أثير – تاريخ عمان
أثير – تاريخ عمان
إعداد : نصر البوسعدي
إعداد : نصر البوسعدي
مهما حاولنا الكتابة عن تاريخ جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله لن نوفيه حقه أبدا؛ لما يتمتع به من شخصية فذة قدم من خلالها الكثير لعمان وأهلها وللعالم أجمع برسالة السلام والحكمة التي يحملها في وقت أصبح فيه الكثير من الدول العربية متورطة في الصراعات السياسية التي أضحى ضحيتها الإنسان العربي والتنمية بشكل عام.
هذا القائد الحاكم الرابع عشر من أسرة البوسعيد الذي يعده الكثير من المؤرخين والمتابعين للشأن الدولي من أميز السلاطين الذين مروا على حكم عمان كحال ومكانة جده الأكبر السيد سعيد بن سلطان مؤسس الإمبراطورية العمانية.
ولد السلطان قابوس بن سعيد في 18 نوفمبر من عام 1940م، في صلالة بمحافظة ظفار لبان العالم وعطر التاريخ العماني، ويعد جلالته الابن الوحيد للسيد سعيد بن تيمور، وأمه هي السيدة ميزون بنت أحمد المعشنية التي تنتمي لقرية طاقة الساحلية.
ويقال بأن والده السلطان أطلق عليه اسم قابوس تيمنا باسم أحد حكام المناذرة القدامى في تاريخ العرب الذين يُعدُّون من أقدم الأسر العربية الحاكمة في المنطقة.
وقد تتلمذ جلالته في طفولته على أيدي معلمي المدرسة السعيدية الذين توافدوا لتدريسه في قصر الحصن بمحافظة ظفار حتى عام 1958م، ومن بعد هذا التاريخ وهو بعمر الـ18 عاما قرر والده ابتعاثه لإكمال الدراسة في بريطانيا ليستفيد أكثر من الحضارة المتقدمة في دول أوروبا ويستفيد كذلك من النظام العسكري الصارم الذي يعرف به الإنجليز.
لذا وفي بداية مشواره بإنجلترا تعلم لمدة عامين على يد الأكاديمي ( فيليب رومان )، وعاش السلطان قابوس مع عائلة أستاذه رومان في قرية ( فيلشام )، وقد تعلم من خلال معيشته معهم عادات العائلات الإنجليزية المحافظة، وكذلك أصبح يلازم جلسات مجلس (سافولك البلدي) ليكتسب الخبرة اللازمة من خلالهم عن كيفية العمل الحكومي في انجلترا، وخلال معيشته هناك تذوق بكل شغف حب الموسيقى الكلاسيكية والتي نراها اليوم ماثلة بكل أناقة في اهتمامه الكبير بإنشاء دار الأوبرا السلطانية لتنمية ذائقة المجتمع العماني اتجاه الموسيقى الكلاسيكية وتنمية التبادل الثقافي بين شعوب العالم بمختلف أطيافهم.
أما من الناحية العسكرية فقد كان السلطان قابوس تحت إشراف الرائد ( ليسلي تشونسي) الذي كان مقربا جدا من والده السيد سعيد بن تيمور، فقد كان مستشاره الشخصي في مسقط بعد تقاعده من الخدمة البريطانية عام 1958م، وكان شبيها جدا لشخصية وصرامة السيد سعيد بن تيمور لذا كانت علاقته للإشراف على السلطان قابوس تتسم بالجدية والاهتمام.
في هذه الأثناء التحق السلطان الشاب في عام 1960م، بالأكاديمية الملكية العسكرية (بساندهيرست) كضابط متدرب لمدة عامين، وبعدها انضم إلى ( الكتيبة الأولى بالكاميرونيان – البنادق الأسكتلندية ) بفوج المشاة والذي يعد أعرق الأفواج العسكرية بالجيش البريطاني، ومنح منصب ضابط ، ومنها انتقل للعمل في (ألمانيا) لمدة عام واحد.
