاء واقعي سحري سبق كل الخطوات السردية، وتقدم بها انطلاقًا من بيئة خصبة لهكذا رؤية للكون.
ما عشته في زمن القرية قبل أن يبتلعها وحشُ الحداثة كفيل بأن يجعلني أؤمن أكثر بأني تعرفت بالواقعية السحرية قبل (ماركيز)، لكنها معرفة شفهية؛ إذ كانت الحكايات تروى في ليالي الشتاء، حول المدفأة، وضوء شحيح يسقط على أبدان المنصتين، حكايات لم أكن أعي في ذلك العمر المبكر أنها تتطور على غرار كرة الثلج؛ فحين يسمع شخص حكاية ما يرويها، لكنه يضيف عليها حكايته الخاصة، وبمعنى آخر، يبني فيها ما رآه ناقصًا، وما وجده ضروريًّا لاكتمال التصور عن الحياة. في ذلك الزمن تناقل أناس القرية حكاية رجل وامرأة ضُبطا في أحد الكهوف، فقُتلا عقابًا على ارتكاب جريمة الزنا، ومنذ ذلك الحين أخذ العديد من أهل القرية يروون حكاية مفادها أن العاشقين يخرجان في كل ليلة خميس ويتجولان في القرية. وبعد سنين تطورت تلك الحكاية إلى ما هو أبعد خيالًا من ذلك؛ إذ قيل بأن البعض شاهدوا العاشقين المغدورين يحلقان في السماء في الليالي المقمرة.
الغريب في الأمر أن الناس صدقوا تلك الحكاية التي بناها المخيال الشعبي، ولهذا تجاوزت حدود الخرافة وهي تتعرض لإعادة إنتاج مثلها مثل كثير من الحكايات الشعبية، وتركت أثرا في البنية الثقافية والاجتماعية دفعت الكثير إلى التعاطف مع العاشقين رغم جريمة الزنا، تعاطف كان مقدمة لخلخلة بعض المفاهيم آنذاك.
في زمن القرية سمعت من جدتي الكثير من الحكايات التي تزاوج بين الواقع والخيال، وقد تجاوزت حكاية الغولة التي تخرج في الصباح وترقص عند باب المغارة متقمصة شخصية امرأة جميلة تستدرج الرجال إلى المغارة وتلتهمهم. كانت تلك الحكايات مزيجًا من الخرافات، والأساطير، والشطحات الخيالية.
في أحد مواسم الحصاد رأيت جدتي تكيل القمح على البيدر بالصاع. كنت أراقبها وهي صامتة مثلها مثل من هم حولها. حين استغربتُ ذلك الطقس سألتها عن سبب ذلك، فأشارت بأن عليَّ ألا أتكلم. في المساء أخبرتني أنها تفعل ذلك لئلا تُنزع البركة، وحين وجدتني لم أفهم ما تقوله راح تسرد لي حكاية عن نساء شريرات على شكل طيور سوداء خرافية، ينتظرن موسم الحصاد ليأتين إن تحدثَ أحدهم، ويسرقن القمح، ويعطينه لرجل شرير وبشع الخلقة. رجل كلما أكل؛ أصبح أكثر قوة لالتهام الأناس الطيبين في القرى.
عرفت (ماركيز) روائيًّا أجاد في ابتكار عوالم عديدة من رحم الواقعية السحرية، لكني وجدت فيما بعد أن العالم العربي يترع بهذا الشكل السردي الطريف، والمهم، على الصعيدين الشفهي، والمدوَّن. ووجدت أن جدتي بولعها الفطري بالحكايات هي مصدري الأول بهذه الواقعية التي كانت تنظر إلى العالم من زاوية سحرية، وهي تتحدث عند غروب الشمس إلى كائنات لا يراها غيرها، وتؤمن بنذر الشؤم، وتخشى الأفق حين يمتلئ بالشواظ الأحمر. تحمل في جيبها عددًا من الأحجار الصغيرة، والصَّدف، وبعض الأشكال، وتلقيها كلما ضاق صدرها، وتستنبط منها على مسمعي العديد من المصائر المتخيلة.