أثيريات

د.رجب العويسي يكتب: المواطنة في مواجهة كورونا

د.رجب العويسي يكتب: المواطنة في مواجهة كورونا
د.رجب العويسي يكتب: المواطنة في مواجهة كورونا د.رجب العويسي يكتب: المواطنة في مواجهة كورونا

د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

تؤسس استراتيجية عمل المواطنة في ظل منظومة الحقوق والواجبات والمسؤوليات والمبادئ والقيم والأخلاقيات والمنهجيات والأطر التي تستخدمها مرحلة متقدمة في مواجهة كورونا، والتعامل مع معطياته، إذ أن فلسفة التعاطي مع كورنا بما يستدعيه من التقيد التام بإجراءات التباعد الاجتماعي، والتواصل الجسدي والإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية التي تستهدف منع انتشار الفيروس والوقاية من المرض تجسيد عملي لمفهوم المواطنة، وتطبيق فعلي لكل مكوناتها ، وتأصيل منهجي لعملها في الواقع الممارس في سلوك المواطن والمقيم على حد سواء، والثقافة والقناعة والعقيدة والفكر والمبدأ الذي يؤمن به في التعامل مع مستجدات المرض.

على أن مسألة الحصول على الحقوق تستدعي استشعار الفرد لأهميتها، والعمل على تحققها في ذاته، إذ أن حقه في العيش والصحة والأمن والسلامة والعافية والأمان والاستقرار والعمل والإنتاج وغيرها يستدعي تأصيل فقه الحقوق في التعاطي مع هذه الجائحة، التي تبرز أهمية البحث عن هذه الموجهات في حياة الفرد اليومية، فتحقق الصحة والعافية له، يعني أن عليه التقيد والالتزام بالقرارات والتعليمات الصادرة من جهات الاختصاص، والمداومة على غسل اليدين بالماء والصابون والتقيد بالإجراءات الصحية السليمة عند العطس والسعال، وهكذا أيضًا بقية الحقوق كحق الأمن والحياة التي هي بحاجة إلى إزالة كل معكرات صفو الحياة، ومسببات القلق والخوف الناتجة عن انتشار الفيروس وكثرة اللغط حوله، بما يعني أن عليه أن يدرك أن العيش في ظلال الأمان بحاجة إلى المزيد من الحرص على استدراك أطر السعادة، والبحث عن مقومات الأمان ذاتها، والتي من بينها أن يقف على مسؤولياته ويعيد تصحيح ممارساته اليومية التي تؤدي إلى عدم تحقق هذا الحق في الواقع.

كما أن كون المواطنة واجبات ومسؤوليات، على الفرد أن يضعها في أولوية اهتمامه، وقائمة أعماله تتطلب منه أن يكون حريصًا على الالتزام بالواجب؛ لأنه وقاية له من الوقوع في المحظور، أو تعريضه للعقوبة، إذ أن الالتزام فيه الأمان، فعندما يلبس الكمامة في الأماكن العامة وغيرها مما ورد بشأنه نص قانوني في هذا الشأن، ويمتنع عن التزاور والاختلاط العائلي فإنه يجنب نفسه وغيره الضرر الذي قد يقع من نقله للمرض، أو انتقاله لغيره من المخالطين له من أبويه وأسرته وأصدقائه ومجتمعه، لذلك يصبح التزامه بالواجب تحقيقًا لروح المسؤولية والشعور بقيمة الالتزام في وقايته من كل المخاطر الناتجة عن كورونا.

هذا الأمر يتجه أيضًا لقيم المواطنة الأخرى كالانتماء والولاء، وهي مرتكزات بات الإيمان بها والقناعة بأهمية استحضارها في التعامل مع هذه الجائحة الطريق لحماية عمان، وحفظ الوطن من مخاطر كورونا، والسعي الحثيث مع الحكومة على تحقيق التعافي، وإنقاذ البلاد من مخاطر هذا المرض وتأثيراته السلبية على الاقتصاد الوطني وغيره من الأبعاد الاجتماعية والنفسية والصحية، وما يؤديه تزايد أعداد المصابين والوفيات من إرهاق كاهل المنظومة الصحية؛ بتوفير الأسرّة للمنومين في المستشفيات وأقسام العناية المركزة، وبالتالي يصبح الانتماء للوطن تجسيد لمسار الوعي بالمسؤولية الاجتماعية والوطنية التي تلقي على كاهل الفرد مسؤولية إبعاد مصدر القلق والخطر عن وطنه.

