فضاءات

سعيد العمري يكتب: مشهد من الذاكرة مع السلطان قابوس بن سعيد

صحفٌ عالميةٌ تتحدث عن رحيل أعز الرجال وأنقاهم
صحفٌ عالميةٌ تتحدث عن رحيل أعز الرجال وأنقاهم صحفٌ عالميةٌ تتحدث عن رحيل أعز الرجال وأنقاهم

 

سعيد بن خالد بن أحمد العمري – باحث في التاريخ العماني

 

عندما تلتقي بشخص ما عزيز القدر أو رجل ذي مكانة ومقام يظل ذلك اللقاء عالقًا في الذاكرة، فما بالك أن تلتقي بحاكم البلاد المغفور له بإذن الله صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ، سيظل ذلك اللقاء مشهدا جميلا محفورا في العقل والوجدان بكل تفاصيله ولو كان لحظيا عابرا .

كنت وقتها في الصف الثالث الابتدائي 1983م، خرجت للعب مرتديا بزة عسكرية كان يجلبها العائدون من أداء فريضة الحج هدايا للأطفال آنذاك ، في ذلك اليوم زار مرباط المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد، كان موكبه يجوب الطرقات والأحياء وكان الأولاد يركضون خلفه في فرحة غامرة ، والكبار يقفون لإلقاء التحية والسلام على السلطان، والنساء يغردن من الأبواب والنوافذ ، والجميع يصفق ويهتف “يعيش قابوس يعيش قابوس” ، وجلالته رحمه الله ينثر فيوض كرمه على الصغير والكبير .

فجأة توقف الموكب السامي، ونظر جلالته رحمه الله إلى الأولاد المتجمهرين على مقربة من سيارته ، وأشار إلى واحد من بينهم أن يتقدم إليه ، تقدم أحد الأولاد لكنه أشار إليه بالرجوع ، لم يكن هو المقصود ، ووجه سبابته باتجاهي، نظرت في دهشة يمينا ويسارا إلى من حولي من الأولاد ثم نظرت إليه ، فأومأ برأسه وكأنه يقول : ” نعم أنت، تعال ” ، تقدمت إلى المرسيدس الزرقاء وعيني على السلطان وكأني في حلم ، وفي خطوات وقفت أمامه مباشرة ،،
سألني : ” ايش اسمك؟ “.
أجبته : ” سعيد ” .
سألني مرة أخرى : ” تدرس؟ ” .
قلت : ” نعم” .
قال : ” في أي صف ” .
قلت : ” في ثالث ابتدائي” .
سأل : ” من جاب لك هذه الملابس؟ ” .
قلت : ” جدي جابها هدية من الحج ” .
هز رأسه وقال : ” طيب ارجع البيت وغير هذه الملابس والبس ملابس عمانية ، دشداشة أو قميص ووزار .. زين؟ ” .
قلت : ” زين ” .
ابتسم وحرك سيارته وخلفه الموكب، ومن خلفهم ضحكات الصغار فرحين بما امتلأت به جيوبهم من العطاء الكريم، أما أنا فركضت فورًا إلى البيت أخلع البزة العسكرية منفذًا أمر السلطان ، ” ملابس عمانية ، دشداشة أو قميص ووزار ” ! .


سألني : ” ايش اسمك؟ “.


أجبته : ” سعيد ” .


سألني مرة أخرى : ” تدرس؟ ” .


قلت : ” نعم” .


قال : ” في أي صف ” .


قلت : ” في ثالث ابتدائي” .


سأل : ” من جاب لك هذه الملابس؟ ” .


قلت : ” جدي جابها هدية من الحج ” .


هز رأسه وقال : ” طيب ارجع البيت وغير هذه الملابس والبس ملابس عمانية ، دشداشة أو قميص ووزار .. زين؟ ” .


قلت : ” زين ” .


