أثير- مكتب أثير في تونس
صياغة ألم الفقد : محمد الهادي الجزيري
تهاطلت الأنباء والمواقع الإلكترونية والحسابات الشخصية ..بخبر رحيلك ..إلا أنا فقد ظللت أتلقّف النبأ تلو المعلومة صامتا مبحلقا في شاشة الكمبيوتر ..، من يكون هذا الشاعر الكبير الذي أربك أصدقائي ..ألم أره مرّة واحدة ..ألم أحدّثه أو أحاوره ؟ ..، عجيب كيف يبكيه الشاعر الكبير المنصف الوهايبي من علّمني السحر ..ولا أعلم شيئا عن حياته ونضاله ..لم أقرأ له نزرا من أشعاره المغطية والمنثورة على جميع المواقع ؟ ..عجيب ثمّة خلل أو عطل وقع في مسيرتي ..، حتّى هاني نديم كتب عنه ..ورثاه غسان زقطان ..وتحدث عنه بحبّ زياد خداش..وجميعهم أصدقاء لي وله ..ولا علم لي سوى ما علمت به : قد رحل الشاعر والكاتب والباحث الفلسطيني زكريا محمد ..، يرحمه الله ويصبّر أهله وأحبابه على فراقه ..، ولا يسعني إلا أن أكفّر عن ذنبي ..فذنبي أنّني لم أعرفه ..وتبدو خسارة كبرى أني لم ألتق به ..ولم أحظ بالجلوس إليه ..، سأحاول أن أخلّد ما أستطيع منه في مقالة صغيرة مهما كبرت ..إذ أنّني في حضرة كائن شاعر وروائي وناشط اجتماعي وتولى نائب رئيس تحرير مجلّة الكرمل التي كان رئيسها الشاعر الفقيد محمود درويش ..
قلت إنّه تكفير عن ذنب لم أقترفه ..ولكن الله أراد ذلك ..، فهو إن لم تسمح به الدنيا فسنوافيه في الآخرة ..، لنبدأ المصافحة بالشعر المكتوب بدم القلب مباشرة للقلوب جميعها التوّاقة للحرّية والانعتاق :
” الكلمات طيور بأجنحة قصيرة.. وهي لن تصل بك أبداً
إلى المدى الذي تريد
دعها إذن تطير بأجنحتها القصيرة إلى المدى التي
تقدر عليه.. دعها تحلق فوق التلة القريبة، وفوق غابة
الزيتون الفضية… هذا يكفي
ثم اقعد بعد ذلك على الصخرة المطلة على البحر،
وافتح أزرار قميصك للطيور الأخرى بداخلك،
الطيور التي ليس لأجنحتها مدى. وهي ستصفق
الجناح بالجناح كي تقوم بالرحلة التي حلمت فيها ”
وُلد الفقيد زكريا محمد سنة 1950 بالزاوية قرب نابلس، ودرس الأدب العربي في جامعة بغداد، وبعد تخرجه سنة 1975 انتقل إلى بيروت وعمل في الصحافة، وقد اشتغل منذ الثمانينات في منابر إعلامية ثقافية فلسطينية في كلّ من بيروت وعمّان ودمشق، أهمّها مجلات مثل ” الحرية ” و ” الفكر الديمقراطي ” ، وفي سنة 1994 عاد إلى فلسطين حيث تولّى منصب نائب رئيس تحرير مجلّة الكرمل التي كان رئيسها الشاعر الكبير محمود درويش، وأمضى بقية حياته في رام الله أين عمل صحفيا ومحرّرا ومدرّبا على الكتابة الإبداعية ..، إلى أن رحل يوم 2 أوت 2023 ..، يرحمه الله ويجازيه خيرا على ما بذله وأعطاه وناضل وكابد من أجل فلسطين ……..
أسوق إليكم حادثة وقعت للكاتب زياد خدّاش ..، ذكرها اليوم فقط ..أي بعد موت زكريا خدّاش بسويعات ..، أسوقها لكي نفهم جميعا أنّ فعل الخير والكرم والمودّة ..لا بدّ أن يُذكر للناس ..لكي يتعلّموا المحبّة في بعضهم ..، أترككم مع زياد خدّاش في شهادة عظيمة :
” في 2007 قطعت اسرائيل رواتبنا كاملة، كان أبي يصرف عليّ، كان يناولني كل صباح عشرة شواقل، كنت أسكن في غرفة صغيرة قرب السفارة الكندية برام الله، لا قهوة في بيتي ولا خبز، زارني مرة زكريا محمد ، فاعتذرت له: لا قهوة في بيتي يا زكريا سامحني ، فابتسم …مهوّنا عليّ الأمر.. كلنا نعاني ولا يهمك
في صباح اليوم الثاني، جئت الى غرفتي قادما من بيتي في المخيم، دفعت باب البرندا الزجاجية بيدي، ودخلت لفتح باب الغرفة ،ففوجئت بخمس ورقات نقدية من فئة المئة شيكل متناثرات على أرض البرندا، فاستنتجت أن زكريا العظيم قد جاء ورماها لي تضامنا مع قهوتي وخبزي، رأيته بعد الحادثة بأيام فشكرته على ال ٥٠٠ شيكل ، لكنّه أنكر أنه هو المهم “زبطت حالك؟
على مدى سنوات طويلة منذ ٢٠٠٧ كان آخرها قبل شهرين فقط ظللت أشكر زكريا قائلا له: شكرا على الخبز شكرا على القهوة شكرا لأنك من بلادنا
وظل مصرا ضاحكا يقول: يا زلمة انت ما ازهقت ، مش أنا مش أنا
لم أقل لزكريا أبدا أن صاحبة البيت بعد يوم واحد من الحادث فقط حذرتني وهي ترتجف من شخص طويل وبشعر أبيض رأته من الطابق الثاني وهو يفتح نافذة البرنادا
ويرمى شيئا ما….
