أثير- تاريخ عمان
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
في عام 1928م بدأ التعليم النظامي في سلطنة عمان مع افتتاح المدرسة السلطانية الأولى في 27 فبراير، ودخول المناهج والأنشطة وطرق التدريس الحديثة التي أتى بها نخبة من التربويين الفلسطينيين تعاقدت معهم الحكومة لإدارة المدرسة، ومن أبرزهم الأستاذ والمربّي إسماعيل بن خليل الرصاصي الذي تولى إدارة المدرسة حتى إغلاقها في عام 1932م.
وقد اقتصر التعليم حتى افتتاح المدرسة السلطانية الأولى عام 1928م على التعليم التقليدي، المتمثل في تدريس الأطفال قراءة القرآن وحفظ بعض من آياته، وفي بعض الأحيان الكتابة، إضافة إلى تعليمهم أصول الفرائض كالصلاة والصيام ونحوهما.
ومنذ عهد السلطان تركي بن سعيد كانت هناك محاولات لإدخال التعليم شبه النظامي من خلال إنشاء عدد من المدارس التقليدية التي تركّز على تعليم النشء علوم الدين واللغة، وكان بعضها ملحقًا بمساجد مسقط، وتعتمد على عدد محدود من المعلمين، ومن أمثلة تلك المدارس: مسجد مدرسة الخور بجواربيت جريزة، وكان أول من قام بالتدريس فيها إمام المسجد الشيخ سليمان بن محمد الكندي، حيث كان يعلم القرآن الكريم وأصول الدين، وعلوم اللغة العربية، وفي عهد السلطان تيمور تولى التدريس فيها السيد هلال بن محمد البوسعيدي حتى إنشاء المدرسة السلطانية الثانية.
ومن بين تلك المدارس كذلك مدرسة الزواوي في مغب التي كانت تقع أسفل قلعة الجلالي، وكانت تدرس فيها مواد القرآن الكريم واللغة العربية، واستمر التعليم بها إلى أيام السلطان سعيد بن تيمور، وكذلك مدرسة الشيخ راشد بن عزيّز الخصيبي في بيته، حيث كان يستقبل عددًا من طلبة العلم، ويقوم بتدريسهم العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية.
وهناك مدرسة مسجد الوكيل مقابل بيت السيد نادر بن فيصل بمسقط، وكان يتجمع في المسجد عدد من طلبة العلم يقوم بتدريسهم الشيخ محمد بن شيخان السالمي، وممن درس على يديه السيد تيمور بن فيصل، والسيد نادر بن فيصل، ومدرسة بيت الوكيل مقابل بيت السيد شهاب بن فيصل كانت تدرّس فيها مواد القرآن الكريم والفقه والتوحيد واللغة العربية.
ومن ضمن المدارس كذلك مدرسة (بوذينة) وهو عالم تونسي كلفته الحكومة القيام بالتدريس لعدد من البنين والبنات في منزل استؤجر لهذا الغرض وأصبح يعرف فيما بعد بمدرسة بوذينة.
“أثير” تعرض في هذا التقرير جانبًا من سيرة أحد المربّين الذين كان لهم دورٌ مهم في تاريخ النهضة التعليمية الحديثة في عمان، ألا وهو العالِم والمربي التونسي الأصل محمد بن علي بو ذينة.
نشأته وطلبه للعلم
ولد محمد بن علي أبو ذينة في تونس، ثم انتقل إلى مكة المكرمة حيث تلقى تعليمه في الفقه والعلوم الشرعية على يد عدد من علمائها البارزين، وبعد استكمال دراسته، سافر إلى أبو ظبي وبدأ التدريس في مدرسة العتيبة التي أنشأها خلف بن عتيبة بجوار حصن حاكم الإمارة، وهو أحد أساطين تجارة اللؤلؤ في منطقة الخليج، وعاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتوفي في عام 1926م.
وكان من بين زملائه في هذه المدرسة: محمد الكندي اليماني، وإبراهيم بن عبد اللطيف آل مبارك الإحسائي، والشيخ عمر السالك “الشنقيطي”، كما كان ضمن هيئة التدريس فترة من الوقت الشيخ عبد الله الرستاقي، وكان عالمًا في العربية خاصة.

محمد بن علي بو ذينه وابنته زليخة. نقلًا عن كتاب عمان منذ الأزل
وفي عام 1910م، وقع خلاف بين القاضي محمد الكندي اليماني وحاكم أبو ظبي الشيخ طحنون بن زايد بسبب عدم تنفيذه لحكم أصدره في حق أحد أعيان أبو ظبي؛ ما أدى إلى اعتزال القاضي لمنصبه وانتقاله إلى دبي، وفي السنة التالية (1911م)، تم تعيين أبو ذينة خلفًا له في منصب قاضي أبو ظبي.
قدومه إلى مسقط
في نحو عام 1915م، قدم محمد بن علي أبو ذينة إلى مسقط في عهد السلطان تيمور بن فيصل، حيث انضم إلى الهيئة التدريسية في مدرسة الزواوي الواقعة في مغب أسفل قلعة الجلالي، وكان يدرّس فيها مواد: القرآن الكريم، واللغة العربية، والتاريخ، والجغرافيا، والحساب، والرسم.