ابتسم وحرك سيارته وخلفه الموكب، ومن خلفهم ضحكات الصغار فرحين بما امتلأت به جيوبهم من العطاء الكريم، أما أنا فركضت فورًا إلى البيت أخلع البزة العسكرية منفذًا أمر السلطان ، ” ملابس عمانية ، دشداشة أو قميص ووزار ” ! .

بكل تأكيد كان السلطان طيّب الله ثراه مدركا أن مثل تلك البزة كانت مجرد هدية يجلبها الحجاج العائدون مع هدايا وألعاب مختلفة للصغار، ولم تكن الشعارات المرسومة عليها لدولة أخرى هي ما استوقفه واستفزه كما فسر البعض حينها ، وأظن أن هذه المسألة غير ذات بال لديه .

كان هدف السلطان رحمه الله من هذا التوجيه تعزيز وترسيخ قيمة المواطنة والانتماء لدى أبناء شعبه لا سيما الجيل الناشئ ، ورسالة أيضا للمجتمع وتوجيهه نحو ذات الهدف ، وهي التمسك بقيم الوطن وثوابته مظهرا وسلوكا وأسلوب حياة ، من أعلى مراتب الدولة إلى أبسط شؤون المجتمع حتى ولو كانت في ملابس طفل صغير! .

هذه القصة رغم بساطتها وهذا الموقف الذي حدث لي مع السلطان رحمه الله وغيرها من القصص والمواقف المشابهة التي حدثت لآخرين مع جلالته تصب كلها في قالب واحد؛ عمان أولا قلبا وقالبا ظاهرا وباطنا ، والانتماء أساس البناء .

والمتفحص في خطب جلالة السلطان قابوس رحمه الله وكلماته الموجهة إلى الشباب العماني تجدها تحث على ” المحافظة على كرامة هذا البلد واستقلاله على قواعدنا الإسلامية وتقاليدنا وعاداتنا العُمانية العريقة الموروثة من أجدادنا الأمجاد “ / [ خطاب العيد الوطني الثالث عشر، عام الشبيبة 1983م ] ، وهكذا كانت رغبة جلالته رحمه الله : ” نريد لشبابنا أن يتسلح بالثقافة العمانية ويعتز بتراث بلاده ويحرص على دينه وتقاليده “ / [ خطاب العيد الوطني السادس، 1976م ] .
لأن ” الشباب في كل أمة هم أملها الواعد، وذخيرتها للمستقبل، وبقدر ما يولون من عناية ورعاية، وتوجيه وتثقيف،‏ وإعداد وتأهيل، وإذكاء لروح الانتماء الوثيق للوطن في نفوسهم، يكون عطاؤهم وبذلهم، وتفانيهم وإخلاصهم، وتضحيتهم وإيثارهم “ / [ خطاب العيد الثاني والعشرين، 1992م ] .

” نريد لشبابنا أن يتسلح بالثقافة العمانية ويعتز بتراث بلاده ويحرص على دينه وتقاليده “ /


” الشباب في كل أمة هم أملها الواعد، وذخيرتها للمستقبل، وبقدر ما يولون من عناية ورعاية، وتوجيه وتثقيف،‏ وإعداد وتأهيل، وإذكاء لروح الانتماء الوثيق للوطن في نفوسهم، يكون عطاؤهم وبذلهم، وتفانيهم وإخلاصهم، وتضحيتهم وإيثارهم “

كان المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس يدعو دائما أبناء هذا الوطن ويحذره من الانجرار أو الانجراف خلف كل مخرب ناعق أو مفتون حانق ، لأنهم ” نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العُمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا، ولا تقبل أبدًا أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق “ / [ خطاب العيد الوطني الرابع والعشرين 1994م ] .

” نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العُمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا، ولا تقبل أبدًا أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق “ /

رحم الله مؤسس عمان الحديثة وباني نهضتها المباركة جلالة السلطان قابوس بن سعيد وأسكنه فسيح الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

Your Page Title