أخبار

تساؤلات حائرة بعد زيارة لمُتحف بيت الأمان والأرشيف الوطني الزنجباري

زيارة متحف بيت الأمان

أثير- زاهر بن حارث المحروقي

يوم الاثنين السادس عشر من ديسمبر 2024م زرنا متحف “بيت الأمان” الذي يسمّيه البعض “بيت السلام”، وقد بناه السلطان خليفة بن حارب في عام 1925م بواسطة المهندس المعماري البريطاني جيه إتش سنكلير. يقع المتحف على طريق الخور في منطقة تسمى “منازي مموجا” وترجمتها “نارجيلة واحدة”، وهي التسمية نفسها لحارة في ولاية مطرح العُمانية، خلف سور اللواتيا مقابل الباب الصغير وملاصق لسوق الذهب؛ مّا يدل على أنّ التسمية جاءت من زنجبار.

ومتحف “بيت الأمان” عبارة عن مبنى مطلي باللون الأبيض بمخطط سداسي، مع نوافذ أرابيسك، وقبة مركزية كبيرة وست قباب أصغر، وهو يشبه مساجد “آيا صوفيا” في تركيا.

يبدو أنّ زوار المتحف قليلون، فلم نصادف أحدًا أثناء زيارتنا له. قدّم لنا المرشد - الذي انتظرْنا وصوله قليلًا - شرحًا عن مقتنيات المتحف، وأخبرَنا أنه أغلق فترة من الوقت، وأعيد فتحه في مايو 2024م بعد أن نُقلت بعض المقتنيات إلى “بيت العجائب”، ويقدّم المتحف للزوار - بمقتنياته - مزيدًا من المعلومات عن التاريخ والعادات في زنجبار، وضمن المعروضات بعض مقتنيات السلاطين العُمانيين وصورهم وبعض الهدايا التي أرسلت لهم من ملوك العالم. كما أنه يضم مجموعةً مميّزة من القطع الأثرية والكنوز التاريخية التي تقدّم لمحة عن التراث الثقافي الغني في زنجبار، مثل المنسوجات النادرة والرائعة، كالدشاديش و“الوزرة” و“اللواسي“، وكذلك الأثاث العتيق، وقطع زخرفية من عصر السلطنة، تعكس فخامة وعظمة ماضي زنجبار الملكي. كما يضم المتحف مجموعة من الآلات الموسيقية التقليدية التي كانت جزءا لا يتجزأ من التعبير الثقافي السواحيلي لأجيال.

ومن جميل ما شاهدنا المنحوتات المعقدة، بما في ذلك أبواب زنجبار الشهيرة، والتي تشتهر بتصميماتها المعقدة وأهميتها الرمزية، وبجانب المتحف يوجد متحف التاريخ الطبيعي الذي يقدِّم فكرة عن الحياة الفطرية والنباتات في الجزيرة، وقد اكتفينا بما شاهدناه في المتحف، لأنّ مقتنياته قليلة، فلم نكمل الجولة في متحف التاريخ الطبيعي، بسبب الرطوبة المرتفعة.

ومن الغريب أنّ المبنى بجماله لا يوجد به تكييف، لكنه على كلِّ حال يبقى شاهدًا على حُكم العُمانيين لزنجبار، ويحتفل هذا العام بمرور مائة عام على بنائه، حيث افتتح السلطان خليفة بن حارب رسميا يوم 11 نوفمبر 1925م.

كانت وجهتنا التالية الأرشيف الوطني الزنجباري. لم تكن الزيارة مُرضية من بدايتها؛ فحين نزولنا من السيارة وقفتُ أمام الأرشيف طالبًا من رفيقي سليمان المحروقي أن يأخذ لي صورة تذكارية، فقال لنا الحارس: “لا تصوّر قبل أن تدفع الرسوم”. دفعنا الرسوم، ودلفنا إلى الداخل. كان الاستقبال باردًا من رجل وامرأتين يعملون هناك. أردنا أن نشاهد ما يضمه الأرشيف من الوثائق العُمانية؛ فسألَنا الرجلُ بلغة عربية: هل تريدون إعداد بحوث؟!. أجبنا: “لا. إنما نود مشاهدة الوثائق من المخطوطات والصحف العربية ومراسلات السلاطين وغيرها”. قال: “لا بد أن تكتبوا طلبًا رسميًّا ونرفعه للمسؤول للموافقة”، لكنه بعد أخذ ورد، سمح لنا أن نشاهد أعدادًا من صحيفتَيْ “الفلق” و“النهضة” مجموعة في عدة مجلدات، مع منعنا من التصوير؛ فيما كان الرفيق الآخر سيف بن سعود المحروقي يكتب رسالة طلب للاطلاع على المراسلات السلطانية. بعد فترة عاد إلينا الرجل قائلًا: “إنّ المسؤول ليس هنا”.

