أثير- مكتب أثير في تونس
حاورها : محمد الهادي الجزيري
هي المتوّجة بجائزة الشارقة للإبداع العربي مؤخّرا ..عن مسرحيّ “هيومانيا”، التونسية المقيمة في عُمان منذ فترة ، الناشطة في مجال الأدب والثقافة والإعلام ..، إنّها رحمة البحيري أستاذة تعليم ثانوي ..ألقينا عليها أسئلة عن المجتمع العماني وعن المشروع الثّقافي “تونس عمان جسر التّواصل”، وعن سرّ اندماجها ونجاحها الملفت للنظر ..فكانت إجاباتها مكثّفة وفيها الكثير من الحبّ والصدق …
- متى قدمت إلى عُمان.. وفي أيّ مهمّة تعليميّة؟
أتيت إلى عُمان في السّنة الثّانية من دراستي للماجستير رياضيّات بحتة. كنت آنذاك ككلّ المتخرّجين أطمح للعمل ، وأتتني فرصة السّفر إلى عُمان كأستاذة تعليم ثانوي ، طمحتُ لذلك جدا. في بادئ الأمر تردّدت خصوصا أنّ والدي سي نجيب البحيري قد رفض فكرة سفري إلى الخارج ؛ حيث قد سبقتها فرصة إكمال دراستي البحثيّة مع العمل في nancyMetz الفرنسيّة ولم يوافق على ذلك وأبدا رفضه القطعي للأمر برمّته. لكن عندما أتتني فرصة العمل بسلطنة عمان كان هناك إحساس داخلي يقول لي بأنّ لي رزقا هناك. تتالت الأحداث لتترتّب الأمور ويكون لي قدم على هذه الأرض الطّيّبة. هو حقيقة وافق بعد إصرار كبير من جدّتي الّتي كان لها الفضل الأكبر رحمها الله. ولن أنسى كلامه آنذاك : “أنا وافقت لأنّني ربّيتكِ تربية رجال صناديد ، ولأنّها دولة عربيّة مسلمة ولن تضيع هويّتك ولا دينك! ثمّ بشرط أن تتزوّجي أوّلا ، وأن تحملي راية تونس في فعلك وأخلاقك يعيش بنتي !” قال ما قاله وغصّ بالعبرات ، لن أنسى تلألأ دمعاته الّتي لم أرها في حياتي أبدا إلاّ حينها ما حييت. ورافقني ما قاله طيلة تواجدي بالسّلطنة ، كان لذلك وقع كبير عليّ ، سكنت جملته هاجسي وانعكست على أفعالي حقا.

نعرف أنّك من مؤسّسي ومعدّي المشروع الثّقافي “تونس عمان جسر التّواصل”، ونودّ أن تكشفي لنا ماهية المشروع وأهدافه؟
تونس عُمان جسر التّواصل ليس مشروعا فحسب ؛ بل هو ريحة البلاد للمغتربين ومرآة عاكسة لهويّة الأفراد ويكسر القيود الّتي تكبّل المغترب ؛ سواء كانوا عمانيّين في تونس أو تونسيّين في السّلطنة. نعرّف من خلاله عراقة العلاقة الرّابطة بين البلدين ، وبالفعل قد اشتغل العديد من الباحثين على هذه النّقطة ؛ الّتي أثبتت تداخل الحضارتين منذ القدم ، ونذكر من ذلك كتاب “العلاقات العمانيّة التّونسيّة” للدّكتور سالم البحري. تحمّست للمشروع ولأهدافه بعد حوار دار بيني وبين الأخ والصّديق الإعلامي علي بركة صاحب فكرة المشروع بالأساس ، كان آنذاك المشروع مجرّد صفحة على الفايسبوك يديرها بمعيّة الأخ والصّديق المخرج جمال الجامعي. ثمّ ارتأينا أن نحوّلها إلى مشروع يحمل في جوفه زخرا وأهدافا بأبعاد أكبر ، وسعينا فعلاً لذلك بتغطية دائمة من الإعلاميّة عروسيّة بوقميزة عبر أثير قناة تونس الثّقافيّة وبدعم من الإخوة العمانيّين.
