رصد-أثير
غيّب الموت الشاعر والأديب العُماني سليمان بن خلف الخروصي.
وُلد الشيخ الراحل في الحادي عشر من شعبان من عام 1351هـ الموافق لمطلع ثلاثينيات القرن العشرين، وكان الثاني في الترتيب للأسرة بعد شقيقه الشيخ سعيد بن خلف الخروصي. التحق ككاتب في المحكمة الشرعية بسمائل، كأول عمل يلتحق به في حكومة جلالة السلطان سعيد بن تيمور، وكطالب علم في جامعة عمان. وفي عام 1388 التحق للعمل في المحكمة الشرعية بمسقط، ككاتب بالمحكمة، وكمنسق قضائي بين النظارة وقضاة المحكمة، ومع فجر النهضة المباركة انتقل إلى وزارة المعارف، فالتحق بالهيئة التعليمية للمدرسة السعيدية بمطرح، التي حملت فيما بعد اسم مدرسة سلطان بن أحمد، كمدرس لمادتي التربية الإسلامية واللغة العربية.
وبعد أربع سنوات أي في عام 1974 انتقل إلى وزارة الإعلام، ومع تشكيل أول وزارة للتراث القومي والثقافة، وقع الاختيار عليه ليكون المتحدث الرسمي باسمها. وفي عام 1993 أصدر جلالة السلطان -حفظه الله- مرسوما سلطانيا ساميا بتعيينه كمستشار في مكتب مستشار جلالته للشؤون الدينية والتاريخية. ثم نال الثقة السامية بتعيينه عضوا في مجلس الدولة.
وكتب الشيخ حمود بن سالم السيابي مقالا عن الراحل رصدته “أثير” عنونه بـ ” آخر تلاميذ الإمام الخليلي وغريد افتتاح حصن الشموخ يلقي قصيدته الأخيرة” جاء فيه:
في كل فج يسلكه يكون البخور والعطر قيامة المكان.
وفي كل مجلس يغشاه تكون القصيدة السارية والراية والرمح والصولجان.
وما سلك الشاعر الكبير الشيخ سليمان بن خلف الخروصي طريقا إلا ومعه الفرزدق وجرير والمتنبي.
ولا تصدر مجلسا إلا ودنا منه الملك الضليل والنابغة و عمرو ابن كلثوم والبهلاني وسالم بن حمود وعبدالله الخليلي وهلال السيابي.
لم يكن بالطويل الفارع ومع ذلك كان الغيم أول قراء قصيدته.
ولا كان بالجسيم ومع ذلك يهتز لقوافيه جبل الشيبة.
امتشق سيف المجد لثمانية عقود فكان آخر تلاميذ الأمام الرضي الخليلي.
وكان شامخا فاختاره الوطن غرِّيد حفل افتتاح حصن الشموخ.
جالس أخاه السعيد في حصن سمائل فكان عضده ونديمه.
وزامل كبار علماء عمان في محكمة مسقط فكان عالما يطاول العلماء.
وصدح جرس المدرسة السعيدية مع إشراقات عهد النهضة المباركة فكان خير من يسكب أنهار العربية في الأسماع ، وخير من يلقن أبناء مطرح جمال الضاد وسحر البيان.
والتحق بالإعلام فأخرج كنوز الولايات إلى خزائن أول متحف وطني.
ونال الثقة السامية بتعيينه بمرسوم سلطاني كمستشار بمكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الدينية والتاريخية. واختتم مشوار حياته بتشرفه بالعضوية في أول تشكيل لمجلس الدولة.
لم يتصفح في حياته ملفات “جوجل” ومع ذلك كان موسوعة في الفقه والتاريخ والأدب والأنساب كما تجلى كل ذلك في كتابه الخالد “ملامح من التاريخ العماني” الذي أعيدت طباعته ست مرات وكتابه “الأمراء والشعر” وديوانه “قلائد الدهر”.
كان عين نخل بلا منازع وأمير آل نصير بلا جدال.
أينع زرع شاذون في شعره فتقاسم النخل والسفرجل والنارنج جواهر قصائده.
وتضاحكت الأفلاج في بوحه فكان لكل ساقية نصيبها من بحور الكامل والطويل والمجتث والمتقارب.
ولم يكن من المستغرب أن يستقبل صعيد شاذون أمير المكان في ليلة ماطرة ، فقد اعتادت بلداننا نضح الدروب بالماء في استقبال ضيوفها الكبار.
وحين انتصب هودجه في ظلال “البيت الشرقي” وبدأ الجمع تجهيزه راودني الشعور بأنه سيفتح عينيه وسيبتسم ، وسيوشوشني بآخر بيت ، فلولا أن الموت حق لما استحق هذا المسجى مثل هذه الرقدة وهذا الصمت .
وحين رأيتهم يبخرونه ويعطرونه كنت على وشك أن أصرخ في الذين يحرقون حطب العود تحت جسده : على رسلكم فهذا ليس ما يفضله.
وأقول للذين يدلقون قوارير العطر على الكفن : مهلا مهلا فهذا هذا ليس عطره.
وحين ألبسوه عمامته لم تعجبني طريقة التعميم فلم يكن ذلك ذوقه ولا أناقته.
هاهو الأمير النخلي الذي أحب عصر بني أمية لأن فيه الاخطل وبشار بن برد، وافتتن ببني العباس لانه عصر المتنبي وفراس الحمداني والشريف الرضي، هاهو يترجل عن صهوته ويغمد سيفه ويلقي قصيدته الأخيرة.
فيافوز شاذون وهي تستعيد كنزها ليسجى بجانب أخيه السعيد بن خلف في روضة السعداء وكأنهما على موعد مسبق ، فقد غادر الرضي السعيد في مثل هذا الشهر من العام الماضي وقد أفسح للرضي سليمان مكانا بجانبه يستعيدان عبير الخطوات ومشاوير الآباء ويتذاكران أزمنة الإمام الخليلي ورخاء النهضة العمانية.
يا لألم الفقد وأنا أرى من كانوا يشمون يديه قبل دقائق يتسابقون لنقله من سرير المستشفى إلى صندوق معدني ينتحب في المممرات.
ويا لتعس اللحظة وأنا أشهد من كانوا يدلقون على عمامته العطر قبل دقائق هم ذاتهم الذين يحثون على كفنه التراب.
ويا فوز صعيد شاذون وسجلها من الكبار الكبار الكبار يراكم أسماءه ونخبه ونجباءه.
ويا فداحة خسارتنا ونحن نفقد الأب الباسم وهو في غرغرة الموت ، والمعلم والموجه والمرجع الذي يغنينا عن ألف جوجل حتى آخر نفس وآخر إغفاءة.