فضاءات

جعفر سلمان يكتب: تأبط جهلا

جعفر سلمان يكتب: تأبط جهلا
جعفر سلمان يكتب: تأبط جهلا جعفر سلمان يكتب: تأبط جهلا

جعفر سلمان- كاتب وروائي بحريني

“أنا لست أنت” ، ” لست مقتنعا بكلامك”، ” لا أؤمن بما تراه ”

مجموعة من الكلمات التي حاولت أن أصد بها أحد الفضوليين ولم أنجح، شاب متدين ينتمي لإحدى الدول الخليجية شاهدني وأنا جالس أستمتع بتدخين سيجارة خارج معرض مسقط الدولي للكتاب، فقرر أن يأتي لينصحني محتسبًا أجره على الله.

بدأ حديثه بذكر مضار التدخين، ثم عرّج على لباسي غير الشرعي (جينز وقميص زهري اللون) لأن فيه تشبه بالكفار، ثم بدأ الحديث عن فيلم رعب اسمه (جهنم) التي أعدت لأمثالي ممن يمارسون الحرام (التدخين) وممن أصبحوا من الكفار (لتشبهي بهم)، ليهدأ بعدها ويمد لي يد العون لتخليصي من الشر الذي أحاط بي، من خلال عرضه إهدائي بعض الكتب، ومن خلال اقتراح بعض أسماء لمشايخ طلب مني متابعتهم والاستماع لمحاضراتهم.

حاولت أن أقنعه بلطف بأن المسألة تختلف عما يتصور بلا فائدة، فرجل لا يعرف ما هو (النيكوتين) لن يفهم مسألة فسيلوجية بسيطة اسمها (الإدمان) وصعوبة التخلص منه، ورجل لا يستطيع تصور أن هناك من يمكن أن يخالف ما يعتبره الحق، لا يمكن إقناعه بأنه يمكن أن يكون على خطأ، مع ذلك ورغم استحالة الموقف الذي كنت فيه إلا أنني بقيت أتعاطى معه بلطف وبابتسامة، فالشاب وللحق كان مؤدبًا ومحترمًا في طرحه.

في الأثناء مرت بنا امرأة كاشفة شعرها، ترتدي تنورة بالكاد تصل لركبتها، فنظر الشاب إلى الأرض، حرك رأسه يمينًا ويسارًا وهو يحوقل قبل أن يقول لي بأنها والعياذ بالله (حطبة) من حطب جهنم تسير على قدمين، لم أستسغ كلامه بالطبع، فذهبت أبحث في عقلي عما يمكن أن يفيدني في تبيان المشكلة التي يعاني منها.
كان بالقرب منا عمود معدني لإحدى المظلات المكسورة، فاسأذنته بسؤال افتراضي، هز رأسه موافقًا فسألته “لنفترض بأن لا مسؤولية قانونية عليك، فهل تستطيع أخذ العمود هذا وضرب تلك المرأة على رأسها ليسيح دمها فتكون عبرة لغيرها؟”


بدأ الغضب يتشكل على وجهه قبل أن يستغفر الله عدة مرات ثم يخاطبني لائمًا بسبب السؤال الذي اعتقد بأني سألته إياه بسبب مظهره، فقد ظن المسكين بأني سألته لأني أحسبه بلا قلب بسبب مظهره المتدين، فأخذ يجيب عن ما لم أسأل ويبرر ما لايحتاج إلى تبرير، يتكلم عن الرحمة التي تملأ قلبه، ويفصل في كيف أنه لا يستطيع ضرب امرأة، ثم عرج على شرح كيف أن المتدينين الحق لا يمكن أن يؤذوا نملة، وكيف أن الإيمان قد ملأ قلوبهم بالرحمة، فاستوقفت استرساله لأبين سبب سؤالي له بسؤال آخر … “وهل تعتقد بأن تلك الرحمة التي في قلبك هي أكبر من رحمة الله؟ كيف ترى رحمتك بالقياس على رحمة الرحمن الرحيم؟ وكيف رأيت أن الرحمة التي في قلبك والتي منعتك من ضربها هي أكبر من رحمة الله عندما قررت بالنيابة عنه إنه سيعذبها؟!”

