تفاصيل رحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا سنة 1875م -الجزء الثالث

تفاصيل رحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا
تفاصيل رحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا تفاصيل رحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا

أثير – تاريخ عمان:

أثير – تاريخ عمان:

إعداد: نصر البوسعيدي

إعداد: نصر البوسعيدي

يتذكر القارئ العزيز نهاية الجزء الثاني من رحلة السلطان برغش إلى لندن والذي اختتمناه بلقاء الصحافة البريطانية بالسلطان، وتحديدا مع جريدة الديلي تلغراف والذي أجرى مراسلها لقاء ذكرنا تفاصيله في الجزء المنصرم، وهنا سنكمل لكم الجزء الثالث من رحلته لإنجلترا وتفاصيلها بما انه أول حاكم عربي يصل إلى أوربا في رحلة وزيارة لملكة بريطانيا.

في زيارة السلطان برغش للبرنس (أف ولس) ولي عهد إنجلترا

في 15 جون (يونيو) قصد السيد برغش زيارة ولي عهد الدولة البريطانية في موكب حافل، فاستقبله ولي العهد بكل حفاوة حيث قال السلطان لأصحابه ومحبيه الثقاة: ” حينما التقيت بولي العهد في مدخل الدار رأيت لوائح السرور، والبشاشة تلوح على وجهه الأغر فعلمت أنه يقابلني مقابلة ليست رسمية بوجه عبوس كعادة رجال السياسة، بل مقابلة ودادية وقلبية ، وحينما أحضر البرنس ولي العهد حضرة الأميرة قرينته المصون، وحضرة أخته الكريمة الأميرة ( أليس ) وزوجها الشريف ليسلموا عليّ ، غمر السرور قلبي بمشاهدتهم ، وازددت فرحا، وسرورا لما سألني ولي العهد إن كنت أحب أن أرى أنجاله المحروسين ، فقلت حبذا هذا فإنه تمام المرغوب ، فظننت أن ولي العهد يريد أن يحضر إلي واحدا من أنجاله، ولكن أخذ الفرح مني كل مأخذ لما رأيت أنجال الأمير واقفين أمامي كحور الجنان في حشمة، وكمال لا مزيد عليهما، ولا أستطيع أن أعبّر عن شعائر فؤادي حينما رأيت هؤلاء الأمراء الحديثي السن يقبلون والدهم واحدا بعد واحد بحنو غريب، ويعانقونه معانقة حلوة، وكان ولي العهد يمد ذراعيه الأبوية إلى أصغرهم ويرفعه عن الأرض ويطبع بشفتيه قبلة الحب الأبوي، فتحركت حينئذ شعائر الحنو في صميم فؤادي وكادت الدموع تطفح من عيني حنوا، فقلت في قلبي: اللهم بارك هذه العائلة السعيدة، واحفظ بيمينك العزيزة هؤلاء الأنجال المحروسين، وتضاعف سروري حينما جلس هؤلاء الحور إلى جانبي واحدا بعد الآخر بلطف وأنس وثقة تعهد في الأطفال الأبرياء، ولم يستغربوا منظر رجل أعرابي مكتسٍ بملابس عربية لم يشاهدوها عمرهم بطوله قبل ذلك الوقت، وكانت الحشمة والكمال قد ضاعفت محاسنهم وزينت أشخاصهم، وبعد أن تمليت من مشاهدتهم سألني ولي العهد: ما الذي سرني بلندن أكثر؟ فقلت في جوابي له: قد سررت غاية السرور بكل ما رأيته في مملكة جلالة الملكة، ولكن منظر أنجالك الأمراء المحروسين قد زادني سرورا لم أشعر به قبلا، فتبسم ولي العهد تبسما حلوا وقال: هذا من فرط لطفك وحبك أيها السيد الكريم، وقلت: كلا أيها الأمير وإنما قولي هذا قول جد، وقد انطبعت في مرآة عقلي صورة ما رأيته من منزلك العامر من السعادة ولطف أنجالك المحروسين ولا تزول هذه الصورة المحبوبة من عقلي، ولما رأيت بعضا من أنجالك مرتدين ملابس على زي ملابس البحرية ، خطر ببالي أن مجد الدولة البريطانية وعزها وفخرها قائم في حبها قوة الجندية البحرية حتى جعلت أنجال ملوكها يتوشحون بملابس البحريين ، والآن ألتمس من الحق سبحانه وتعالى أن يؤيد هذه الدولة ويطيل عمر جلالة الملكة والدتك الفخيمة ويحفظك عزا لأنجالك هؤلاء المحبوبين ويضاعف فرحك بهم ويجعلهم فخرا لك وللدولة البريطانية”.

