أثير – تاريخ عمان
سافر السلطان برغش بصحبة رجاله من لندن إلى بندر كاليس في اليوم الحادي عشر من جمادي الثانية (أيار) (16 جولاي 1875) وكان ذلك نهار الخميس، وكان في صحبته كذلك جرجس باجر الفقيه، والدكتور كيرك، ومستر كليمنت هيل، وحينما وصلوا إلى محطة جارين كروس، كان قطار سكة الحديد حاضرا، فركبوه، وساروا في كنف الرحمن حتى وصلوا إلى بندر دوفر الموجود في آخر جزيرة بريطانيا، ومنها استقل مركبا بخاريا اسمه فكتوريا، وهو أسرع المراكب البحرية بقوة بخارية تعادل 200 حصان ، وبعدما شيعهم الإنكليز ساروا بالسلامة، وطابت لهم الريح، وراق البحر، وبعد ساعة من الزمان وصلوا إلى بندر كاليس من بلاد فرنسا وقت الغروب فاستقبلهم الفرنسيون، وأكابر البلد، وكثيرون من العساكر، وطلبوا من سعادة السلطان أن يشرّف بلادهم، فأجاب طلبهم، وحال خروجه إلى البر، وأطلقوا 21 مدفعا إجلالا لسعادته.
وبعد أن قاموا بإكرامه ركبوا قطار سكة الحديد، وساروا إلى باريس، أما الرجال الثلاثة من الإنكليز الذين رافقوا سعادة السلطان إلى كاليس، فودّعوه، ورجعوا إلى لندن.
أما السيد برغش واتباعه، فوصلوا في اليوم الثاني عشر من جمادي الثانية وكانت الدولة الفرنسية أرسلت جوقا من العساكر وبعضا من أكابر الدولة لملاقاة سعادته، ولما نزل السلطان من جاري الدخان سلم عليه الفرنسيون، ورحبوا بقدومه، وكان رئيس الجمهورية الفرنسية المارشال مكمهون قد أرسل مركبته لسعادة السلطان وفرقة من الفرسان محاطة به من قدامه ومن ورائه.
ثم ساروا بالسيد ورجاله، وأنزلوهم في دار جميلة البناء وسيعة غاية الاتساع ذات طبقات عديدة ومزينة بالفرش الثمينة.
وبعد صلاة العصر وصل رئيس الجمهورية الفرنسية المارشال مكمهون لمقابلة السلطان، فسلّم عليه، ورحب بقدومه، ثم تقد وزير الخارجية أيضا وسلم على سعادته، وصارت الوزراء والأكابر، وأعيان الأمة الفرنسية يترددون على سعادته، ويهنئونه بوصوله إلى بلادهم بالسلامة حتى قضى كل نهاره في مقابلة الناس ورد السلام.
ولما أصبحوا ثاني يوم أتى رجال الدولة، وطلبوا من السلطان برغش أن يخرج في صحبتهم ليفرجوه على ما في بلدهم من التحف، فأجابهم وخرج في مركبته بصحبة وزرائه فساروا به إلى المدرسة الكلية الكبيرة (جامعة الصربون)، وهي دار وسيعة فيها محلات كثيرة للكتب والمعلمين وقيل أن فيها أكثر من 290000 كتاب منها 90000 مجلد بخط القلم، والبقية من المطبوعات بالإضافة إلى كتب قديمة بالقلم الكوفي، وغيره.
ثم ساروا به إلى دار التصاوير (متحف اللوفر) وفرّجوه على ما فيها من أعمال المصورين المشهورين، ثم دخلوا به إلى مخدع المسكوكات القديمة، ثم إلى دار الأسلحة القديمة والدروع التي كان الجنود يلبسونها في العهد القديم، ثم فرجوه على دار التماثيل الحجرية التي يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل الإسلام، وكانوا قد عثروا عليها في قلب الأرض، ثم ساروا به إلى دار الطباعة، وفرجوهم على طريقة طباعة الكتب، والنشرات، وطباعة قطع الورق بالآلاف، فشاهدوا آلة تقطع في ساعة من الزمن ثمانية عشر ألف طبق من الورق.
