د. راشد بن علي البلوشي- أستاذ اللغويات المساعد بجامعة السلطان قابوس
في عام 1992، و في ندوة نظمها في نيويورك مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، صرح محلل سياسي يعمل في CIA بأن دول الخليج العربية ستنصهر في ثلاث دول كبيرة هي عمان و السعودية و اليمن مع حلول عام 2020 أو 2025 (كما جاء على لسان الدكتور عبدالله النفيسي)، وذلك لأن هذه “الدول الصغرى mini-states … لا تستطيع أن تتحمل التحديات الخارجية و التهديدات الخارجية، و لذلك من مصلحتها الانضمام لهذه الدول الثلاث الباقية الكبرى، عمان و المملكة العربية السعودية و اليمن. أما أن تبقى هكذا لوحدها، فستندثر”. https://www.youtube.com/watch?v=d0gDodtaeWI
بعد هذا التصريح، أدركت “بعض” الدول “الصغرى” في منطقة الخليج العربي، أو بالأحرى أنظمة هذه الدول، أنها عرضة لأن تكون جزءاً من غيرها في المنطقة إذا ما شهدت المنطقة و الإقليم تغيرات جيوسياسية دراماتيكية (نتيجة لصراع المصالح بين القوى الدولية و الإقليمية، أو لأي سبب آخر) تنزع منها السيادة و السيطرة على الأرض و الثروات في بلدانها. و طبعاً هذا دليل على ضعف الإيمان بالله و بأنه الوحيد المصرف للأمور و المدبر لشؤون خلقه، و ضعف ثقة بالنفس و بالشعوب و بالقدرات و بحسن التدبير، و قوة إيمان بالقوى الدولية بأنها من يرسم الخرائط و يصرف شؤون الدول و الشعوب، و بأن الشعوب لا تملك قرارها و لا سيادتها.
وربما كان السبب الذي دفع هذه الأنظمة “القلقة” لأن تؤمن بما تقوله القوى الدولية بخصوص مصيرها هو أنّ هذه الأنظمة أو الكيانات السياسية وُجدت أصلاً بإرادة هذه القوى الدولية أو غيرها، و ليس بإرادة شعوبها و وحدة ترابها و عراقة تاريخها و كونها كيانات سياسية تعاقبت عليه الدهور و الأزمان أكثر مما تعاقبت على القوى الدولية المنظِّرة. و ينم هذا الشعور أيضاً عن ضعف البصيرة و سوء التدبير. و ذلك لأنه إذا كان مقدراً لدول الخليج أن “تندمج” مع غيرها من دول الخليج في كيانات أكبر (بحسب الإيمان بما قاله المسؤول الأمني الأمريكي)، فإنه من الأفضل للدول الصغيرة في منطقة الخليج أن تزيد حجم التعاون و وتيرة العمل المشترك و الاتفاقيات الاقتصادية و العسكرية و الأمنية مع الدول الخليجية الكبرى لتحقيق أفضل النتائج للدول الست و شعوبها. و لكن بدلاً من ذلك، فإن هذا الشعور بفقدان السيطرة على الأرض و الشعب و الثروات دفع بعض الأنظمة “الصغرى” إلى الخوف على مصائرها، و بالتالي العمل على كل ما من شأنه أن يجعلها المركز في حالة التجمع المحتمل.