من تصفّحي لصفحتك الفيسبوكيّة لاحظت سرعة اندماجك في المجتمع العماني، وتتويجك في أكثر من مناسبة ، ما السّرّ في ذلك؟
حقيقة لستُ أدري ؛ لكن قد يكون لذلك عدّة أبعاد. أهمّها أنّي شخصيّة اجتماعيّة وسريعة التّأقلم ، وأحبّ التّفاعل مع المكان ، أحبّ أن تنمو الشّجرة الّتي بداخلي وتمدّ أغصانها فارعة في الفضاء ، تظلّل الرّقعة الّتي تحتويني بمن فيها وأُزهر بدوري ؛ وهي طبيعة الإنسان المعلّم يحبّ العطاء وليس شحيحا في المعرفة وفي الطّرف الآخر من المعادلة ، يعود سرعة اندماجي إلى طبيعة المجتمع العماني الّذي لا يخفى عن الجميع طيبتهم وترحابهم بالغريب ؛ بل أكثر من ذلك لم أحسّ يوما بتفرقة أو تمييز. شعب متسامح والأمور طيّبة -كما يقولون- إلى أبعد الحدود. يبجّلون من يعطيهم معلومة ، ويقدّرون صاحب الفكر. هذا الطّبع الغالب على الكلّ وأخصّ بالذّكر صديقتي الكاتبة إشراق النّهدي ، كانت لي أختا وأفضل واجهة تعكس حقيقة ما تحمله المرأة الظّفاريّة خاصّة والعمانيّة عامّة من طيب وكرم وأخلاق ومثابرة. ولا أستطيع تجاوز صديقتي وأختي الأستاذة فاطمة المخيني ، وأختي الأستاذة نور جداد ، وأختي الأستاذة عائشة عبيدون ، والكاتبة ثمنة هوبيس الجندل، والكاتبة سلمى المعشني، والكاتبة طفول سالم.. هؤلاء كانوا خير سفراء لعُمان على أرضها. ولعلّي خصصت بالذّكر النّساء دون الرّجال ؛ لأنّي أؤمن أنّ الحضارات تؤسّسها وتحمل مشعلها بانية المجتمعات.

باختصار أحببتُ هذا الشّعب ، وهم شعب يقابلون الحبّ بالحبّ!
ما الّذي يجمع المجتمع العماني والتّونسي ، وهل وجدت صعوبة أو عائقا ما لبناء علاقة صداقة وعمل في عمان؟
منذ الوهلة الأولى تستشعر أنّ العامل المشترك بينهما طيبة الشّعبين ؛ ثمّ مع مرور الوقت تكتشف أنّ هنالك قواسم عدّة بينهما ؛ مصطلحات من اللّهجة المحلّيّة بعيدا عن العربيّة متداخلة مثل: فيسع، سبيطار، دبش.. وهذا ما يوحي بتوطّد العلاقات منذ القدم ، وأرجّح ذلك للمدرسة الإباضيّة الّتي مقرّها تونس، والزّحف العربي من الجزيرة العربيّة إلى شمال إفريقيا وقت الفتوحات الإسلاميّة ؛ وهو ما يبرّر تواجد عائلات تونسيّة تحمل ألقاب قبائل كبيرة من عمان مثل البحري، الشّحري، سعيدان، البوسعيدي..