وبعد أن أصبح برتبة ملازم ثاني، أمره والده السيد سعيد بالرحلة حول العالم ولمدة ثلاثة أشهر متواصلة ليزداد خبرة واطلاعا على نمط الحياة في أوروبا ودول العالم المتقدم برفقة الرائد الإنجليزي تشونسي ليشرف أكثر وبكل صرامة على الوريث الوحيد لحكم عمان ومراقبة تصرفاته في الرحلة وهو في عز مرحلة الشباب والمراهقة.
وبعد كل ذلك عاد السلطان قابوس إلى مدينة صلالة في عام 1964م، وتشير بعض المصادر التاريخية، إلى أن السلطان سعيد بن تيمور لحظتها وفي خضم ثورة ظفار حد من تحركات ابنه قابوس الذي اختفى عن الظهور إلا قليلا ببعض المناسبات النادرة مع والده مما أدى إلى أن الكثير وصف هذا الإجراء بالإقامة الجبرية، ولعل السلطان سعيد وبعد كل الضغوط عليه للتنازل عن الحكم في ظل الأوضاع السيئة لعمان كان يرى بأن ابنه ليس على أتم الاستعداد للحكم وإكمال مسيرة حكام البوسعيد في توحيد البلاد وحل نزاعاتها الداخلية.
استثمر السلطان قابوس في كل هذه الفترة التي أشرنا لها أعلاه وقته في الاطلاع والتفقه على يد العلماء وقراءة التاريخ وكتب الفلك والرياضيات واللغة العربية والطب والفيزياء وكل ما يتعلق بالمخطوطات العمانية أمهات المصادر في مختلف العلوم بالإضافة إلى اطلاعه الدائم على كل ما تكتبه الصحف العالمية التي كانت تصل للقصر.
كان الخطر الماركسي يتربص بعمان انطلاقا من اليمن وحتى ظفار لذا كان ذلك هو الخطر الأكبر على عمان نتيجة الصراع بين الثوار والسلطان سعيد بن تيمور الذي لم يسعفه الوقت كثيرا لالتقاط الأنفاس بعدما استطاع توحيد عمان وقطع يد الخطر الوهابي عن واحة البريمي وإنهاء دعمهم للثوار في داخلية عمان نهائيا في عام 1958م، واتخاذه الإجراءات المشددة جدا في إغلاق عمان عن أي عالم خارجي وتنمية حقيقية من تعليم وصحة وبنى تحتية بعدم الاستعجال باستثمار البترول لبناء البلاد والخروج من حالة الفقر وتردي الحال الذي أصاب جل أهل عمان.
ولا يعلم الكثير الاسباب الجوهرية الحقيقية لاستخدام السلطان سعيد بن تيمور هذا الاسلوب في الانغلاق بعمان بهذه الطريقة السلبية، فبعضهم يعزو السبب إلى أن موقف الدول العربية المضادة له في حربه الأولى مع الشيخ غالب الهنائي جعلته يدرك خطرهم وخطر انفتاح العمانيين مع دولهم التي تحرض عليه وبالتالي يشكل ذلك الخطر الأكبر لفقدان سيطرته وحكمه على عمان وتغذية التمرد ضده مرة أخرى.
لقد حاول الكثير من أفراد الأسرة الحاكمة مناقشة السلطان سعيد بن تيمور في هذه الأثناء لفكرة التنازل عن الحكم لابنه قابوس نتيجة عجزه التام عن إيجاد الحلول لحل أزمة الثوار في ظفار وتردي الأحوال المعيشية والاقتصادية والصحية في عمان، فكان يجيبهم دوما بقوله : “حين يكون جاهزا سيأخذها”.
وفي المقابل أخذ أفراد من الأسرة الحاكمة الاصرار على السلطان قابوس بالموافقة لتولي زمام الأمور والحكم لإنقاذ عمان والتضحية من أجل البلاد وأهلها، فاشترط عليهم بأن يصبح كل ذلك بشكل سلمي لا ضرر ولا ضرار فيه لوالده السلطان سعيد لمحاولة إقناعه بالتنازل عن الحكم كشرط أساسي لذلك وبطريقة سلمية.