و لذلك، و بعد الشعور بالخوف من أن تصبح هذه الكيانات السياسية الصغيرة جداً و الجديدة نسبياً جزءاً من كيانات كبيرة قريبة منها (و خصوصاً تلك التي كانت تاريخياً تضمها!)، و لأن “بعض” هذه الكيانات السياسية (الدول) الصغيرة غنية بالثروات و مزدهرة اقتصادياً و لكنها في الوقت نفسه صغيرة من ناحية عدد السكان و ليس لها تاريخ مستقل و ليس لها علاقات جيدة مع جيرانها، فإن الخوف بدأ يعتريها من أن تكون الصيد الثمين القادم أو الكعكة التي سيتقاسمها اللاعبون الأكبر. و هذا ما دفع هذه الدول أو الأنظمة “المتخوفة” من الهجوم عليها لتبني سياسة الهجوم على غيرها من الجيران في المنطقة الخليجية و الأصدقاء في الشرق الأوسط (من باب “وسمها قبل عن تظلع”) و كذلك الدخول في تحالفات مشبوهة، و ذلك حتى لا تضطر هي للدفاع عن نفسها داخل حدودها و مصالحها في مرحلة متقدمة من الصراع الذي تنبأ به المسؤول الأمني الأمريكي، و في الحقيقة، ربما رسم و خطط له. بمعنى أنه كان بداية عملية التحكم عن بعد في مستقبل المنطقة و العلاقات بين دولها و شعوبها، و لكن “المتخوفين”، أو حديثي العهد بممارسة فن السياسة، بلعوا الطعم و بدأوا بالتلاعب بمصائر دول و شعوب المنطقة. و الجميع يعرف بأنه من السهل التحكم في الشخص إذا كان خائفاً، و لذلك استطاع المنظِّر الأمريكي أن يدفع القلقين على ما عندهم للتصرف بالطريقة التي ستؤدي إلى فنائهم كأنظمة، و بالتالي استيلاء القوى الكبرى على ما عندهم من ثروات، إما ببيع الأسلحة لهم (مستغلين حالة القلق) أو بتقاسم ثرواتهم حال انتهاء وجودهم كأنظمة سياسية (بحسب ترتيبات و اتفاقات روتينية). و ربما كان خوف بعض هذه الأنظمة من خسارة ما عندها نابعاً من إيمانها بأن ما لديها ليس أصلاً ملكها، و أنها استولت عليه بوضع اليد أو بالسيطرة على القرار السياسي أو باغتصاب السلطة في بلادها. و هو نفس السبب الذي يجعل الإسرائيليين، مثلاً، أكثر خوفاً من الفلسطينيين من أن يفقدوا ما استولوا عليه بالقوة و الغصب خلال قرن من الزمان، فكان التجييش الدبلوماسي و السلاح النووي و الجدار العازل، و غيرها من الترتيبات التي يمكن أن تحول دون عودة الحقوق إلى أصحابها.
فكانت ردة فعل الأنظمة المتخوفة هي القيام بالمؤامرات ضد الجيران و التدخل في شؤون الآخرين (و الذين هم في الأصل أشقاء في الدين و اللغة و التاريخ)، بغية إحداث تغيير يصب في مصلحة الأنظمة المتخوفة. و لن ندخل في تفاصيل هذه المؤامرات، حيث أن نشرات الأخبار اليومية و وسائل التواصل الاجتماعي و برامج التحليل السياسي مليئة بالأخبار و المعلومات عن بعض الأنظمة و الشخصيات التي يحركها الخوف من المستقبل، و بالتالي يدفعها لارتكاب الأخطاء و الحماقات، و لذلك فهي دائمة البحث عن الطرق و الوسائل التي يمكن أن تجنبها مصير التابع لغيرها، و هذه الوسائل هي، طبعاً ،المؤامرات و الدسائس و التعاون مع الخونة من الناس و المارقين من السياسيين و باعة الأوطان و سارقي التراث و مزوري التاريخ و المتآمرين على الأشقاء و مجرمي الحروب و فاقدي الهوية و المتكسبين من دماء الشعوب و مَن ليس لهم إلٌّ و لا ذمة و الذين لا يجدون حرجاً في تخريب الأوطان أو إسقاط الشعوب أو حتى التآمر على دينهم مقابل حفنة من المال، و كل ذلك في سبيل تركيع الآخرين و التحكم في مواردهم و ثرواتهم و مصائرهم. و لكنهم لا يعلمون أنهم بأفعالهم هذه إنما يعجلون نهاية أنظمتهم بما يقترفون من تجاوزات و جرائم في حق الآخرين. و لذلك فإنهم يصنعون من وضعٍ صعبٍ أصلاً وضعاً أصعبَ عليهم.
يقول المثل الإنجليزي ” (لا تهز القارب!) Don’t rock the boat”، بمعنى أن القارب أصلاً في وضع حرج و هو في عرض البحر تتلاطمه الأمواج، و لذلك فليس من حكمة في هزه! فكان الأجدر بهذه الأنظمة أن تأخذ بالأسباب من أجل استقرار دولها و ازدهار شعوبها و التعاون مع جيرانها و الترتيب بحكمة و كياسة لأي اندماج محتمل، و ليس أن تُقْدِمَ على الخطأ لتمنع المستقبل، حيث اختارت بعض الأنظمة المارقة التحالف مع الشيطان ضد أشقائها و جيرانها، فأصبحت مطايا لإبليس، تأتمر بأمره و تنتهي بنواهيه. يقول الله تعالى في شأن هؤلاء: “وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)”.
*صورة المقال من الإنترنت