كانت تلك حصيلة زيارتنا للأرشيف الوطني الزنجباري. خرجنا ونحن لا نعلم ما يضمه بين جنباته، فقد رأينا صناديق كرتونية كثيرة ومرقمة، مّا يدلّ على أنّ هناك الكثير الذي لم يمط اللثام عنه بعد، وبالتأكيد فإنّ تلك الوثائق والمخطوطات تحتاج لمعالجات دقيقة من قبل مختصين في علم الوثائق والأرشيف. كما أنها تحتاج لوجود خبراء صيانة وثائق، وهذا علم نادر لا يضطلع به إلا القلة من علماء الكيمياء على مستوى العالم لحساسيته وخطورته في الآن ذاته، وأظنّ أنّ طريقة التخزين والحفظ التي شاهدتُها لتلك الوثائق، لو استمرت لفترة طويلة بهذا الشكل، فسيجدونها تالفة بعد فتح تلك الكراتين؛ وقد اقترَحَ عليهم سيف معالجة تلك الوثائق إلكترونيًّا بالسرعة القصوى لضمان سلامتها، وسُعدنا عندما أبلغَنا الرجل بأنّ العمل جار الآن لتنفيذ هذا المشروع، وأستطيع القول إننا قد خرجنا من الأرشيف بخُفّيْ حنين، باستثناء بعض الصور الخاصة وأنا أشاهد مجلدات صحيفتَيْ “الفلق” و“النهضة“، وكنتُ أمنّي نفسي بأن أقرأ بعض التعليقات التي كان يُرسلها أبي لـ “الفلق”، كما ذكر لي.

يبقى أنّ الأرشيف الوطني الزنجباري (وهو في الحقيقة عُماني صرف) يتيح للباحثين والدارسين والمهتمين الاطلاع على جانب مهم من التاريخ العُماني في الساحل الشرقي لأفريقيا، ويمكن من خلال ذلك معرفة ودراسة مواطن القوة والضعف في هذا التاريخ.

ونحن خارجون من مبنى الأرشيف، تذكرتُ ما قاله لي الزميل الإعلامي والباحث إبراهيم اليحمدي عندما ذهب مع فريق تليفزيوني عُماني لتصوير ذلك المتحف، إذ لم يجد شيئًا ذا بال؛ فالكثير من الوثائق العُمانية اختفت، وذكر لي أنّه حتى المجلات والجرائد لم يجد منها إلا الأعداد القليلة التي لا يمكن أن تعطي الصورة الحقيقية لتلك الفترة الحية والمهمة في التاريخ العُماني، وتذكرتُ ما قاله لي صديقٌ من أنّ “أحد الخليجيين اشترى بطريقة ما مراسلات السلطان علي بن حمود بن محمد البوسعيدي كاملة بمبلغ زهيد جدًا”، وكما هو معلوم فإنّ السلطان علي كان له نشاط عالمي غير مسبوق، وكان له طموحات كبيرة وحاول أن ينشئ منظمة تُعنى بالتعاون الإسلامي، وزار في ذلك إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، وأجرى اتصالات كثيرة حول ذلك، واهتم كثيرًا بالتعليم والتعريب، مّا أدى إلى الإطاحة به من قبل البريطانيين، الذين كانت زنجبار خاضعة لسيطرتهم خلال فترة حكمه؛ وعلى ذلك فإنّ مراسلاته تلك تشكّل ثروة حقيقية لحقبة مهمة من التاريخ العُماني هناك، ولا ندري من المستفيد من ضياعها؟!.

