الأولى

يروي قصة صمود: كتاب جديد يكشف نتائج مهمة عن الوجود البرتغالي في بحر العرب

كتاب جديد

أثير- د.محمد بن حمد العريمي

صدر مؤخرًا عن النادي الثقافي كتاب جديد يُعد إضافة قيّمة للمكتبة التاريخية العربية، بعنوان “الوجود البرتغالي في بحر العرب وانعكاساته على إقليم ظفار العماني: دراسة تاريخية وثائقية”، للباحث سالم بن أحمد بن سالم الكثيري، أحد الباحثين المتخصصين في التاريخ، ويمثل جهدًا منهجيًا دقيقًا في تتبع وفهم حقبة زمنية حاسمة في تاريخ المنطقة، حيث كانت سواحل ظفار، المعروفة بثرواتها من اللبان والخيول، مسرحًا لمواجهات عنيفة وصراع اقتصادي وسياسي مع الإمبراطورية البرتغالية الصاعدة.

"الوجود البرتغالي في بحر العرب وانعكاساته على إقليم ظفار العماني: دراسة تاريخية وثائقية"

منهجية علمية وإشكالية بحثية محددة

تكمن القيمة العلمية لهذا الكتاب في منهجيته الأكاديمية؛ فالدراسة لا تكتفي بالسرد التاريخي، بل تنطلق من إشكالية بحثية محددة تتمثل في سؤال مركزي: “ما أبرز النتائج المترتبة عن الوجود البرتغالي على إقليم ظفار؟. ومن هذا السؤال، تتفرع تساؤلات فرعية معمقة تسعى إلى كشف كل جوانب الموضوع، مثل الأوضاع السياسية في ظفار إبان الوجود البرتغالي، وموقف القوى المحلية من الغزاة، وتأثيرات هذا الوجود على الأوضاع الاقتصادية، بالإضافة إلى تحليل الخلفية البرتغالية المعرفية عن ظفار.

وللإجابة عن هذه التساؤلات، اعتمد الباحث على المنهج التاريخي الوصفي، مع الاستقراء الدقيق لمجموعة واسعة من المصادر التاريخية، ولم يقتصر على المصادر العربية المحلية، بل قام بالوقوف على المصادر والوثائق البرتغالية والأجنبية، ما سمح له بتقديم رؤية شاملة ومتوازنة للأحداث، تعكس وجهة نظر الطرفين.

فصول الكتاب.. رحلة في التاريخ المنسي

يأخذنا الكتاب في رحلة شائقة ومثيرة عبر سبعة فصول، يستعرض من خلالها قصة الصراع بين أهل ظفار والغزاة البرتغاليين: يبدأ الكتاب بتمهيد يعرّف بإقليم ظفار العماني. كما أنه يمثل السياق العام للوجود البرتغالي، حيث يضع القارئ في سياق العصر، مستعرضًا الأوضاع السياسية والاقتصادية في منطقة بحر العرب بشكل عام، ما يُساعد على فهم الدوافع الأكبر للبرتغاليين وتأثير وصولهم على المنطقة.

يأتي بعد ذلك الفصل الأول المعنون بـبدايات الاستكشافات البرتغالية ودوافعها، ويتناول هذا الفصل الأسباب الحقيقية التي دفعت البرتغاليين إلى السواحل العربية والمحيط الهندي، ويكشف أن الدوافع لم تكن دينية أو تبشيرية فقط، بل كانت اقتصادية بالدرجة الأولى، حيث سعوا إلى السيطرة على طرق التجارة البحرية المربحة وكسر الاحتكار الذي مارسه التجار العرب لقرون طويلة، وهو ما يفسر تركيزهم على المراكز التجارية الحيوية.

أما الفصل الثاني (تداعيات الوصول البرتغالي على سواحل بحر العرب)، فيُحلل الآثار الأولية لوصول البرتغاليين، وكيف بدأت الموانئ والسواحل العربية تتحول إلى ساحات صراع؛ ما أثّر على حركة التجارة والأمن البحري في المنطقة بأسرها.

