أثير – تاريخ عمان
أثير – تاريخ عمان
إعداد – نصر البوسعيدي
إعداد – نصر البوسعيدي
قصص كفاح العمانيين في مختلف العصور شاهدة على إصرارهم وقوة إرادتهم للوصول إلى أهدافهم، ولكم هنا أن نسرد قصة كفاح ذلك العماني في العصر الحديث الذي عاصر الفترتين أي فترة الخمسينيات والفترة الحالية التي يملأها بالذكريات منذ البداية وهو طفل وحتى هذا العمر الذي يروي فيه لأبنائه قصة كفاحه نحو المستقبل رغم كل الصعوبات التي واجهها في حياته.
إننا نتحدث هنا عن الدبلوماسي العماني المكافح محمد بن عمر بن أحمد عيديد الذي بدأ حياته في المدرسة السعيدية بمحافظة ظفار في الأربعينيات حيث تعلم على يد أساتذته محمد بايع شورت وحفيظ وربيع جمعان وعلي صالح المقيبل.
وبعدما أكمل دراسة الابتدائية خرج من المدرسة لمساعدة والده في أعمال الزراعة، لكن الحياة كانت حينها في كدر والزراعة لم تكن تكفي لإعالة العائلة، فطلب من والده السفر إلى الخليج للبحث عن مصدر إضافي للرزق.
سمح له والده بالسفر فتنقل من صلالة إلى مسقط ومن مسقط إلى البحرين ومن البحرين توجه إلى الدمام لوجود مجموعة من أهل عمان يقطنون في منطقة الخبر تحديدا في عام 1957م.
وعمل في الدمام في إحدى شركات الكهرباء موظفا بسيطا حتى حصل على وظيفة أفضل منها في شركة أرامكو برأس تنورة برفقة مجموعة من العمانيين، ولكن للأسف تم طرد كل العمانيين ومن يحمل الجواز العماني من السعودية بسبب اعتداء الأخيرة على الحدود العمانية وتحديدا منطقة واحة البريمي آنذاك، لذا توجه هذا الشاب العماني المكافح مباشرة إلى البحرين وهناك وجد رجلا من مهرة اليمن يبيع جوازات مهرية مقابل مبلغ مالي وذلك بغية تزوير الجنسية للدخول مرة أخرى إلى السعودية وفعلا تم له ما أراد.
وهناك عمل مرة أخرى في شركة متواضعة، ثم وبسبب نصيحة أحد أصدقائه الفلسطينيين تعلم الطباعة لينضم في الستينيات إلى الشركة المسؤولة عن السكك الحديدية التي كانت تحت إدارة الأمريكان وعمل فيها بوظيفة كانت بالنسبة له جيدة جدا من حيث الحوافز والرواتب، وحينما حدث الانقلاب على الملك أحمد في صنعاء ، فتح الانقلابون سفارتهم في الدمام وأصبح كل من يحمل الجواز المهري يمنيا وأتيح له الاستقرار ومواصلة التعليم المسائي لمرحلة الإعدادية والثانوية.
ولكن الحال لم يدم طويلا للأسف فلقد حدثت مشكلة جديدة بين السعودية واليمن، وتم طرد كل اليمنيين ومن يحمل الجواز اليمني من الأراضي السعودية!
ولحسن الحظ فقد كون صداقات جيدة جدا مع الأمريكان الذين أشرفوا على توظيفه وتدريبه في شركة سكك الحديد، واقترح عليه أحدهم بعد هذه الأزمة أن يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتحديدا إلى عائلته في لوس انجلوس، ورغم أن إجراءات السفر أخذت وقتا مملا من الانتظار بعدما سافر لملاقاة عائلته في عمان ينتظر انتهاء الإجراءات، سافر هذا الشاب العماني إلى الولايات المتحدة الأمريكية يحمل معه ألم المعاناة وتشرذم الخليج في تلك الصراعات التي لم يذق مرارتها سوى المواطن الخليجي نفسه الذي يقع دوما كبش فداء لكل صراع.
كان السفر إلى تلك البلاد البعيدة بدايةً من عمان وحتى البحرين، ثم وبواسطة الطيران الملكي الهولندي. وصل صاحبنا المكافح إلى لندن ومن هناك وعبر طائرة بو آي سي وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهو بسن السادسة عشر من عمره في عام 1959م بعدما تسلف قيمة التذكرة إلى أمريكا من صديقه البحريني محمد موسى.
وهناك في المطار حينما وصل للولايات المتحدة الأمريكية لم يكن يعلم كيف يتصرف فسأل رجلا هندي الجنسية المساعدة ليرشده إلى فندق بسيط ليقيم فيه، فكتب له رسالة وقال له خذها لباص النقل وأريهم المكتوب وسوف يأخذونك للقطار ومنها ستصل إلى الفندق بعد سؤالك في المنطقة عنه.