وبالفعل تناقشنا في هذا الأمر مع مجموعة من الأصدقاء الّذين اطّلعوا على ثقافة البلدين ، وكنّا حينئذ نناقش كتاب الصّديق الكاتب محمّد الشّحري “الطّرف المرتحل” الّذي عاش في تونس وأخذ رسالة الماجستير من جامعة تونس المعهد العالي للتّنشيط الشّبابي والثّقافي ببئر الباي، وراقني ما قاله بإيجاز : “ما يجمع المجتمع العماني والتّونسي بعد تأمّل دام طيلة إقامتي بتونس وتوغّلي بين التّونسيّين حتّى أتقنت لهجتهم نوعيا هو أصالة الشّعوب الموغّلة في ثقافتها والمعتدّة بتنوّعها الثّقافي، وانفتاحها على الآخر. كذلك هناك رغبة ملحّة للشّعبين في التّعلّم والعمل، وإبراز الهويّة المتشكّلة من قيم إنسانيّة حيّة ومتجدّدة.” ما قاله آنذاك كفّى ووفّى كما يقولون. كلّنا أيّدناه بدون نزاع.

هل في “لسوادي حلاوة” أجواء عمانيّة/ خليجيّة أم تونسيّة صرفة أم بين بين؟ حدّثينا عنها لنتوغّل فيها معك.
“لسوادي حلاوة” مجموعة قصصيّة من رحم القضايا التّونسيّة عامّة والقيروانيّة في أغلبها؛ إلاّ أنّها لم تتبرّأ من الانفتاح على العالم الخارجي. كان هناك حضور لحضارات عدّة؛ فلقد كانت شخوص القصص تتنقّل جسديا أو بالذّاكرة بين أماكن عدّة كإيران، إيطاليا، الجزائر، والخليج.. ممّا يستوجب استحضار ماديّات المكان المذكور من طبع ولهجة وثقافة!
وحضرت شعبيّة المجتمع العماني على لسان الصّديق الشّاعر صلاح شجنعة بقصيدة “وتغيّرت كلّ الملامح” في قصّة “حوريّة الكلاتوس”؛ حيث استشهد بها الرّاوي البطل الّذي يتبيّن من خلال السّرد القصصي أنّه كان مسافرا ثمّ عاد إلى أرض الوطن ليجد حبيبته على حال غير الحالة الّتي عهدها عليها ..وأبوح لكم بأمر ؛ لقد كانت هذه القصيدة هي المتن الحكائي للقصّة قبل أن تُختلق كنتُ آنذاك أداوم بحاسك منطقة بحريّة تبتعد عن صلالة حيث أسكن مسافة ساعتين، وكنتُ أسمع القصيدة بإلقاء شاعرها في الذّهاب والإيّاب ، وتحوّل الطّريق إلى ركح بديع سمح لذاكرتي أن تقفز بعيدًا إلى قارّتي وتحديدا عند ” كالتوسة ” حيّنا ، وشوارع القيروان وعاداتها ، وهكذا اخترعت عالمي القصصي.
وكذلك يحضر جانب أوسع من المجتمع العمانيّ والظّفاريّ تحديدا في قصّة “العربيّة وسيعة” والّتي تحدّثنا عن معاناة فتاة تونسيّة مغتربة أحبّت عربيا مسلما؛ لكنّها لم تتقبّل ما هو دخيل على العرف السّائر في تونس ؛ وهو عدم تعدّد الزّوجات. هذه القصّة أخذت منّي وقتا طويلا لإكمالها ؛ لأنّها بنيت على دراسة إيديولوجيّة. كان لمقهى المضياف بجبل إيتين المشرف على مدينة صلالة حضورا صاخبا في القصّة؛ فلقد كان شخصيّة سرديّة فعّالة تدفع بتنامي الأحداث وتحرّك ذاكرة البطلة وتسقطها في دوّامة هستيريا شديدة ؛ ثمّ تخلق لها الحلّ.

