د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يواجه الطلبة في ظل جائحة كورونا ( كوفيد19) الكثير من التحولات الفكرية والنفسية والقناعات والتغيرات في طبيعة الدور، وأدوات الممارسة التعليمية، والفاقد التعليمي سواء فيما يتعلق بالمنهج أو بالعلاقة مع المعلمين والإدارة والكادر التعليمي، أو الاندماج في بيئة التعليم ومكوناتها وعناصرها المختلفة، وعبر نمط تعليمي جديد لم يعتاد الطلبة عليه، أو لم يحقق لهم مسارات النمو المتوقعة ، وفي الوقت نفسه حجم التراكمات والمشاعر السلبية التي ارتبطت بهذه الجائحة، وما رافق هذا الوباء من معلومات غير موثوقة ومعارف غير مقننة أعطت المجال للإشاعة ومنحت الفرصة للحديث عنها حتى وغن جاوز المعقول أو اصدم بالمنقول والمقبول، مما أوجد حالة من الحيرة والشكوك والأوهام، وفتح المجال للمؤثرين والغوغائيين في نشر أفكارهم المضللة أو معلوماتهم المغلوطة والتي أحدثت تأثيرا قويا على المجتمعات عامة، وقناعات مجتمع المتعلمين بشكل خاص.

ومع هذه الظروف والتحديات التي رافقت الجائحة، ومنعت الطلبة من الاستمتاع بكل الفرص المتاحة لهم من قبل، والوصول إلى مدارسهم، وتحقيق أحلامهم، ووقفت ضد رغبتهم في الترويح المعرفي والفكري، والالتقاء بأقرانهم، ومناقشة معلميهم والجلوس على مقاعدهم، إلا أنها مع مرور الوقت، غيرت من قناعاتهم السلبية وأفكارهم المشوشة، حتى أوجدت لديهم مساحة أوسع من التفكير والتأمل، والمراجعة والبحث، وإعادة قراءة هذه الأحداث بصورة أكثر إشراقا حول الحياة في ظلال الأزمات والجوائح، والغاية الكبرى من التعليم والأهمية الأساسية من وجود مؤسساته، والدور الأصيل الذي يجب أن يؤديه المعلمون وغيرهم في مسيرة التعليم، وأفصحت عن نوع التعليم الذي يريده الطلبة، والمهارات والقدرات التي يحتاجونها ، بما يؤسس في حياتهم القوة، ويبني فيهم الريادة والمسؤولية، ويصنع منهم القدوة، بناة أمة ورسل حضارة، ومواطنين أكفاء قادرين على تحقيق أحلامهم وصون مكتسبات مجتمعاتهم، وفي المقابل قيمة الأمن والصحة والسلامة والعافية، وأهمية الالتزام والنظافة والتقيد بالإجراءات، وهندسة التغيير في العادات والممارسات، مدركين بأن الحياة بما تحمله من أمل وكدر، وتفاؤل وضجر، فرصة لاستكشاف كينونيتها وفهم محطاتها وقراءة جمالياتها في أحلام العصافير.
وأدرك الطلبة خلالها بأن الأزمات والجوائح، هي من تنشط حركة التغيير، وتولد منصات الأفكار، وتنتج موازين المنافسة، وتصنع الحلول، وتبني البدائل، وتؤسس فرصا أوسع للعيش المشترك، ومساحة متجددة تستشعر نهضة الروح وسمو الفكرة تقوم على الالتزام والمسؤولية وحب القانون والتقيد بالإجراءات، كما تعتمد على البحث والاكتشاف وإنتاج الخبرات، وإعادة هندسة السلوك الاجتماعي في صناعة مواطن المستقبل، القادر على رسم ابتسامة في محيط اسرته، ومساعدتها في التعاطي مع الظروف والأحوال التي تعايشها ، ليستمر نضج الشعور لدية في إدراك موقعه الجديد في بيئة التعليم، وممارسة قواعد التعلم اليومية التي اعتاد عليها بطريقة أخرى أكثر ابتكارية وارتباطا بواقعه، لتصنع منه نموذجا عمليا في الإنجاز المقنن، والعمل المخلص، والأداء الرصين والتفكير الناضج، فهو الباحث في عمق الحدث، والقارئ لما وراء الاحداث، والمحلل الناقد المصحح لما بين السطور، ولم تعد مسؤولية التعليم في نظر الطلبة اليوم ضمان توفير أساسيات القراءة والكتابة، أصبح بقدرته على تحقيق أمن الطلبة النفسي والفكري، واستنهاض قدرات المتعلمين وملكاتهم ومواهبهم ومهاراتهم في مشاركة العالم واقعه الجديد، وينقل بصمة انتاجه وبحوثه وتجاربه لتصل للعالم الآخر بكل ثقة ومهنية، فالتكرارية والفاقد في الممارسة التعليمية والتقليدية في التعليم لم تعد بذات جدوى في ظل معطيات هذه الجائحة، التي أثبتت أنها بحاجة إلى العمق والتفكير والتأمل والبحث.