وبعد أن تفرجوا على كل هذا رجع السلطان إلى داره بالسلامة
في زيارة السلطان لرئيس الجمهورية الفرنسية المارشال مكمهون بقصر فرساي:
خرج السيد برغش في وزرائه نهار الأحد 14 جمادي الثانية (19 جولاي) يريد رد السلام على المارشال مكمهون المقيم في قصر فرساي، وحينما وصل السيد برغش للقصر لاقاه رئيس الجمهورية الفرنسية مكمهون بالعز، والإكرام، ورحّب بقدومه.
ويوجد في هذا القصر الجميل جنينة عظيمة ذات أشجار، وأزهار متنوعة، وأحواض فيها تماثيل من حجر منها ما هو على صورة بني آدم، ومنها ما هو على صورة حيوانات البحر ينفجر الماء من أفواهها، ويتساقط الماء على الدرج، ويظهر للناظر كأنه شلالات بحر النيل
ولما رجع السلطان من فرساي، وانتهى من زيارته راجعا إلى باريس، فرّجوه على دار الولاية أو قصر الدولة (قصر التويلري)، وهو قصر عظيم، وفيه نقوش، وزخارف كثيرة، وصور جميلة من بينها صورة الإيطالية كاترين دي مديسيس التي حكمت فرنسا، وأمرت ببناء هذا القصر بالقرب من نهر السين، وبالقرب من حديقة التوليري العظيمة الجميلة الأشجار والأزهار، وثوارات المياه، والتماثيل الحجرية، ثم فرّجوه على خزنة السلاح التي كان فيها من الأسلحة أصناف كثيرة، وبعد أن تفرّج السلطان على ما كان في القصر ساروا به إلى قبر نابوليون بونابرت الكبير، وهو بناء شامخ عليه قبة عالية مصفحة بالذهب، وبداخل المبنى تابوت من حجر الرخام المنحوت ضمنه عظام سلطانهم الكبير نابوليون الأول الذي قهر أعظم ملوك الإفرنج وله من العمر 21 سنه، وكان ينزل في مقدمة الجيوش في الحرب ويهجم على صفوف الأعداء بكل بسالة، وكان ذا عقل ثاقب وعلم واسع، فرض فرائض عادلة استسن بها اليوم دولة الإنكليز وباقي دول أوربا.
وما ذكره الأصمعي عن بسالة عنتر، وحماسته، وجرأته في معامع الحروب ما هو سوى نقطة في بحر بسالة نابليون، ولولا خيانة قوّاد جيشه وامرأته لما تمكن الإنكليز من قهره.
ثم فتح رجال الدولة الفرنسية بابا صغيرا كان بجانب قبر نابليون إجلالا لسعادته، وأدخلوه إلى مخدع لا يدخله أحد سوى الملوك، والسلاطين، وفرجوهم هناك على سيف السلطان نابليون وكمته، ونيشانه.
في فرجة سعادة السلطان على بستان الحيوانات، وغيره من أماكن بمدينة باريس:
ولما كان اليوم الثالث من وصولهم إلى باريس أتى رجال الدولة إلى السلطان، وطلبوا إليه أن يخرج في معيتهم ليفرجوه على بستان الحيوانات، فأجاب طلبهم، وساروا إلى البستان المذكور الذي رأى فيه جملة من الحيوانات المختلفة الأجناس.
ولما كان نهار الجمعة، فرّجوا سعادته على سرداب في بطن الأرض تجتمع فيه مياه المدينة التي تصعد إلى البيوت، والمنازل، وسرداب آخر تجتمع إليه فضلات المياه المستعملة في البيوت، ومن السيول، وغيرها ليسير فيه الماء، حتى يصب في نهر باريس.
وكان نزولهم إلى هذا السرداب من كوة صغيرة حتى وصلوا إلى السرداب، فركبوا مركبات من حديد يجرها بشر، تمشي على وجه العامد، والماء يجري من تحتها.