رسمة برتغالية لمزارعين من جنوب شرق الجزيرة العربية من خلال مخطوط كازاناتنس ( Códice Casanatense)

ويركز الفصل الثالث بعنوان الدولة الكثيرية والغزو البرتغالي، على القوة السياسية الرئيسة في إقليم ظفار آنذاك، وهي “الدولة الكثيرية”. ويستعرض كيف واجهت هذه الدولة التهديد الخارجي، وكيف كان سلاطين آل كثير يدركون خطورة هذا التهديد ويحاولون التعامل معه عسكريًا وسياسيًا، وسعيهم إلى كسب الدعم الخارجي في مواجهة هذا العدوان، والمتمثل في الدولة العثمانية، مما يؤكد أن المقاومة لم تكن عفوية، بل منظمة.

أما الفصل الرابع (الانطباعات والخلفية البرتغالية عن ظفار)، فيُعد من الفصول الفريدة في البحث، حيث يقدم رؤية من منظور الغزاة أنفسهم، فهو يكشف عن انطباعات البرتغاليين عن ظفار وخلفيتهم المعرفية حولها، والتي كانت تتسم في كثير من الأحيان بالغموض والخطأ بسبب اعتمادهم على روايات غير موثوقة بالكامل؛ ما يلقي الضوء على الفجوة المعرفية التي واجهوها، وناقش فيه الباحث بقراءة نقدية تحليلية لبعض تلك الانطباعات الخاطئة، ووضعها في سياقها التاريخي الصحيح.

الكاتب البرتغالي دوارتي باربوزا أحد رواد الكتاب البرتغاليين الذين قيدوا معلومات عن المنطقة

ويستعرض الفصل الخامس (الهجمات البرتغالية على ظفار) تفاصيل الهجمات والغارات التي شنها البرتغاليون على سواحل وموانئ ظفار، ويُحلل طبيعة هذه الهجمات ونتائجها، مُسلِّطًا الضوء على المقاومة الشرسة التي أبداها أهل الإقليم، والتي كانت سببًا رئيسًا في فشل هذه الهجمات.

وتناول الفصل السادس تحت عنوان تداعيات الوجود البرتغالي على ظفار، التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للوجود البرتغالي على الإقليم، خصوصا على الجانب الاقتصادي. ويكشف كيف أن الغارات المتكررة أدت إلى تراجع النشاط التجاري في الموانئ، وكيف أثرت أعمال السلب والنهب على الحركة الاقتصادية، ما أوجد حالة من عدم الاستقرار التجاري.

مدفع حديدي محمول اكتشف في منطقة البليد الأثرية يعود إلى فترة الوجود البرتغالي

أما الفصل السابع والأخير (الغزو البرتغالي في الذاكرة الظفارية) فيُقدم لمسة إنسانية وتراثية، حيث يستعرض الروايات الشفوية التي ما تزال حية في الذاكرة الشعبية، وتتحدث عن المقاومة البطولية ضد الغزاة، ما يبرز عمق هذا الصراع في وجدان أبناء المنطقة، ويُظهر أن التاريخ لم يُنسَ بل تناقلته الأجيال.

الخلاصة: فشل مخططات الغزاة وصمود الأبناء

يخلص البحث إلى نتائج مهمة، أهمها أن ظفار احتلت موقعًا مهمًا على خريطة الغزو البرتغالي، وأن البرتغاليين لم ينجحوا في إقامة موطئ قدم لهم في المنطقة، ليس فقط بسبب المقاومة الشديدة التي أبداها أبناء الإقليم، بل أيضا نتيجة للظروف الطبيعية القاسية مثل الأنواء المناخية. هذا الفشل كان له أثر كبير في تغيير السياسة البرتغالية، التي تحولت لاحقا إلى محاولة التفاهم مع القوى المحلية والتجار العرب، بعد أن أدركت أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي للسيطرة على هذه الأرض.

Your Page Title