ما بعد جلجامش
قصص قصيرة
لعلي لفتة سعيد
محمد الهادي الجزيري
في النصّ الأول الذي اختار له الكاتب عنوانا مثيرا وهو” بعد أن رأى كلّ شيء ” وذكر جلجامش وأنكيدو وسيدوري المرأة التي أنسنت جلجامش ..وهذا الأخير سينسج معه حوارا حول الطغيان والخلود والرفق بالشعب الذي فاجأه الكاتب بلوح طيني يؤكد كره الشعب له فأصابت جلجامش الدهشة ..ثمّ استردّ أنفاسه وقال :
” لا يمكن أن يكون كلّ الحبّ الذي كنت أراه كراهية بعد حين ..أنا الملك الذي صيرته أمّه إلها فكيف لي أن أكون طاغيا …”
وخلاصة القصة أنّ الطغاة لا يرون الظلم والجور والقسوة التي تعانيها شعوبهم ..ما داموا يؤمنون أنهم غير عاديين ومخلوقين من طينة أخرى ومغايرة تماما.

ثمة قصة بعنوان ” اللوح الثاني عشر ” وضّحت المسألة فبعد القصص الأخرى التي سبقتها فهمت أنني أقرأ نصا واحدا متعددا ومختلفا ..يحاول الكاتب إعادة التجربة الرائعة والمستحيلة التي كانت لجلجامش ولكن هذه المرة نصيا ..يحاول أن يكون هو البطل والخصم والنتيجة والهدف في آن واحد ..ولعلّه أصاب في ما ذهب إليه ..فقصة أو ملحمة كالتي تبوّأها جلجامش والتي كتب عنها العديد من الكتاب ..تبقى حلم أي قاص أو روائي لكتابتها …وأنا سأقتطف مقطعا من هذه القصة لكي يكون كلامي مبرهنا ودالا:
” لم أكن مشغولا بكلامي أبي بقدر ما كنت مشغولا بما يدور في رأسي من أنني سأكون المنقّب والعاثر على الأثمن ممّا ضاع من ملحمة جلجامش ..هنا اختارني القدر أن أكون من يكمل ما نقص من الملحمة التي لا يعرف العالم أين اللوح المفقود، وها أنا يختارني القدر لأخترق هذا العالم المخيف الممتد بين مدن الجنوب لأتحرك دون مبالاة بما يمكن أن يخيفني متسلّحا بالقوّة والإصرار “
تمتد مجموعة ” ما بعد جلجامش ” إلى مائة وعشرون صفحة ..وتضم خمس عشرة قصة تصبّ في أغلب فقراتها في إعادة الملحمة..وقد نجح الكاتب علي لفتة سعيد في استجلاب وعيش التفاصيل التي أثرت فينا وفي معتقداتنا وفي تنوع ثقافتنا ..ولعلّنا مازلنا نحلم من حين إلى آخر بالبحث عن عشبة الخلود ..وأحيانا نكفّ عن بحثنا جرّاء الكوارث التي نعيشها ونتكبدها ..لقد صرنا نتمنى الموت مثلما قال جدنا المتنبي :
” كفى بك داء أن ترى الموت شافيا … وحسب المنايا أن يَكُنّ أمانيا “
كتب أحمد خلف نصّا كمقدمة لهذه المجموعة ( ما بعد جلجامش ) بعنوان : ” قصص تتجاوز الرمز إلى خلق الواقع ” وبعد أن عرّف بعلي لفتة سعيد وأسهب في إعطائه حقه في مجال القصة والرواية ..ونوّه بجهده المبذول لسنوات طويلة ..وتطرق في النهاية إلى مشكل القصة في العراق وفي الوطن العربي ..وممّا ورد في نصّه :
” هذه القصص ( ما بعد جلجامش ) تعيد إلى الأذهان ما قطعته القصة القصيرة من شوط في رحاب السرد القصصي العربي وقبله ساحة السرد القصصي العراقي، وهو شوط رحب رغم أنه كان عسيرا، وقد تعرّضت مسيرته إلى المزيد من الإنتكاسات والتوقفات بسبب الزخم السياسي الذي عمل ولفترات متعددة على شلّ حركة الحياة اليومية، إلا أنّ القاص العراقي تجاوز ما فعلته السياسة بإصرار كبير على مواصلة الرحلة الصعبة بتصميم من يمتلك قضية ومشروعا ثقافيا ومعرفيا لا مفرّ من الوصول إلى أراضيه الندية.