وهكذا أيضًا في ولائه لسلطانه، فهو يستشعر الرؤية الحكيمة السامية لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- والرعاية الكريمة السامية من لدن جلالته لجهود اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) في الحد من انتشار فيروس كورونا، مما عزز من مسؤوليتها في تحقيق أهدافها الوطنية والإنسانية، وتشريفها باللقاء السامي بها في أكثر من مرة، وتوجيهات جلالته بإنشاء لجنة اقتصادية منبثقة من اللجنة العليا؛ لدراسة الوضع الاقتصادي الناتج عن فيروس كورونا، والبحث عن آليات واستراتيجيات مبتكرة، وحزم اقتصادية قابلة للتطبيق في دعم مؤسسات القطاع الخاص، والشركات المتضررة للقيام بدورها واستمرار إنتاجيتها.

ولما كانت المواطنة منظومة من القيم والأخلاقيات، فإن الحديث عن دورها في استنطاق القيم وتعزيز حضورها في واقع حياة المواطن والمقيم تعبي عما تنتجه القيم والأخلاقيات من موجهات للحد من انتشار كورونا، وتعزيز أطر المواجهة له، فإن التعاطي مع فيروس كورونا بحاجة إلى حضور نوعي للقيم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية والوطنية وغيرها، بالشكل الذي يضمن كفاءتها في وقاية المواطن والمقيم من نزغات النفس التي تتجه به إلى الاستخفاف بالتعليميات وعدم وضعها موضع الاهتمام، إذ أن المواقف والأحداث والظروف المرتبطة بفيروس كورونا بحاجة إلى منظومة أخلاقية تضمن فرص التعاطي معه ومعالجته والوقوف على تفاصيله، كما أن التقيد الفعلي بالإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية والاشتراطات التي أقرتها اللجنة العليا، تستدعي حضورًا نوعيًا للقيم والأخلاقيات؛ كونها صمام الأمان الذي يؤصل فقه التقيد والالتزام بما أكدت عليه، ويحفظ دور الفرد ومسؤوليته نحو نفسه ومجتمعه والآخرين، فيقف عند حدوده، ويصنع في نفسه القدوة والمثال، وبالتالي لم تعد علاقة القيم بأحداث كورونا شكلية بقدر ما هي علاقة أصيله، إذ كلما قويت منظومة القيم والأخلاقيات، كلما كانت له حصنًا منيعًا من الوقوع في المحظور والتهور والاندفاع الذي يستحق بسببه العقوبة.

فإن الكثير من التصرفات الشخصية والمجتمعية التي تظهر في التعامل مع كورونا كالاختلاط والمصافحة وعدم التقيد بالإجراءات المقررة من جهات الاختصاص، والتساهل في ممارسات العادات المجتمعية، وما تسببه من تعريض الفرد والمجتمع إلى المساءلة القانونية أو إصابته بفيروس كورونا، إنما هو نتاج لضعف تأثير القيم والأخلاقيات التي تحدد له المسار وتبيّن له الطريق، وترسم له خارطة التوجه، لتتجه تصرفاته إلى الاستهتار واللامبالاة فيصبح ضحية أفكاره وعناده وسلوكه الشخصي القائم على تحكيم المزاج وتغليب العاطفة.

وعود على بدء فإن تكامل حلقات المواطنة في مواجهة كورونا في ظل وجود البناء المؤسسي ممثلًا في عمل اللجنة العليا، وتفعيل خطوط التأثير الإعلامية والصحية والاجتماعية والاقتصادية الداعمة لعملها، بالإضافة إلى البناء التشريعي ممثلًا في جملة القرارات الضبطية والتنفيذية والعقوبات والجزاءات المرتبطة بالسلوك الموجه نحو كورونا، يشكل رؤية عمل وطنية؛ لتعميق دور المواطنة وتجسيد عملي لمواجهة كورونا، ويبقى دور الفرد نفسه من مواطن ومقيم في المنافسة نحو تحقيق هذه المعطيات واقعًا عمليًا، والتزامًا يمشي على الأرض، ليجد في فهم معطياتها، وما تحمله في مستقبل التعامل مع المرض فرصته لإثبات بصمة نجاح له في وعيه والتزامه وعطائه ومبادرته وإنتاجيته واستشعاره لقيمة الحياة في ظلال الصحة والأمن والسلامة والتعايش المجتمعي والتقارب الاجتماعي.

Your Page Title