وفعلا اتبع التعليمات ووصل أخيرا إلى فندق بسيط له غرف مشتركة لكنه لم يستطع التأقلم في المكان وبعد سؤاله عن العرب أخبره أحدهم بأن يتوجه إلى حي يقال له بروكلن أو ديتريول وفيه الكثير من العرب وبخاصة من الجالية اليمنية.
وفعلا توجه بعدها مباشرة إلى الأحياء التي يسكنها العرب وبالصدفة وجد أحد المطاعم اليمنية والتقى هناك بمجموعة من العرب ومنهم أهل اليمن الذين رحبوا به كثيرا حينما علموا بأنه من عمان ويملك كذلك الجواز اليمني وهناك عرض عليه اليمني علي السلهوب الصنعاني مرافقته والسكن معهم في شقتهم التي يسكن فيها 6 من شباب اليمن الذين رحبوا به ووفروا له مكانا شاغرا ليقيم بينهم بكرمهم وحسن ضيافتهم.
ولقد نصح الصنعاني صديقه العماني بأن يبدأ الدراسة ليلا لتعلم اللغة الإنجليزية عبر مدرسة تسمى جيفرسون الثانوية وفيها الكثير من العرب يجتهدون لتحصيل اللغة الإنجليزية، وكذلك استطاع أن يساعده في أن يجد عملا في الفترة الصباحية عن طريق مدير يمني في أحد المصانع الأمريكية التي تعنى بصناعة المقاعد المخصصة لشواطئ البحر وفعلا بدأ هذا الشاب العماني الطموح عمله هناك بصناعة الكراسي براتب 50 دولارا في الأسبوع يدفع منها 20% للضرائب.
وبعد فترة انتقل للعمل في شركة متخصصة لصناعة الحبر برفقة الكثير من الاسبان العاملين في ذات المصنع وبراتب أفضل مع تطور كذلك لغته الإنجليزية بشكل جيد نتيجة مواصلته الدراسة الليلية في المدرسة المشار إليها أعلاه، وظل في مصنع الحبر لأكثر من 7 أشهر حتى أشار له صديقه الاسباني للانتقال سويا لوظيفة أفضل في المطار الكندي وبراتب أكبر وحينما ذهب بباص النقل برفقة الاسبان إلى شركة المطار عرض عليه أحد الاسبان وظيفة أخرى قد وفق بها في أحد المطاعم فوافق الشاب العماني على الذهاب لتلك الوظيفة حاملا معه اسم خوسيه الاسباني، وحينما قابل صاحب المطعم في منطقة أوستيرون سأله صاحب المطعم وهو مسلم من أصل تركي عن حقيقة أمره فقال له بأنه من سلطنة عمان وليس خوسيه الاسباني ، ومنها أخبره صاحب المطعم بأنه بإمكانه أن يستلم وظيفته من بداية الغد.
وبدأ العمل عند هذا الشاب العماني الطموح بالمطعم بوظيفة مضيف، وقد أعجب مديره بعمله وإخلاصه فبعثه لكلية الضيافة والطيران لكسب الخبرة أكثر وبالفعل تم له ذلك وكان من المتوفقين، وبعدها استطاع أن يكسب ثقة من عرف عنه وعن اجتهاده، فعرض عليه وظيفة مدير أحد أندية كبار الشخصيات الأمريكية، ثم انتقل للعمل لقطاع الفندقة كذلك كمدير للمكان الذي يشغله حيث أصبح مسؤولا عن فندق مكون من 75 غرفة ومطعم، ولكن للأسف وبسبب ثورة السود التي اجتاحت هذا الفندق اضطر هذا الشاب لترك العمل والهروب من تلك الاضطرابات بين السود والبيض في أواخر الستينات.
وهكذا ومنذ عام 1965 م كان يتنقل من وظيفة إلى أخرى مستفيدا من الخبرات التراكمية التي اكتسبها.
ورغم حزنه الشديد بوفاة والدته ومحاولاته الجادة للرجوع إلى عمان والدخول إلى صلالة عن طريق اليمن إلا أن كل ذلك باء بالفشل نتيجة رفض السلطان سعيد بن تيمور دخوله للأراضي العمانية دون سبب يذكر ومعروف، إلا انه لم ينكسر بل عاد مرة أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتبدأ مرحلة جديدة من حياته وقصة أول مطعم عماني في نيويورك.