في زيارة السلطان لبستان الحيوانات

صممت الدولة البريطانية على أن تعرض على سعادة السلطان أن يصرف بضع ساعات في الفرجة على بستان الحيوانات، فحضر رجال الدولة إليه نهار الخميس 17 جون (حزيران) والتمسوا منه أن يشرف ذلك البستان بزيارته إياه فسر بطلبهم وركب في معيتهم وذهبوا إلى البستان، فلما دخلوه أخذوا يفرجونه على الحيوانات بأنواعها متنقلين من محل إلى آخر، وقد سر السلطان بمشاهدة هذه الحيوانات وحسن ترتيب مساكنها ونظافتها وحسن الاعتناء بها بمعاشها.

وبستان الحيوانات بلندن حديقة كبيرة قد جمعوا فيها من كل أقطار الدنيا جميع أجناس الحيوانات البرية والبحرية وليس في باريس ولا في العالم كله بستان يحتوي على كل هذه الأجناس مثل هذا البستان والذي كان من مشروعات شركة تشكلت في لندن سنة 1826م وباشر أعضاؤها بصرف المال بسخاء حتى يجلبوا من جميع أقطار الدنيا كل نوع من الحيوان والطير والسمك غير المعهود في أوروبا ، وأنفقوا في بادئ الأمر 500000 فرنك حتى جمعوا نحو 1500 حيوان من أجناس مختلفة.

في زيارة السلطان لإدارة التلغراف والبوسطة العمومية بلندن

قصد السيد برغش الفرجة على إدارة البوسطة في 18 جون بعد الظهر، وكان الدكتور (كيرك) قنصل الدولة البريطانية في خدمته بمنزلة ترجمان، وكان شعب غفير من الإنكليز علموا من إشاعات الجرائد بقدوم سعادة السلطان إلى إدارة البوسطة، فاجتمعوا في الشوارع للسلام على السلطان، ولكن خابت آمال الكثير منهم بسبب عاصفة شديدة قصفت لندن وهطلت أمطار غزيرة أجبرت المتفرجين على الفرار.

أما السلطان وحشمه، فكانوا في عربة مغطاة سترتهم من صبيب الأمطار حتى وصلوا إلى باب إدارة البوسطة، ولا يخفى أن محل إدارة البوسطة بلندن، وهو من الأبنية العظيمة بناه الإنكليز سنة 1814م وفرغوا من بنائه سنة 1829م، وكان يدخل إلى هذه الإدارة نحو 60000 رسالة كل يوم سنة 1836م، ثم صار يدخلها 160000 رسالة كل يوم سنة 1842م، ثم صار يدخلها 375000 رسالة كل يوم سمة 1861م، وأما الآن (1875م) فيدخلها كل يوم نحو 500000 رسالة ونيف.

فلما وصل السيد برغش إلى باب إدارة البوسطة خرج إلى ملاقاة اللورد (جون مانرس)، ومستر ( اسكودامور ) وأدخلوهم أولا إلى مخدع أوائل الرسائل التلغرافية، فوقف السلطان في صحن هذه الحجرة الكبيرة وهو ينظر بسرور عظيم إلى 1000 شاب منصبين على ارسال الرسائل التلغرافية إلى جميع بلاد الدنيا بسرعة البرق ، وكان في رفقة سعادة السيد برغش ( زعيم الدين حمد بن محمد ) وقد تعجب كثيرا لما رأى واحدا من أولئك الشبان قد أرسل رسالة برقية إلى عدن واسترجع جوابها في برهة بضع دقائق يقول فيها مرسلها ما حرفتيه : الطقس في عدن صحو والريح خامدة.

ثم طلب اللورد (جون مانرس) إلى سعادة السلطان أن يخاطب بالتلغراف واحدا من رجال دولته بعدن فقال: ” استفهموا من وكيلي (قواسجي دينشو) ليعلمني ما عنده من الأخبار الواردة من زنجبار أخيرا؟

فلم تمر دقائق قليلة إلا وأتاه الجواب من الوكيل المومأ إليه يقول فيه: ما جد عندنا خبرا مهما نرفعه إلى سعادتك إلا الخير، واليوم أرسلنا رسائل سعادتك إلى زنجبار صحبة الباخرة (كوكونادة). فسر السيد غاية السرور بذلك وأثنى على مدير التلغراف وشكر له مكارمه.

