رصد - أثير
تحوّلت الأرقام التي نشرها “المنسّق الإسرائيلي” بشأن المساعدات الغذائية الداخلة إلى قطاع غزة إلى ما يشبه الوثيقة الرسمية الموقِّعة على جريمة التجويع الممنهجة، بعدما خضعت لتحليل رقمي ومنهجي قدّمه د. إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
فالأرقام التي أراد الاحتلال استخدامها لتصوير نفسه كجهة “إنسانية” جاءت في الحقيقة كاعتراف مباشر بأنه يمارس سياسة تجويع جماعي تشمل أكثر من 2.4 مليون إنسان، بينهم أكثر من مليون طفل يعيشون تحت الحصار والحرب.
يبدأ التحليل من ادعاء “المنسّق الإسرائيلي” بأن 1.4 مليون وجبة يتم توزيعها يوميًا في القطاع. هذه الأرقام، عند مقارنتها بعدد سكان غزة البالغ 2.4 مليون، تكشف فجوة صادمة؛ إذ يعني ذلك أن 58.3% فقط من السكان يحصلون على وجبة واحدة يوميًا، بينما يظل 42% من سكان القطاع، أي قرابة مليون إنسان، بلا أي وجبة إطلاقًا، وذلك وفق ما ورد في بيان الاحتلال نفسه.
أما الذين تصلهم وجبة واحدة يوميًا، وهي وجبة لا تتجاوز حدود الإغاثة الدنيا، فلا يحصلون إلا على الحد الأدنى الرمزي للبقاء على قيد الحياة. فالأنظمة الإنسانية تُقدّر حجم الوجبة ما بين 300 و500 غرام، وباعتماد متوسط 400 غرام فقط، يصبح مجموع ما يدخل غزة من الغذاء 560 طنًا يوميًا، بينما يحتاج سكان القطاع إلى 2400–2600 طن يوميًا من الغذاء.
وتُظهر هذه الأرقام أن الاحتلال لا يسمح بدخول أكثر من ربع الاحتياج الإنساني الحقيقي لسكان القطاع، أي أنه يتعمد إبقاء الأغلبية على حافة المجاعة.
أما فيما يخص الخبز، فيشير “المنسّق الإسرائيلي” إلى إدخال 3.5 مليون رغيف يوميًا، وهي كمية تبدو كبيرة للوهلة الأولى، لكنها عند تقسيمها على عدد السكان لا تمنح الفرد سوى 1.46 رغيفًا فقط في اليوم.
وحتى هذا الرقم، الذي يشمل الأطفال الذين يزيد عددهم على مليون طفل، لا يضمن الحد الأدنى من الطاقة التي يحتاجها الإنسان يوميًا، فضلًا عن الأطفال الذين يحتاجون إلى حصص غذائية أكبر وأغنى بالبروتينات والكربوهيدرات.
ويؤكد التحليل أن رغيفًا ونصفًا في ظروف نزوح وتعب وإرهاق وسوء تغذية لا يمكن أن يمثل بأي حال من الأحوال مستوى مقبولاً للغذاء.
وفي جانب الطرود الغذائية، يعلن “المنسّق الإسرائيلي” إدخال 270 ألف طرد غذائي خلال شهر نوفمبر “تكفي” لـ 1.3 مليون نسمة. لكن تفاصيل الحسابات تكشف أن كل طرد واحد مُخصص لما يقارب 4.8 أفراد، أي ما يعادل طردًا واحدًا لأسرة غزية متوسطة الحجم التي تبلغ عادة 5–6 أفراد.
ووفق ذلك، تحصل الأسرة الواحدة على طرد واحد فقط طيلة الشهر، وهو غير قادر على تغطية الاحتياجات الأساسية لأيام قليلة، فما بالك لمدة ثلاثين يومًا.
ويوضّح التحليل أن هذا النمط من توزيع الطرود ليس عشوائيًا، بل يعكس سياسة واضحة تقوم على تقنين الغذاء بشكل متعمّد ومنع دخول كميات كافية يمكن أن تمنح السكان الحد الأدنى من الأمن الغذائي.
ووفق د. إسماعيل الثوابتة، فإن خطورة هذه الأرقام لا تكمن فقط في حجمها الضئيل، بل في مصدرها ذاته؛ إذ إن “المنسّق” هو الجهاز العسكري الإسرائيلي المسؤول عن إدارة الحصار، وتنظيم المعابر، والتحكم بدخول وخروج الغذاء والدواء والوقود وكل السلع الأساسية.
وبذلك، فإن إقراره بهذه الأرقام يعني اعترافًا رسميًا بأن الاحتلال يتحكم بشكل مباشر في كميات الغذاء الداخلة ويقننها إلى حدود التجويع.
ويضيف الثوابتة أن هذه الأرقام تُظهر بوضوح أن الاحتلال يمارس سياسة تجويع جماعي ممنهجة تستهدف السكان في حياتهم اليومية، وتتناقض جذريًا مع الالتزامات المفروضة عليه بموجب قرارات وقف إطلاق النار والبروتوكولات الإنسانية الدولية.
كما يوضح التحليل أن الأرقام المنشورة تعكس استمرار الاحتلال في عدم الالتزام بشروط الهدنة الإنسانية التي تنص على السماح بتدفق المساعدات بشكل كامل وكافٍ للسكان.
فإدخال ربع الاحتياج فقط يُعد خرقًا واضحًا، يُضاف إلى منع الشاحنات لفترات طويلة وتشديد الرقابة وتقليل الإمدادات الغذائية، بما يؤدي إلى تعميق الأزمة الإنسانية وتوسيع دائرة الجوع وسوء التغذية في القطاع.
ويخلص د. الثوابتة إلى أن هذه الأرقام، التي خرجت من جهة إسرائيلية رسمية، تعدّ وثيقة تجريم صريحة بحق الاحتلال، وتكشف بوضوح مسؤوليته المباشرة عن حرمان السكان من الغذاء ومنع إدخال الكميات اللازمة لبقائهم.
ويؤكد أن هذا الاعتراف لا يترك مجالًا للشك في أن سياسة التجويع ليست نتيجة ظروف الحرب وحدها، بل هي استراتيجية متعمدة تستهدف كل فلسطيني في غزة من خلال التحكم في الطعام والخبز والطرود الغذائية.
ويشير إلى أن مليون إنسان في غزة لا يحصلون على وجبة واحدة يوميًا، وأن رغيفًا ونصفًا فقط هو ما يُقدَّم للفرد، وأن طردًا واحدًا شهريًا لكل أسرة هو السقف المسموح به.
وهذه المعطيات، كما يقول، تبرهن أن الاحتلال يعترف بأنه الجهة التي تتحكم بالغذاء وتمنع إدخال الكميات الكافية، وأن هذه السياسة تمثل استكمالاً للحصار الطويل المفروض على قطاع غزة، ولكن هذه المرة بصيغة أكثر وضوحًا وعلانية.
المصدر: صحيفة الرسالة الفلسطينية