وبعد مدة طويلة نزلوا منها، وركبوا قوارب تجري على الماء في ذلك العامد، وكان للقوارب مصابيح يستضيئون بها في ظلام السرداب، وظلوا يسيرون بالسيد ورجاله في ذلك السرداب حتى خرجوا منه من طريق آخر.
ثم بعد ذلك ساروا بالسيد إلى ملهى اسمه شيركوس (السيرك)، وهو مكان تلعب فيه الخيل ومختلف الحيوانات التي طوعها لذلك، والرجال، والنساء، والأطفال، وبعدما انتهى السيد من الفرجة رجع، ورجاله إلى منزله بالسلامة.
في سفر سعادة السلطان من باريس:
طلب رجال الدولة الفرنسية من سعادة السلطان أن يطيل مدة إقامته بباريس ليفرجوه على جميع ما في هذه المدينة الجميلة من التحف العجيبة، ولكن السلطان كان عازما على الرجوع إلى أوطانه السعيدة، وقال لهم: ” بارك الله فيكم أيها السادات الكرام وحرس مدينتكم هذه من جميع الآفات، وأنها لعمر نعم المدينة، وقد صدق من قال إن باريس عروس الدنيا وتفوق جميع مدن العالم جمالا، وحسنا، وبهجة تقر عين الناظر برؤيتها، وتسر النفوس بحدائقها ومنتزهاتها، وهي نزهة الدنيا ذات أنهار جارية، ونافورات ماء نافرة وأشجار مثمرة قطوفها دانية وأزهارها نضرة وقصورها شامخة عالية، وطرقاتها معتدلة ساوية، فإذا لبث الإنسان فيها عمره بطوله لا يسلوها، ولكن مهمات المملكة تدعوني إلى الرجوع، وإني أشكر لكم مكارمكم العميمة، وأسال الحق سبحانه وتعالى أن يؤيد ملككم على دعائم العزّ، والإقبال آمين”.
ولما كان اليوم 22 جمادي الثانية (27جولاي) خرج السيد بعد صلاة العصر فشيعه أرباب الدولة وأكابر البلد إلى محطة سكة الحديد ورافقته العساكر الخيالة أيضا.
وقبل غياب الشمس بنصف ساعة قام قطار سكة الحديد من باريس، وسار بالسيد، ورجاله في كنف الرحمن الليلة بطولها، ولما أصبح الصباح بنوره الوضاح دخلوا مدينة ليون وصلوا الفجر فيها، ثم سافروا بعد نصف ساعة وصلوا مدينة مارسيليا بعد ست ساعات.
وكان رجال الدولة هناك قد بلغهم خبر قدوم سعادته، فخرجوا للقائه بفرقة العساكر الخيالة وأحاطوا بسعادته إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالزهر، والثمر، وساروا قاصدين المنزل المهيأ له، وكانت الدولة الفرنسية قد هيأت ترجمانا لسعادة السلطان.
ولما وصلوا الدار وارتاحوا من تعب السفر تواردت أرباب الدولة وأعيان المدينة وسلموا على سعادته.
ولما كان نهار الأربعاء 24جمادي الثانية(29جولاي) حضر أرباب الدولة إلى سعادته وطلبوا إليه أن يخرج في صحبتهم يتفرج على مدينتهم، فأجاب السيد طلبهم وخرج وساروا به إلى معمل السكر، وفرّجوه على طريقة تحليل السكر، وتصفيته بواسطة الآلات البخارية، ومن ثم ساروا به إلى محل المراكب.
وفي اليوم 25 من جمادي الثانية (30 جولاي) ركبا السلطان في مركب بخاري فرنسي، وشيعه جميع أرباب الدولة وأكابر البلد وسافر بالسلامة من مرسيليا.
ووصل إلى إيطاليا وتحديدا مدينة نابولي في 27 من الشهر (1اغسطس)، ومن ثم سافر منها السيد بعد الظهر، وتوجّه برجاله قاصدين مدينة الإسكندرية.
المرجع: تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار، تأليف زاهر بن سعيد، تحقيق أحمد الشتيوي، 2007، وزارة التراث والثقافة مسقط.