وبالتالي أن تجيب الممارسة التعليمية في قراءة هذه القناعات عن جملة التساؤلات التي يطرحها واقع الطلبة، كيف يتعامل التعليم مع نواتج هذه الجائحة وتأثيراتها في فقه الطلبة وتصوراتهم ومشاهداتهم للواقع؟، وكيف يعيد انتاج أفكارهم ويعمل على إعادة صياغة مسارات التفكير والعادات السابقة لديهم في ظل مفاهيم الالتزام والتباعد الاجتماعي والجسدي وفرض القوانين وتقنين الرغبات، واستشعار المسؤوليات، وتحجيم مساحة الحرية المطلقة، ومفاهيم الدلال الأبوي والاهتمام وتحقيق الرغبات التي يمارسها الآباء والامهات كاستحقاقات والدية نحو الأبناء؟ ، وكيف يعيد التعليم انتاج وتصحيح بعض الممارسات التي ارتبطت بنظام التعليم عن بعد في الجوانب المتعلقة بتعلم الطلبة وإنجاز المهام والتكليفات والاختبارات ونظم القياس والتقييم وحرية الطلبة في الرجوع إلى الكتاب للإجابة عن الاختبار أو المساعدة المباشرة له من الاسرة، ، وكيف يضمن قدرة الطلبة على صناعة انموذج إيجابي ذاتي في حياتهم يضمن استيعابهم لهذه الاحداث وتكيفهم معها، كما يضمن تلقيهم للصدمات الحاصلة والظروف بكل ثقة ومهنية، وفي أنماط التفكير القادمة حول تخصصاتهم في المستقبل وأدوات تعلمهم ومهاراتهم ؟، وفي الوقت نفسه كيف يوظف الطلبة مهاراتهم وقدراتهم وابداعاتهم في خلق روح التغيير والتجديد في حياتهم في مواجهة حالة المنع والاغلاق والحد من اللقاءات العائلية والتجمعات ، وفي ظل اغلاق كل الفرص والمساحات الترويحية التي يمارس فيها الطلبة انشطتهم ويبنون خلالها شخصياتهم؟.
أخيرا تبقى الإجابة عن هذه التساؤلات ، محطات يقرأ خلالها التعليم دوره المغيّب في خضم العمليات المتكررة التي تدور حولها الممارسة التعليمية، فيعيد خلالها ترتيب أوضاعه، وتحديد أولوياته ، ويقترب من فقه الطلبة ومحتواهم الفكري والنفسي والروحي بشكل أكبر، فمن جهة عليه أن يصنع من الطالب الدور المهم في تغيير شخصيته وتحديد أهدافه، ومن جهة أخرى يعمل على اختيار نوعية البرامج التوعوية التي تبني في الطالب الثقة بالنفس وصناعة التفكير الإيجابي، والتخطيط للمستقبل، ويتبني برامج مستدامة في الإرشاد النفسي والاجتماعي وإدارة المواهب والابتكار، ومن جهة ثالثه عليه أن يعزز مسار الاستباقية والحدس بالتوقعات وإنتاج المواقف وتعريض الطلبة لمواقف محاكاة مجربة بحيث لا يقتصر دوره على حل المشكلات الموقفية؛ بل أن ينطلق بالطلبة نحو بناء فكر إيجابي قائم على أسس الثقة والإيجابية وتجاوز الإيحاءات السلبية، وصناعة القدوات عبر دعم النماذج الإيجابية من الطلبة وإخراجها بالشكل المطلوب في بيئة التعليم. ؛ محطات بحاجة إلى يجدد التعليم الالتزام بها ، ويحسن إدراك متطلباتها ، ويبتكر الأدوات في استنطاقها في فلسفته وممارساته.