مع السلامة يا حبييي يا زكريا
وشكرا على الخبز والقهوة ووجودك في بلادنا “
مقطع من قصيدة بعنوان ” أثافي ” مؤرخة في 2001 :
” مضى من أشعل النار
وتركنا
عواء الذئاب يدهمنا
ولا خوف
وحدتنا أعمق من الخوف والوحشة
أبعد حتى من فكرة الذئب ذاتها
نحن نعيش بالذاكرة ”
له في مسيرته الطويلة عديد الكتب منها ما يخصّ الشعر ومنها الرواية والدراسة التاريخية وخلاصة القول كان ..ليكتب ، وخلّف لنا عددا من المؤلفات الهامة ..، استهلها بمجموعة بعنوان ” قصائد أخيرة ” سنة 1980 ، وختمها ب ” زرواندا ” وكان ذلك سنة 2021 ، كما أصدر روايتين الأولى ” العين المعتمة ” سنة 1997 والثانية ” عصا الراعي ” سنة 2014 ، كما أصدر في أدب الطفل وفي الميثولوجيا والأديان القديمة..إضافة إلى عمله كمحرّر وصحفي طيلة حياته ..
أقدّم لكم ما كتبه الشاعر المنصف الوهايبي حين علم برحيله، وسوف أقتطع من كلامه مقطعا صغيرا مناسبا لهذه المقالة التأبينية :
” وداعا زكريا محمد الشاعر للفلسطيني الاستثنائي حقا والمثقف الكبير والمناضل الشجاع والصديق الذي لا ينسى، وكانت سعادتي كبيرة عندما كنت عضوا في لجنة جائزة محمود درويش، وأسندنا إليه الجائزة بالاجماع…”
وهذه فقرة عن كتابه الشعري المتميز: “كشتبان” حبرها المنصف الوهايبي أنذاك :
” …على أنّ “الكشتبان” في هذا الكتاب أشبه ما يكون بـ«اسم بلا مسمى»، فهي اسم موضوع على جوهر أو عرض، ولكن بدون تعيينه أو تمييزه، لأنّ مسماه لا هو بالمعلوم ولا هو بالمعين؛ ما دام يتسع لشتى حالات الذات الشعرية:
سأرمي إذن زهرة النرد الأخيرة/ وماذا يسمون من يرمي رميته الأخيرة؟، ليس له اسم؟/ أنا سأسميه..، اسمه فستقة/ أنا فستقة، ويدي ترمي بزهرتها الأخيرة..”
أختم هذه الصياغة لألم الفقد ..، فكلّ كاتب يرحل يترك مكانه شاغرا وأوراقه مغدّرة، رحم الله زكريا محمد فقد كان مقاوما للاحتلال وعاشقا للأرض متيّما بالحياة ..، كتب عن شيرين أبو عاقلة لحظة سقوطها برصاصة غادرة ..وهو الآن التحق بها ..فعلى روحيهما السلام والرحمة والسكينة :
” رميت منجلي على الأرض، تاركاً للشمس أن تشوي بلّوطها في التنّور وحدها، وأخذت غفوة قصيرة تحت الصخرة..، المنجل ذنب كبير يا شيرين..، والقمح ذنب أكبر منه، والشمس ذنب ثالث أكبر منهما معاً..، كل ما هو جميل ذنب.. كل ما هو أصيل ذنب..، لذا، فالحياة سلسلة ذنوب..، وكل مقطوعة كتبتها قطعة من نشيد اعتذار طويل عن هذه الذنوب.. اعتذار عن ذنوب ارتكبتها وأخرى لم أرتكبها..، ففي الحساب الأخير، أنت مسؤول عن ذنبك وذنب غيرك..، أنت مسؤول عن كفرك وكفر غيرك..، ليس هناك جزيرة معزولة يسكن فيها البريئون وغير المذنبين..، ليس هناك زند لم يقدح ناره..، لذا أتطهّر بالنوم يا شيرين..، آخذ غفوة تحت الصخرة، وغفوة مثلها تحت شجرة الخروب..، النوم عبادة يا شيرين، والصحو كفر “.