المبنى الذي كانت به مدرسة بو ذينة. نقلًا عن كتاب عمان منذ الأزل
ومن الذين درسوا في مدرسة بو ذينة: السلطان السيد سعيد بن تيمور، والسيد شهاب بن فيصل، والسيد علي بن فيصل، والسيد مَلَك بن فيصل، والسيد عباس بن فيصل، والسيد هلال بن محمد بن فيصل، والسيد علي بن محمد بن تركي، والسيد سعود بن علي بن سالم، وعمر الزواوي، وسعود بن حارب، ومحسن الزواوي، ومحمد بن سالم الحربي، وخليفة بن محمد بن راشد، ومحمد بن سالم الغماري، وشهاب بن أحمد الشيخ، وجعفر بن عبد الرحيم، وناظم علي صادق، وغريب عبدالله، وعدد آخر من الطلبة.

صورة لبعض طلاب مدرسة أبو ذينة. نقلًا عن كتاب عمان منذ الأزل
وقد نصّت وثيقة صادرة عن القنصلية البريطانية في مسقط عام 1927م على أن عدد الطلاب الكلي في المدرسة بلغ آنذاك ستين (60) طالبًا وطالبة، موزعين على قاعتين دراسيتين. كما أشارت الوثيقة إلى أن 50% من المقررات الدراسية كانت مخصصة للمواد الدينية الإسلامية، وقد خصّصت حكومة مسقط ميزانية شهرية لتسيير أعمال المدرسة بلغت 137 روبية.
وفي عام 1928م، انتقل محمد بن علي أبو ذينة مع تلاميذه إلى المدرسة السلطانية الأولى، التي كانت قد افتتحت في شهر فبراير من العام نفسه، وكان أول مدير لها هو المربّي إسماعيل بن خليل الرصاصي، الذي تولّى لاحقًا عددًا من المناصب الإدارية والدبلوماسية في الدولة.

خبر افتتاح المدرسة السلطانية الأولى. جريدة الشوري، 26 أبريل 1928
ويذكر محمد بن راشد بن عزيز الخصيبي، وهو أحد تلاميذ مدرسة أبو ذينة، أن أستاذه كان يتّبع نظامًا خاصًا في العقوبات، يراعي فيه مستوى الطالب وسنّه، إذ كان يحرص على تهذيب طلابه وتربيتهم بما يتوافق مع أساليب التربية والتعليم المتّبعة في ذلك العصر.
اهتماماته:
كان للأستاذ محمد بو ذينة اهتمامات فكرية مختلفة، فقد كان من ضمن شخصيات مجتمع مسقط المعروفة في المحافل المختلفة، وجمعته علاقات بعديد من النخب السياسية، والاجتماعية، والفكرية العمانية.
ويذكر معالي محمد بن الزبير أن والده الشيخ الزبير بن علي آل جمعة كان يرتبط بعلاقة وثيقة مع محمد بن علي بوذينة، وجمعتهما اهتمامات فكرية متشابهة، بالإضافة إلى كونهما من نخَب المجتمع المسقطي وقتها، ومن القريبين إلى السلطان تيمور، وكان أبو ذينة يتردد على مجلس الزبير كل مساء حيث كان لثقافته وعلمه وحفظه وحسن أدائه حيّزًا كبيرًا في تلك الأمسيات، وكان محبوبًا من الجميع على الرغم من شدّته مع طلابه التي كانت تصل أحيانًا لدرجة القسوة.
وكان بو ذينة ضيفًا على الملتقيات العامة، أو خلال زيارات بعض الشخصيات المهمة، وأوردت جريدة (الشورى) في عددها الصادر بتاريخ 16 يوليو 1925م عند الحديث عن زيارة الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي إلى مسقط، أن الشيخ محمد مدير المدرسة السلطانية كان ضمن مستقبلي الزعيم التونسي عند وصوله.

خبر استقبال الزعيم الثعالبي في جريدة الشورى، 16 يوليو 1925م
ونقلت جريدة “الفيحاء” لصاحبها الصحفي قاسم الهمايوني عند زيارته إلى مسقط في عام 1926م أنه حضر وليمةً أعدها السيد أحمد حمدي القائم بأعمال مدير الجمارك، وكان من ضمن المدعوين السيد محمد أبو ذينة مدير المدرسة السلطانية.

