د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
ينطلق طرحنا للتساؤل من فرضية موقع التعليم في منظومة الحياة وبناء الدولة، ليشكل سياجا أمنيا وإطارا أخلاقيا يحفظ للوطن حدوده ويرعى حقوقه ويصون مبادئه ويسمو بأخلاقه، غير أن هذه الفرضية قد تتغاير في غاياتها وأهدافها، عندما تتقاطع توجهات التعليم وأولوياته وطموحاته وممارساته مع معطيات الواقع، ويتكرر الأسلوب الذي يدير به التعليم قضاياه، والإطار الذي تعمل فيه سياساته وخططه وبرامجه، فيتأخر في إنتاج الحلول وصناعة البدائل، ويخطئ في تقدير الخلل وتقييم المواقف ودراسة الواقع وتشخيصه أو رسم ملامح التحول واستشراف مستقبله، حتى تصبح الممارسة التعليمية نسخة متكررة لا تقدم جديدا ولا تستشرف تحولا ، فالتعليم يمجد التلقين ويستهوي التكرار ويؤمن بالتهميش والاقصاء للحلول والأفكار المجيدة، لا يتعدى رقمه أن يكون مجرد هدر للموارد البشرية والمادية والمعنوية، عندها يضيع التعليم في حلقات مفرغة تبحث عن وطن ، ومجازفات تطويرية غير مأمونة العواقب، تفتقر للمرجعية وتضيع في غياهب الاجراءات والبيروقراطية وشطحات الاجتهاد دون وجود جسر عبور يلم شتاتها أو مرجعية تحفظ تلاحمها، ليتحول التعليم في ظل التباينات التي يعايشها في الفكر والممارسة والتوجه، من دوره الإيجابي الداعم لمنظومة الأمن والمؤطر لفلسفتها والراعي لحدودها والمؤصل لأخلاقياتها، ليؤدي أدوارا مغايرة واختصاصات متباينة تفتقر لتكامل جزيئاتها، وهنا يمارس التعليم سلوكا مغايرا للطموحات يصبح فيه أحد مهددات الامن الوطني، وأحد مسببات عرقلة البناء الفكري للإنسان، فيضيع بالتالي هدف وجوده ، وأولوية اختياره، وفكرة حضوره في حياة المجتمعات، وطريق ممارساته وأولوياته، وتفتقد الممارسة التعليمية للمنهجية والتأطير السليم لها، ولفقه استشراف المستقبل والحدس به وفهم الواقع وقراءة المؤشرات وبناء الفكر الاستراتيجي النابع من عمق التجربة وأصالة الأدوات وكفاءة الفاعلين ، فالممارسة قائمة على الاجتهاد، والمسالة التعليمية تسير على البركة، وأهداف التعليم وقتية، سطحية تفتقر لمعيارية التطبيق، والاستراتيجيات تغرد خارج السرب، والقرارات الناتجة تعبير عن ردة فعل أو اختيار قسري لواقع مفروض عليه، والأدوات المستخدمة تفتقر للتجريب الفعلي وقد تتقاطع مع خصوية التعليم ، وعمليات التطوير والتحديث مجردة غير متناغمة مع فلسفة التعليم ، فهي حالة طارئة قائمة على ردود الأفعال الوقتية على الأزمات والاحداث، وكثرة التشويهات، معالجات وقتيه لا يدرك الطالب خلالها ما يراد منه ولا اين يذهب بتعليمه وما دوره ومسؤولياته.
وعندما تتنازع مؤسسات التعليم المسؤوليات وتتضارب على المهام والاختصاصات، وتتصارع في السباق على التنفيذ السطحي، الذي يفتقر لاهم سواعده وهي “الشراكة” وأعظم مؤسسيه وهو “المورد البشري”، فتبرز في النتائج فجوة النقص وسمة القصور في المعالجة، وضعف تمثل النتائج للواقع، والفاعلون الآخرون لا يعرفون ما يجري تحت الكواليس الا بعد تناول الصحف، وتداول منصات التواصل الاجتماعي لها، فيضيع موقع الطالب في الحالة التعليمية ، فهو الحلقة الأضعف المبعدة عن القرار، المرهقة بالتعليمات والنصائح وكثرة الأوامر، ومن عليه ثقل التنفيذ، ومن يتجه إليه الخطاب، ومن عليه أن يلتزم بالمسار التعليمي المحدد له والمفروض عليه، حتى وإن لم يوافق قدراته، أو يتناغم مع مهاراته أو يستجيب لرغباته أو تحدده نتائج سنواته السابقة في المدرسة والمعهد والجامعة ، عندها يصبح المتلقي السلبي المأمور بالتنفيذ، ليس له من حظ التعليم الا الحضور والانصراف والاستماع وحل الواجبات، وإحضار الكتب والكراسات، وقضاء يوم دراسي مستهلكاه قواه الفكرية وسلامة قواه الجسدية، في حين ان محور تعلمه غير واضح، وهدفه غير محدد، فهو يعيش حاله قلق غريبه حول المستقبل ، لا يستشعر في التعليم ذائقة الرغبة، ولا فضيلة استشعار الإرادة، أو حس الدافعية، ونبل الطباع وسمو الخلق، بل قد يمارس دور المكابرة والتمرد، غير مبال بما يفرضه التعليم من التزامات، إذ يرى في أعداد الباحثين عن عمل وأفواج قوافل الخريجين من مؤسسات التعليم العالي والمدرسي، مدخلا يقزّم فيه كل الأمنيات، ويضعف فيه دافعية النفس ورغبة الاجتهاد ، وحس التعامل مع الحالة التعليمية، وقد عزز ذلك سلوك الممارسين في ميدان الممارسة الصفية أو قاعة التدريس، التي تتجه إلى المتفوقين دون غيرهم وتحتويهم دون سواهم وتنهض بهم على حساب غيرهم من أقرانهم دون مراعاة لظروفهم ضاربا بمفهوم تكافؤ الفرص عرض الحائط .