ثم بعد أن تفرج السيد برغش على كل ما كان من الغرائب والنفيس في إدارة البوسطة، طلب إليه اللورد (جون مانرس) أن يحرر اسمه في سجل الإدارة، ففتح السيد برغش السجل المذكور، فرأى في وجه الصحيفة اسم شاه العجم واسم امبراطور البرازيل (دوم بيدرو)، فتناول قلمه وكتب في السجل: ” أنا السيد برغش بن سعيد دخلت دار إدارة البوسطة للفرجة في 17 جون (حزيران) سنة 1875م”.

في زيارة السلطان لقصر البلور

في اليوم الثاني عشر من شهر جون (حزيران) حسن بأعين الدولة البريطانية أن تستدعي السلطان إلى الفرجة على قصر البلور، الذي شيده الإنكليز سنة 1852م ودام بناؤه نحو سنتين، وسمي قصر البلور لكونه مشيدا على قوائم ودعائم من حديد مغطاة من أسفل إلى فوق بألواح من البلور السميك وطوله نحو 1095متر أي نحو ميل، وقد جمع فيه الإنكليز كل ما عندهم من التحف التي تستحق الفرجة، وفي قلب القصر مرسح (مسرح) لقيام الملاعب يسع نحو 5000 نفس.

فأصدرت الدولة البريطانية الأوامر اللازمة لتزيين القصر كالزينة التي تم أجراؤها في يوم زيارة السلطان العثماني (عبد العزيز أوغلو محمود) وخديوي مصر، وشاه العجم، وكان علم السلطان برغش يخفق في أعلى قبة القصر وعلى رأس الأرغن الكبير، وكانت طغرة زنجبار منقوشة في وسط العلم وفي قلبها كتابة بالقلم العربي ” يا فتاح “، فركب السلطان المركب وسار مع حشمه إلى القصر، وكانت جرائد لندن قد نشرت خبر زيارة السلطان لقصر البلور فاحتشد الناس من كل فج عميق لمشاهدة هذا السلطان العربي الذي شرف بلادهم فاجتمع نحو مائة ألف نفس ونيف من الرجال والنساء والصبيان أمام القصر، ولما وصل السيد برغش إلى القصر استقبله الشعب المتجمع بغاية الترحيب، وكانت الموسيقى العسكرية تصدح بالأنغام العذبة والجنود صفوفا في سلام سعادته، فدخل السيد القصر باحتفال عظيم وتوجه إلى مرسح ( مسرح ) اللعب واستوى على الملهى وكان فيه من المغنين نحو 300 صوت فغنوا أغاني مطربة عديدة بأشهر الأنغام الأوربية من جملتها غناء مشهور من أغاني الأوبرا الإيتليانية الذي مطلعه ” موسى بمصر ” ولشدة سرور السلطان بهذه الأغنية أمر بإعادة غنائها مرة ثانية، وبعد نهاية الغناء سار رجال الدولة بسعادة السلطان إلى ” رواق الملكة ” لتناول الطعام الفاخر المعد لسعادته، ومن ثم خرجوا إلى صحن القصر لمشاهدة ينابيع المياه وهي تطفح بألعاب مختلفة تفنن بها مديرو القصر.

وفي الساعة التاسعة من ذلك النهار صعد السيد برغش إلى مكان عال قد أعدوه له ليشاهد الألعاب النارية ابتهاجا بمقدمه، وكان من جملة النقوش التي رسموها بالبارود طغرة سعادة السلطان ” يا فتاح ” بخط عربي جميل فلما أشركوا النار بالبارود وظهرت كلمة ” يا فتاح ” بنور مختلف الألوان والأرناج فضج الشعب سرورا برؤية ذلك واستحسن السلطان غاية الاستحسان مهارة مستر (بروك) الذي رسم تلك النقوش بالألعاب النارية وأثنى عليه ثناء جزيلا، وبعد أن صرف السيد برغش نهاره بالسرور والطرب ورجع إلى قصره سالما غانما.

في زيارة سعادة السلطان برايطن

خرج السيد برغش في حشمه يريد الفرجة على مدينة برايطن وما فيها من الأحواض الحاوية جميع أنواع الأسماك وبرايطن مدينة ساحلية تبعد عن لندن نحو واحد وخمسين ميلا تقطعها سكة الحديد في برهة ساعة و25 دقيقة وفي سيرها تمر بقبو تحت الأرض اسمه (اكليتن)، ثم يلحق به قبو آخر تحت الأرض اسمه (ياتجم)، وهذه المدينة تعتبر من المنتزهات الإنكليزية يقصدها الناس أيام الصيف للتفسيح والاستجمام، وبها وأضحت ضاحية من أهم ضواحي لندن.