جريدة الفيحاء العراقية، 1926
ولعل المقصود بالمدرسة السلطانية هي المدرسة التي أنشأها الأستاذ محمد بو ذينة كونها كانت تحظى بدعم من الحكومة، على الرغم من أنها كانت تمثل مرحلة انتقالية بين نظام التعليم التقليدي، ونظام التعليم الحديث، أما المدرسة السلطانية بمسماها فقد افتتحت في عام 1928م.
كما يذكر السيد محمد علي بوذينة في مخطوطه حول زيارة الزعيم سليمان الباروني إلى مسقط واستقبال المجتمع المسقطي له، وكان هو أحد المدعوين: “وما نزل بمحل إقامته حتى هرع إليه الوفود من كل الطبقات وفي مقدمة الكل صاحب السمو الأمير السيد نادر وأخو صاحب الجلالة، فقد كان في انتظاره مع أمراء العائلة السلطانية، ثم تتابعت وفود العلماء والأعيان يوميًا من البلاد القريبة من مسقط، وفي اليوم السابع أدّب سمو الأمير السيد نادر مادبةً فاخرة ملكيّة في قصره العامر دعا إليه الوزراء، وأمراء العائلة، وبعض الولاة والعلماء..”
كما عني الأستاذ محمد بو ذينة بمجال التأليف، حيث ألّف كتابًا منوعًا في عددٍ من الأجزاء بخطّ الناسخ عبد الله البشري من أهالي سداب ضمّنه أشعار العمانيين وغيرهم، وبعض الأحداث والقصص التي وقعت له بعمان، ومعلومات ثقافية عربية وعالمية، وتراجم لعددٍ من الشخصيات، توجد نسخته المخطوطة في مكتبة (بيت الزبير).

الصفحة الأخيرة من مخطوط أبو ذينة بقلم عيسى بن عبدالله البشري

تقريض شعري لمخطوط محمد علي بو ذينة

توقيع أبو ذينة وختمه
وفاته:
توفي الأستاذ محمد بن علي بو ذينة في حوالي عام 1928م بمسقط، وقد خلّف ابنةً واحدة هي زليخا التي عاشت لفترة في مسقط، وكانت إحدى طالبات مدرسة والدها.
ويذكر معالي محمد بن الزبير أن أبو ذينة قبل قدومه إلى مسقط كان في أبو ظبي وبالتحديد في مدينة العين، وقد تزوج من ابنه أحد كبار أسرة “الفهيم” المعروفة وأنجب منها ابنته “زليخا”، ولكن بعد مدة افترق مع زوجته وعاد بها إلى العين عند عائلتها، وظلت ابنته معه، وكانت تحضر مع بقية الطلبة للتعلم في مدرسته.
ويضيف معاليه: " حدث أنه قبل وفاة محمد بوذينة بشهرين تقريبًا عام 1928 وبينما كان الشيخ الزبير بن علي في زيارة إلى بيت بوذينة أن طلب منه مدّ يده، وعندما أعطاه الشيخ الزبير بن علي يده، إذ بالسيد محمد بن علي بوذينه يقول له: “زوجتك ابنتي زليخا على سنّة كتاب الله فقل قبلت تزويجها”، فأحرج الزبير وطلب منه التفكير في الأمر ولكنه أصرّ قائلًا " إنني أرى الموت أمام عيني وليس لي إلا هذه البنت وليس لها أحد من بعدي وأود أن أضمن لها زوجًا قبل وفاتي“، وهكذا تزوج الشيخ الزبير بن علي من زليخا على الرغم من صغر سنها، وبقيت عنده عدّة سنوات حتى طلقها عندما أتت والدتها وطلبت منه اصطحاب ابنتها إلى أبو ظبي، ولم تنجب زليخا أولادًا من الحاج الزبير.
وقد تزوجت زليخا فيما بعد من أحد أبناء خالاتها، وبقيت على اتصال وثيق بالعائلة في مسقط، وأتت عدّة مرات لزيارتهم وأقامت في بيت العائلة“.
ويبدو أن السبب في رغبة السيد محمد بوذينة في تزويج ابنته من الحاج الزبير هو شعوره بدنوّ أجله، وقلقه على مستقبل ابنته الصغيرة مع عدم وجود أقارب لها يتولون أمرها في مجتمعٍ غريبٍ عليها، فطلب من الشيخ الزبير بن علي الزواج منها كي يطمئن على مستقبلها، ولعلمه بشخصية الشيخ الزبير، وأنه خير من يكفل ابنته ويصونها. ولم يطل ذلك الزواج كثيرًا.

خبر وفاة الأستاذ محمد بن علي بو ذينة في جريدة الشورى
المراجع
- العتيبة.. مؤسس أول مدرسة في أبو ظبي، تقرير منشور في جريدة الاتحاد الإماراتية، 19 نوفمبر 2017.
- مجموعة مؤلفين. الموسوعة العمانية، حرف الميم، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، حرف الميم.
- العريمي، محمد بن حمد. الوالي إسماعيل، دار باز، سلطنة عمان، 2022
- العريمي، محمد بن حمد. شخصية عمانية بارزة: تعرف على أول رئيس مجلس وزراء في السلطنة، تقرير منشور في منصة أثير ، 25 سبتمبر 2021.
- لقاء مع معالي الوزير متقاعد محمد بن الزبير بن علي مستشار جلالة السلطان لشؤون التخطيط الاقتصادي.