بينما كان يتجول في شوارع نيويورك رأى بالصدفة مطعما جميلا ليهودي يدعى ديفيد شمعون معروضا للبيع فاتصل به لأنه كان يرغب بشراء هذا المطعم وسط نيويورك لكنه كان لا يملك سوى 1000 ريال ووصل أخيرا بعد مساومات إلى الاتفاق بأن يدفع لصاحب المطعم الـ 1000 ريال مقدما وفي كل شهر يدفع مثلها ، فتم الاتفاق واشترى هذا العماني الشاب المطعم واسماه ” واحة عمر ” وبدأ العمل مباشرة من اليوم التالي برفقة مجموعة من أصدقائه لترتيب المطعم الذي كان صغيرا وبعد أن طلب طباخا للمطعم أتاه طباخ مصري ماهر من النوبة تحديدا واسمه داود ، وبدأت فعلا بوادر نجاح المطعم بالأكل العربي الذي كان يميزه عن غيره في نيويورك بالإضافة إلى الوجبات الأمريكية السريعة ، ثم وظف امرأة سورية وكانت الأرباح جيدة والأقساط مريحة ، وبعدها تمكن من شراء سيارة خاصة للمطعم ، وبعد مدة قصيرة جدا أضاف لهم طاهية عربية من المغرب العربي وكانت تجيد طبخ وتحضير الأكلات المغربية المشهورة ، واشتهر المطعم لدرجة أن صحيفة نيويورك تايمز كتبت مقالا في صفحاتها عن هذا المطعم عن طريق الأمريكية المشهورة في عالم الطبخ واسمها جريجين، واشتهر أكثر بعد ذلك وأصبح من المطاعم التي يقصدها الكثير من سكان نيويورك.
وبعد ذلك وصلت شهرة المطعم حتى إلى موظفي الأمم المتحدة وكانوا يطلبون الطعام من المطعم للوفود الخليجية خاصة مما أسهم هذا الأمر في زيادة أرباح المطعم وشهرته الذي حول اسمه بعد ذلك إلى مطعم واحة عمان.
ومن أكثر الأمور سعادة لهذا الشاب العماني بأن المطعم وصل شهرته كذلك لمسامع جلالة السلطان حفظه الله الذي قرر زيارته في أول زيارة له لنيويورك، وكان حينها معالي عبد النبي مكي سفير السلطنة في الولايات المتحدة الأمريكية وأخبره بأنه مدعو لمقابلة جلالته الذي وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وفعلا تم اللقاء بين هذا الشاب وجلالته في فندق البليرهاوس ومن هنا أخبر عبد النبي مكي جلالته بأن هذا الشاب هو صاحب المطعم العماني في نيويورك، فأعجب جلالته بذلك ووعده بالزيارة قبل العودة إلى عمان قائلا له:
“سوف نأتي لنأكل من المطعم” وفعلا لبّى جلالته وعده وذهب للمطعم وهناك قال لهذا الشاب لا بد أن هذا المطعم سيكبر، وطلب منه الرجوع لعمان ومقابلته مرة أخرى، وبعد أيام رجع هذا الشاب إلى السلطنة وحاول جاهدا لقاء جلالة السلطان لكن المسؤولين حينها رفضوا أن يلاقوه بالمقام السامي رغم محاولات معالي يوسف بن علوي وكيل وزارة الخارجية حينها ولكن كل المحاولات باءت بالفشل.
ثم عاد صاحبنا إلى نيويورك ومطعمه المشهور الذي طوره كثيرا وكان حقا ملتقى للكثير من الدبلوماسيين العرب وكان الزحام على المطعم كبيرا طوال أيام الأسبوع.
وفي يوم من الأيام أتى إلى المطعم معالي يوسف بن علوي وجلس معه ليقنعه بالعودة لعمان فهي بحاجة شديدة لأبنائها والإسهام في بناء نهضة عمان بعهد جلالة السلطان وبأن الوقت قد حان للاستقرار والعمل في الوطن بما انه كان حينها بعمر الـ 29 عاما.
لقد استطاع معالي يوسف بن علوي إقناع الشاب للعودة إلى عمان والعمل بها لذا فقد قرر في عام 1980م ببيع المطعم، وبكى بعض الزبائن حينما علموا بذلك بعدما اعتادوا الأكل في مطعمهم المفضل 9 سنوات.
وبالفعل عاد هذا الشاب العماني الطموح لوطنه عمان ويحمل في روحه كل الأمل في أن يسهم ببناء نهضة عمان في العهد الزاهر وبدأ العمل في وزارة الخارجية، ثم عينه الدكتور يحيى بن محفوظ المنذري مسؤولا عن الملحق الثقافي في واشنطن للطلبة العمانيين الذين وصل عددهم حينها 80 طالبا موزعين في 30 ولاية أمريكية، وكان حينها سعادة السفير صادق جواد السفير العماني المعتمد في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد عدة سنوات عاد إلى عمان مجددا وعمل كنائب في الخارجية لمعالي يوسف بن علوي لمدة 8 سنوات وبعدها تم تعيين هذا الشاب المكافح سعادة محمد بن عمر بن أحمد عيديد سفيرا للسلطنة في جنيف كذلك لمدة 8 سنوات ومنها بدأ العمل الفعلي لسعادته في عالم الدبلوماسية بعد عناء سنين عجاف كافح فيها دون استسلام.

=======================
المرجع: كتاب منتدى الوصال، موسى بن عبدالله الفرعي، الطبعة الأولى 2017م، بيت الغشام للصحافة والنشر والترجمة والإعلان، صحيفة أثير الإلكترونية، سلطنة عمان
المرجع