طبعًا لم يُجب صاحبنا، لا هو ولا غيره عندما أجدهم أمامي يمارسون دور الله في الأرض، فلا أحمق من شخص تعدى على الله بأن أخذ مكانه، بل تقمص دور الإله وأخذ يهدد الناس بالنار التي لا يملك ويمنيهم بالجنة التي لا يعرف إن كان هو داخلها أم لا، طبعًا ولكي أكون منصفًا معهم، فأني أعتقد جازمًا بأنهم يفعلون ما يفعلون بحسن نية، وبرغبة جامحة في هداية الناس، لكن هذا لا يعني بأن فاقد الشيء يمكن أن يعطيه، فالجهل هو سيد الموقف هنا، والجهل لا يمكن أن يُنتج هداية، خصوصًا ذلك الجهل المتعلق بحقيقة وجود القناعات الصادقة التي تخالف توجهاتهم.

فعدد ليس بقليل منهم لا يستطيع رؤية المختلف، فالمختلف في نظرهم إما كذاب أشر أو جاهل، وذلك بسبب اعتقاد راسخ لا يرقى إليه الشك بأن الحق بيّن ومعرفته سهلة وبالتالي فإن كل من خالف ذلك الحق المتيسر الفهم ضال مضل لا محالة، أو جاهل لم يقرأ.

وهذه في الحقيقة مشكلة صعبة التفكيك، فهذا جهل من نوع خاص خارج التصنيف الذي قسم الجهل لقسمين بسيط ومركب، فهو جهل معقد، فالجاهل في هذه الحالة يجهل بأنه يجهل ويرفض أن يفكر حتى بأنه يجهل، فذلك الشاب مثلًا ومن خلال مناقشتي معه، رفض فكرة أن الشيوعية، الليبرالية والعلمانية ليست أديانا، فشيخه قال بأنها أديان وما قال الشيخ حق، وبالتالي قولي بأنها ليست أديانا يدل على ضلالي أو جهلي وكفى، دون أن يكترث لكل الكلام الذي قلت في شرح معنى تلك المصطلحات، بل ودون أن يعرف ماذا تعني تلك المصطلحات.

في الواقع لا يمكنني أن أضع نفسي في موضع الميزان، لأكون الحكم بين الحق والباطل، فلا أنا ولا غيري نستطيع التحكم في الناس لفرض ما نراه من الحق عليهم، فالناس أحرار حتى في جهلهم، فليمارسوه كما أرادوا طالما بقت تلك الممارسة في حدودها الشخصية من دون تطاول على أحد، بل لا أنا ولا غيري نستطيع التأكد والجزم مائة بالمائة بأن القناعات التي نسير عليها هي الحق المطلق، فهناك دائمًا احتمال خروج دليل ما للعلن ينسف بعض ما نعتبره حقا.

نعم من حقي ومن حق غيري ولو اختلف معي تبيان ما نراه حقًا، بل من واجبنا جميعًا قول الحق وتبيان الحقيقة كما نراها، ولكن من دون تهديد الناس بالنار، ومن دون فرض الأمر عليهم، فكما قال الانجليز في مثلهم الشهير، تستطيع أخذ الحصان للماء لكنك لا تستطيع إجباره على الشرب، بينما القوم يحاولون ومنذ زمن إجبار الناس على الشرب بل وتهديدهم بجهنم وسوء المآب إن لم يشربوا من جهلهم، وهذه في الحقيقة أم المشاكل ورأس الشرور.

لم ينتهِ ذلك اللقاء مع الشاب إلا بعد أن وعدته بأني سأقرأ كتابًا من الكتب التي اقترحها عليّ، فقد كان لحوحًا جدًا في طلبه، وبعد يوم لقيته أمامي مرة أخرى وقد تأبط أحد الكتب، فتذكرت الشاعر الجاهلي تأبط شرًا، وقلت له ممازحًا ..”لقد ذكرتي بتأبط شرًا”، ابتسم لي وهو يمد الكتاب وقال …”بل تأبطت خيرًا”، تناولت الكتاب وإذا بالعنوان يصف العلمانية بأنها دين، فابتسمت له وأنا أقول ..” اعذرني لقولي بأنك تشبه تأبط شرًا، لأنك بهذا الكتاب تشبه تأبط جهلًا”

Your Page Title