لما وصل السيد برغش إلى محطة سكة الحديد استقبله بعز وإكرام حاكم المدينة مستر (بريدجن) و (سار كروي بروز) ومستر (استيفن) ناظر شركة دار الأسماك واللورد (ويليم لينوكس) والشريف (هوم براون) وغيرهم من كبار الدولة وأعيانها، ثم ركب السيد في عربية مكشوفة وسار إلى دار الأسمال وكان الشعب يتقاطر للسلام على السلطان ويرفعون قلانسهم عن رؤوسهم ويرحبون بقدومه، ولما وصلوا إلى دار الأسماك، كان علم السلطان الأحمر يخفق عاليا فوق جدران تلك الدار وكانت العساكر الملوكية مصطفة في سلام السلطان، فدخل السلطان إلى دار الأسماك ويرافقه المعلم ( هنري لي ) الطبايعي (عالم الطبيعة ) وصار يشرح له عن طبائع وأنواع الأسماك، وعند مرور سعادة السلطان بأحواض السمك سر غاية السرور من سباع البحر وسمك كلب البحر الذي هجم على سرطان، وفيما كان سائرا من حوض إلى آخر سمع السلطان برغش بعضا من حاشيته يتكلمون بصوت جهير فالتفت إليهم بوقار ورزانة ملوكية ووضع اصبعه على شفتيه مشيرا لهم بأن يلزموا الصمت والهدوء.

وبعد فروغ سعادته من الفرجة على الأسماك استدعاه حاكم المدينة إلى مأدبة طعام، وبعد ذلك حضر المصور مستر (لمباردي) وصور سعادته بتصوير النور، ومن ثم طلب حاكم المدينة من سعادته أن يحضر إلى قصر الفرجة للاستماع إلى الأنغام الموسيقية العذبة، فأجاب السلطان طلبه وذهب برفقته إلى المرسح (المسرح) الملوكي بلندن وكانت تلك الموسيقى من أحسن الموسيقات التي تدق ترحيبا بالسلطان.

وفي ختام ذلك أهداه ناظر دار الأسماك كتابا يحتوي على تصاوير فوتوغراف فيها رسم دار الأسماك وما ضمته، وفي أثناء ذلك نهض (سار كوردي بروز) وألقى خطابا ترحيبيا بتشريف السلطان لذلك المحفل الجميل، وفي خاتمة الخطاب أوعز السيد برغش إلى صديقه المترجم (جرجس باجر الفقيه) أن يترجم شعائر سعادته وشكره كما يلي نصها:

“أيها السادات الكرام، ويا أيتها السيدات المصونات اللواتي زين هذا المحفل بجمالهن البديع قد كلفني سعادة السلطان أن أترجم لكم بالإنكليزي شعائر امتنانه من حسن مكارمكم وترحابكم بقدومه إلى هذا المحفل النضير فإنه قد سر غاية السرور من رؤياكم ورؤيا هؤلاء الأولاد الذين هم عز بريطانيا ومجدها المستقبل وقد سره أيضا منظر السيدات المخدرات اللواتي رحبن بقدومه غاية الترحيب، ولهذا وجب على سعادته أن يشكر لهن غاية الشكر ذلك على ذلك ويثني على جميع الحاضرين الذين خصوه بالعز والإكرام”.

ثم ختم باجر خطابه بقوله: ” قد احتشم السيد برغش عن إطالة الكلام فعلي أن أتبع مثال سعادته في الامتناع عن الإطناب في القول” ، فنهض ( سار كوردي بروز ) وقال في جوابه على خطاب الدكتور باجر: ” لا بأس إذا أمسك السلطان عن إطالة الكلام أما الدكتور باجر فلا يليق به أن يحتشم ويقصر في الكلام فإنه من أول علماء الإنكليز المتضلعين في اللغة العربية ” ، ثم أكمل حديثه شكرا للسلطان ومآثره لمساعدة تجار الإنكليز على توسيع نطاق التجارة والحضارة في افريقية الشرقية.

وللرحلة بقية…

==================

المرجع: تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار، تأليف زاهر بن سعيد، تحقيق أحمد الشتيوي، 2007، وزارة التراث والثقافة مسقط.

المرجع

Your Page Title