والتعليم عندما لا يمتلك الجاهزية والاستعداد في التعامل مع التهديدات والتعقيدات النفسية والفكرية والاجتماعية والشخصية، فتراه ينسحب منها بدون سابق إنذار، ليترك الجيل في حيرة من أمره ووضع لا يحسد عليه، فيصبح فرصة للتأثير عليه، وإعادة هندسة أفكاره من جديد في ظل تواجد مفرط لمنصات التواصل الاجتماعي في حياته، والتي اصبحت تجره لكل ما هو جديد في عالمها الواسع والمثير، فتستبيح له ما هو مخالف غير معهود من حقوق الأوطان او سلبي ممقوت يتغاير وقيم الإنسانية ومبادئها، ولأن التعليم لم يوفر للمتعلم الممكنات، ويؤسس فيه دعائم الحوار والنقد والتحليل والقراءة والتقييم والتشخيص والتأني والحكمة ، لذلك أزاح عن أولوياته الافكار الناضجة التي تصنع فارقا له في اختبار المواقف، وهو في كل الأحوال، قليل الثقافة، سطحي القراءة، يكتفي بالعناوين للحكم على المحتوى دون فهم لما بين السطور أو استيضاح لما تعنيه من معلبات فكرية ، فأصبحت مناعته ضعيفة، وقوته في المقاومة هاملة، يعيش حالة من الخمول الفكري والتوهان الذهني، سريع التأثر بما يصل اليه او يتناوله اما سلبا او ايجابا فيقر كل شيء بدون تروي، ويعيد ارساله من غير مراجعة أو تحليل أو تصحيح.
هذه الثغرات البسيطة التي قد لا يدركها التعليم، إما تجاوزا منه لها، لوجود مؤثرات أخرى ومتغيرات متسارعة عالمية وإقليمية ووطنية قد أدخلتها عوامل كثيرة، يأتي من بينها ضعف الوعي الاجتماعي وغيره، أو تعمدا نظرا لعدم وضوح إطار العمل، وفلسفة الأداء، أو تناغم معادلة التعليم ( السياسات والتوجهات، والخطط والاستراتيجيات، والأدوات والبرامج والمشروعات)، فكانت النتيجة متوقعة، شخصيه استهلاكيه سريعة التأثير والانقياد، غير قادرة على فهم الواقع او امتلاك أدوات البحث والتحليل والقراءة والمراجعة والتقييم والتصحيح والمقارنة، فالتعليم لم يكن في أولوياته تصنيف هذه الموجهات وتأطيرها في واقع تعلم الطالب منذ سنواته الأولى، بقدر ما كان يبحث عن القالب السطحي في أفكاره ، حتى مع وجود مبادرات تعليميه للبحث والمنافسة والمناظرة والابتكار، الا انها حالات استثنائية وسلوك وقتي محدود للراغبين فيه، وليس مسلك تعليمي، او مسار يجب أن يدخل فيه الجميع، وما يعنيه ذلك من أن التعليم بدلا من أن ينتج أدوات القوة ويصنع الفارق، سوف تبرز في مخرجاته شخصيات تتقاطع مع مفهوم الامن، وتتعارض مع مبادى الوطن، وتختلف في توجهاتها مع كل ما يستهدف استقراره، وقد تحمل من الأفكار والقناعات ما يبعدها عن المقصد ويصنع فيها التنمر ويولد فيها مشاعر الخوف؛ فلا تعي معنى أن تكون آمنة مطمئنة، ولا تستسيغ قيمة الهدوء أو انتظار النتائج، وعندما تغيب ثقة المورد البشري بوطنه فيتجاوز حدوده، ويمارس دور الوصي عليه، أو أن يصنع من نفسه عنتر زمانه ، ولسان حاله يقول: أنا صاحب التغيير الذي لم يسبقني إليه أحد” ، أو أن تتعامل المخرجات مع منجزات الوطن باعتبارها حالة وقتية لامتصاص الشحنات السلبية وتسكين ثوران الألم وإسكات صوت الشارع؛ وعندها تبدا حالة الإخلال بالأمن الوطني، فتصبح الهوية والانتماء والولاء والمواطنة وغيرها محل لغط وتفسير، واختلاف مشين ونقاش حاد، ومشاحة عبر منصات التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتس أب للاجتهاد والرأي والاعتراض، والتفسيرات السطحية التي تحمل في ذاتها فجوة الاحتواء وضعف التأطير ونقص التدريب، وكأن خدمة الوطن مرتبطة بتسلسل هرمي من المطالبات والأجندة الذاتية، بالشكل الذي يٌدخل المجتمع في حالة من التباينات الفكرية العقيمة والاختلافات المرهقة في قراءة المفاهيم المتداولة والمصطلحات التي باتت تولد في ذهن الشارع الإساءة للأوطان بتجاوز القانون واختلاس المال العام والالتفاف على القيم والاخلاقيات والعبث بمقدرات الوطن والإساءة إليها والزج بها في صراع المصالح الشخصية والهفوات الفردية وشراء الولاءات.