كان الإحباط مستمرا وتردي الأحوال يتسع أكثر فأكثر حتى اتفق أفراد من الأسرة الحاكمة مع المستشارين الإنجليز الموجودين في الحكومة منذ فترات طويلة بمحاولة تنفيذ الخطة وإجبار السلطان سعيد بن تيمور على التنازل عن الحكم بعدما أحكموا بشكل مدروس تفريغ قصره في صلالة من بعض الموالين له ليتم بعدها بين بعض مرافقيه ومناصري التغيير شجار تم من خلاله اطلاق بعض الأعيرة النارية وأصابت إحدى الرصاصات قدم السلطان سعيد بن تيمور بالخطأ اصابة طفيفة مما أغضب ذلك ابنه السلطان قابوس حينما علم حتى تم طمأنته بأن الإصابة طفيفة وعن غير قصد ولم يكن مخطط لها أصلا، وبعد انتهاء هذا الحدث تم الأمر على أن يتنازل السيد سعيد بعد 38 عاما من حكمه لابنه قابوس الشاب ليحكم البلاد وينقذها من كل هذا الشتات نتيجة الحرب الأهلية وخطر الشيوعية بظفار التي أصبحت أول حرب بالوكالة بين الدول الكبرى في المنطقة العربية.
وبعدها مباشرة سافر السلطان سعيد بن تيمور للعيش في إنجلترا معتزلا العمل السياسي حتى وفاته في عام 1972م.
حينها تولى جلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في البلاد في 23 يوليو 1970 ، وأول ما فعله هو مخاطبة الشعب العماني في عام 1970م لطمأنتهم بقوله : ” إني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها، أيها الشعب سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب.
كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم، وإنني استحثكم الاستمرار في معيشتكم المعتادة، وإني سأصل إلى مسقط خلال الأيام القليلة القادمة وهدفي الرئيسي ما سأخبركم به.
شعبي وأخوتي كان بالأمس ظلام ولكن بعون الله غدا سيشرق الفجر على عمان وعلى أهلها، حفظنا الله وكلل مسعانا بالنجاح والتوفيق”.
بهذا الوعد بدأ السلطان قابوس حكمه في عمان وهو بعمر الـ 29 عاما بعدما استبشر أهلها به ليحكم البلاد بكل خير وسلام ويوحد عمان وينهي الصراع فيها بعدما كان يشرف بنفسه على أهم المعارك لدحر الخطر الشيوعي واستقطاب كل العمانيين للبناء والصفح الجميل، وهو من يردد دائما لكل معارضي والده سابقا بعبارة ” وعفا الله عما سلف ” وبحكمته وتسامحه وحزمه في المواقف التي تصب لمصلحة عمان أعلن الانتصار وإنهاء الشقاق نهائيا في عام 1975م، مع انفتاحه الرائع مع جميع الشعوب وحكام الدول ويستثمر بأفضل أساليب العصر ثروات البلاد الطبيعية والبشرية للبناء والتنمية ليتوحد أهل عمان مرة أخرى تحت ظل حكمه ويسيرون سويا نحو عمان الحاضر التي لا تحمل للعالم إلا المحبة والسلام بسياسة خارجية رصينة رسم معالمها وأدق تفاصيلها جلالة السلطان قابوس بن سعيد الذي يعرفه العالم اليوم بتسامحه وحكمته وعدم تدخله في شؤون الغير، ونبذه للحروب وكل ما يتعلق بالخصام ليجعل لعمان وشعبها مكانة خاصة لدى شعوب العالم أجمع.

**************************
المرجع: عمان فجر جديد المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، ليندا باباس فانش،ترجمة ناصر بن سعيد الكندي، مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية(2016م)، سلطنة عمان، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان.
المرجع