وفي الحقيقة؛ فإنّ الراحل جمعة الماجد بذل من خلال مركزه الرائد للثقافة والتراث في دبي جهودًا في جمع التراث العُماني في زنجبار، حيث نسخ جميع موجودات المتحف الوطني الزنجباري وجمع كلَّ ما استطاع الوصول إليه وجعله متاحًا لكلِّ المراجعين من الباحثين والأكاديميين، إذ إنه استطاع أن يحافظ على البقية الباقية من مفردات ذلك التراث الكثيرة، وهو ما فعله كذلك الراحل السيد محمد بن أحمد البوسعيدي، إذ جمع بعض الوثائق والمخطوطات وأتاحها للباحثين.

كان سيف وسليمان ومرافقُنا في تلك الجولة أحمد المزروعي في حديث طويل ونحن عائدون إلى الفندق، وكنتُ أسمع أصواتهم فقط، بينما كان فكري قد ذهب بعيدًا إلى السؤال الحائر: أين هي كتب ومخطوطات العُمانيين في زنجبار؟ أين مراسلات السلاطين؟ أين الرسائل الخاصة التي كتبها العُمانيون في زنجبار لذويهم في عُمان والعكس؟ أين دواوين أشعارهم؟ أين وثائق أوقافهم؟ أين وصاياهم؟! سرح فكري بعيدًا ووصل ثانيةً إلى “المتوني” حيث عاش ومات ودُفن الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، وكنتُ أسأل نفسي: أين هي مؤلفاته الكثيرة؟ أين اختفت؟ ولماذا لم تر النور؟ أين هي الكتب التي أوقفها السيد حمود بن أحمد البوسعيدي لطلبة العلم في مساجده الثلاثة، ومن ضمنها كتب الشيخ ناصر بن أبي نبهان؟ أين أشهر مؤلفاته وهو كتاب “الحق اليقين” الذي ألفه في ستة مجلدات جوابًا على سؤال طويل يتعلق بقضايا العقيدة؟ أين كتاب “لطائف المنن في أحكام السنن”؟

سرحتُ طويلًا، وحلّقَت روحي وهي حائرة عطشى بعيدًا عن زنجبار، وعادت بي الذاكرة إلى عام 2006م حيث قرأتُ في منتدى “سبلة العرب” الإلكتروني، موضوعًا حول سرقة التراث القومي (ما يزال موجودًا في شبكة الإنترنت حتى اليوم) قالت التفاصيل فيه إنّ إحدى وزارات الدولة شكلت فريقًا من ثلاثة أشخاص عُمانييّن وهولندي (خبير) للذهاب إلى زنجبار لتتبع وجمع المخطوطات وأمهات الكتب، وجرت الاستعانة بالسفارة هناك، وبدأت رحلة التقصي، وتهافت العُمانيون على تقديم ما لديهم من أثمن المخطوطات ونفائس أمهات الكتب لتصويرها ثم إعادتها إليهم، وبالفعل جُمع ما يملأ ثلاث حقائب كبيرة، ثم شحنت لكن ليس إلى عُمان بل إلى هولندا؛ واختفى الخبير مع المخطوطات، وانتهت مهمة العُمانييَّن وعادا إلى أرض الوطن خاويَيْ الوفاض. كتبتُ حينها: “إنّ خبرًا كهذا كان يستدعي إجراء تحقيق كامل، ولكنه مرّ مرور الكرام ولم يُثر أية ردة فعل، ممّا يطرح تساؤلات كثيرة - إن كان الخبر صحيحًا - أولها لماذا لم يُلاحق الخبير الهولندي الذي (نصب) على القوم قانونيًّا وأنتربوليًّا؟ ولماذا تُرك له الحبل على الغارب ليحتضن هو وحده المخطوطات؟!.

لا يمكن بالطبع أن نتجاهل الدور الكبير الذي تضطلع به هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في جمع الوثائق العُمانية والحفاظ عليها، فهو دور كبير ونبيل ومجهود واضح تشكر عليه؛ وقد آن الأوان - كخطوة تالية بعد الجمع - أن يُهتمَّ بدراسة وتحقيق المخطوطات العُمانية بأيدي مختصين حتى يعرف العُمانيون تاريخهم وماضيهم التليد؛ ومن نافلة القول إنه عندما يعرف أيُّ إنسان تاريخه وماضيه تمام المعرفة سينعكس ذلك على سلوكه الشخصي وأخلاقه وتصرفاته في الحاضر والمستقبل.

Your Page Title