الزمن-الأثر والزمن-الحركة
-I-
أفكّر في الزّمن، وأتساءل:
هل نعيش نحن العرب في زمنٍ واحدٍ، حقّاً، مع الغرب الأوروبيّ-الأميركيّ، عِلماً، وفكراً وفنّاً؟
والجوابُ، كما يبدو لي، هو نعم – على المستوى الأفُقيّ-العَوْلميّ.
لكن، إذا أردنا أن يكونَ السّؤال أكثرَ تعقيداً، لكي يكون الجواب أكثر اتّساعاً وعُمقاً، فمن الأفضل أن نضيف إليه ضرورةَ التمّييز بين الزّمن الأفقيّ، السَّرْدي أو الوصفيّ، والزّمنِ العموديّ الخلّاق. الأول أسميه بالزّمن-الأثر، والثاني أسمّيه بالزّمن-الحركة أو التغّير.
هكذا يمكن أن نضيفَ إلى الجواب الأوّل القولَ بأننا نحن العرب، لا نزال، على المستوى الزمني العموديّ، نعيش في القرن الأوّل، قَرْن الإسلام الخلافيّ، بالمَعْنييْن: الخِلافة، والخِلاف. أي في الزّمن-الأثر، لا في الزّمن-التّغيّر.
-II-
هناك، على مستوى السّلطة-المؤسَّسة، عناصر كثيرة متنوّعة، تجعل السّلطة-المؤسَّسة في العالم الإسلامي-العربي الرّاهن، مجرّدَ تنويعٍ شكليّ على السلطة المؤسسة في القرن الإسلاميّ-العربيّ الأول.
جوهرياً، لا يزال الزمن-الأثر زمننا المتواصل. وما أبعدنا، إذاً، عن العيش مع الغرب الأوروبي-الأميركيّ في زمنٍ عموديّ واحد: زمن الإبداع وزمن التغيّر، جَذْريّاً وعلى نحوٍ شاملٍ، كما هو الشّأنُ في هذا الغرب.
-III-
أسّس الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب لقراءة جديدةٍ للإسلامِ، بعد موت النبيّ، تمثّلت في خَلْق الزّمن-الحركة، ضدّ الزمن-الأثر: في موقفه من النبيّ وهو على فراش الموت، وفي الغَسْل والجنازة والقَبْر، وفي موقفه الرفضيّ للأنصار الذين سُمّوا كذلك لأنهم ناصروا النبي ضد قبيلته نفسها، وفي معارضته أن يجمع بنو عمومته آل هاشم، بين النبوّة والخلافة، وفي رفضه توريث النبي لوريثته الوحيدة فاطمة، وكان إرثاً ضَخْماً.
غيرَ أنّ الذين وقفوا آنذاك مع فكره ونهجه، لم يتابعوه بوصفه مؤسساً للزّمن-الحركة، زمن التغيّر، وأنما تابعوه في التّقليد الأسبق: في ما سمّيته الزّمن-الأثر، زمن الثبات، تكراراً واستعادةً.
هكذا حُصِر الإسلام بفعل الصراع والشّقاق في مجرّد كونه سلطةً وأداةً للسلطة. وتحوّلت ثقافته إلى مجرّد شَرْعٍ وفِقْهٍ، وانتهى، عمليّاً، عالَمُ الزّمَنِ-الحركة، في السّلطة ومؤسساتها السّياسية والثقافيّة. غير أنّه ظلّ حيّاً، على نحو هامشيّ، عند الخلّاقين في الشعر والتصوف، والفلسفة والعلم والفنون. وهؤلاء هم الذين صنعوا ما يُسمّى بالحضارة الإسلامية العربيّة.
-IV-
لا بدّ من تحية الخليفة-الإستثناء، وهو المأمون. فهو الذي أسس لافتتاح العالم من داخل (الترجمة): لاكتشاف الآخر المختلف في ما يقولهُ ويكتبه، بوصفه عنصراً مكوناً من عناصر الذات، وحَقّق مبدأين:
الأول – لا تقوم الذات الإسلامية، حضاريّاً، ومعرفيّاً، إلا بالآخر المختلف، لأنه لا يمكن تفسير العالم بالإسلام وحده، كما قال الفلاسفة بلسان ابن رشد، ولا بدّ، إذاً، من العقل، وكان يمثّله آنذاك اليونانيون.
الثاني – الإعتراف بالآخر المختلف وهو هنا اليونان، فسُمّي أرسطو المعلم الأول، مع أنه يُعدّ وفقاً للزمن-الأثر، « كافراً ».
و صِفة « المعلّم الأوّل » حدث ثقافي تاريخي. فهي التحيّة الأولى التي يقدّمها « المؤمن » للإنسان « الكافر ». وجديرٌ بالمسلمين اليوم – مسلمي الزمن الحركة، أن يحتفوا بهذا الحدث الفريد، الأول، في تاريخ العلاقات بين الذات والآخر.
-V-
الزمن الحركة؟
ليس للفرد العربي زمن، لأنه يحيا بلا حرّية، يحيا مقيّداً. المقيّد لا يتحرّك إلّا بأمرٍ أو نَهْيٍ.
المسلمون العرب اليوم يتدهورون جماعةً جماعةً، فرداً فرداً، عملاً عملاً، فكرة فكرةً، لحظةً لحظةً – في الهاوية الضخمة التي تُسمّى الزمن-الأثر / الزمن-الطَّلل.
كلّ ما يأخذه « الشرق الإسلاميّ العربيّ » من الغرب الأميركي-الأوروبي ليس إلّا « أثراً »، ليست له فيه أية علاقة إبداعية حتى حين يموّله، ليس إلّا « طللاً » مُسبّقاً.
أدونيس
*****
شرارات
1
هل الضّباب خطأٌ في معجم الغيم؟
2
تكتبُ قصيدةً؟
إذاً، أقدر أن أقول عنك:
أنت الآن تقفُ وحيداً في وجه العالم.
3
لا ينتمي الشاعر إلى أية مدرسةٍ شعريّة.
الشاعر هو « المدارس » كلُّها.
4
يكاد ما ليس واقعاً،
أن يُصبح الواقعَ كلّه:
ماذا تقول لنا، إذاً،
أيها الحضور الذي ليس إلّا غيباً؟
وكيف تصف لنا أيّها الشّاعرُ
عالماً، يكون اللّامرئي فيه،
هو، وحده، الذي يجب أن نراه؟
5
أخطأ الشاعر، هذه المرّة:
وصل إلى الغابة قبل أن تستيقظ الطيّور.
6
نامَ، بعد أن كتب رسالةً إلى الحلم، وضعها تحت الوسادة: لماذا لا تجيئني إلا في شكل غَيمةٍ،
تتبخّر فوق السّرير؟
7
إنّها اللحظة التي تبدو فيها الحياة كأنها رغيفٌ يُخبَزُ في تنّور الذاكرة.
8
كيف حدث، أيها الموت، أنك لم تعد إلّا شحّاذاً يقف حارساً بلباسه الأحمر على باب الأرض العربية؟
9
مِنجلٌ هذا العصر العربيّ، أم سنبلةٌ؟
10
هل القمرُ رأسُ الحلم، أم هو مجرّد كُرَةٍ بين قدميه؟