نصل الآن إلى جائزة هامّة نلتها مؤخّرا؛ وأعني بذلك تتويجك بالمركز الثّالث في جائزة الشّارقة للإبداع العربي عن نصّك المسرحي هيومانيا، هل كنت تتوقّعين هذا الإنجاز؟ ثمّ ما معنى كلمة “هيومانيا”؟
في بادئ الأمر كتبت المسرحيّة بطلب من فرقة مسرحيّة بعمان ليتمّ عرضها والمشاركة بها في أحد المهرجانات أو المسابقات. كانت الثيمة الأساسيّة للعرض هي الإرهاب. وجدتُ أنّ المتن الحكائي الّذي ستنبنى عليه المسرحيّة من أصعب الأشياء؛ لأنّه محور اهتمام من الجميع ومركز مخاوفهم. فارتأيتُ إلى أن أجرّد الموضوع، وأبحث في مظاهره وأنواعه وآليّاته. سافرتُ عبر الزّمن منذ الخلق إلى يومنا هذا. تعمّقتُ في الجسر الرّابط بين ما يسمّونه الأسطورة أو الخرافة والواقع اليوم. استعنتُ بما للمارايا من ذاكرة ابتداء من مرايا نوستراداموس وصولا إلى ما كشفه العلم في هذا العصر. وهكذا طرحتُ من خلال النّصّ المسرحي قضيّة أنثروبولوجيّة وأنطولوجيّة بأبعاد رمزيّة تتماشى مع قضايا العصر الرّاهن، وتشتبك مع تحوّلات زمن العولمة والتّكنولوجيا، وتعكس معاناة العالم بأجزائه الأربعة شماله، جنوبه، شرقه وغربه. حصلتُ على إجازة وزارة الإعلام لعرضها؛ إلاّ أنّ وضع الجائحة حال دون ذلك. في تلك الفترة طوّرتها أكثر، وعندما اكتملت في نظري، لم أعد أريدها أن تعرض إيمانا منّي بأنّ العروض المسرحيّة لها فترتها؛ ثمّ تتلاشى، وأيضا لا تصل للجميع؛ إلاّ من يحضر العرض. فوجدتُني أفكّر جدّيا في طباعتها كتابا مسرحيا، وطمحتُ بأن تصل بين يدي أيّ إنسان من هذا العالم؛ لأنّها تستهدف العالم بأكمله، وتصوّر الهوس الإنساني عامة. اقترحت عليّ أحد صديقاتي الأخت والكاتبة جلنار زين بأن أشارك بها في أحد الجوائز؛ لكنّني لم أكن مقتنعة بالشّروط القائمة خصوصا الثّيمة الّتي تحتّم عليّ تغيير النّصّ نوعا ما ، كنتُ أريد كتابا لمسرحيّتي كما هي مخطوطة ، وسط تلك الحيرة، رأيتُ إعلان جائزة الشّارقة للإبداع العربي الإصدار الأوّل ، أرسلتها وابتسمت. حقا انبثق من داخلي أمل كبير. والحمد لله نلتُها، وكان لي كتابي المسرحي “هيومانيا”. كلّه بتوفيق الله سبحانه….
وإنّي لفخورة وسعيدة جدا بنيل جائزة مهمّة على صعيد الوطن العربي. وإنّي لأعتزّ باختيار لجنة التّحكيم لنصّي ، وأحسست حقا أنّ هذا عمّق حبّي للكتابة المسرحيّة.
نأتي إلى العنوان، قد يبدو غريبا، كلمة غير مألوفة لا في اللّغة العربيّة ولا في اللّغة اللاّتينيّة. وحقيقة هو إيجاز للمسرحيّة بأكملها، والاختيار لم يأتِ صدفة؛ بل بدراسة عميقة للقضيّة الّتي يطرحها النّصّ. أتى العنوان تركيبا للفظين؛ هيومن بمعنى الإنسان ومانيا بمعنى الهوس؛ ليفصح عن حقيقة الهوس الإنساني. ولقد تمّ اختياره من اللّغات القديمة (اليونانيّة والإغريقيّة) إقرارا خفيا بأنّ المانيا قائمة منذ الأزل.
تحفر أحداث المسرحيّة في قضايا العصر الرّاهن، وتشتبك مع تحوّلات زمن العولمة والتّكنولوجيا. تطرح قضيّة أنثروبولوجيّة وأنطولوجيّة مهمّة بأبعادٍ رمزيّة. ولقد استحضرت الشّخصيّة الرّئيسيّة الدّافعة بالأحداث من كريس؛ آلهة الشّرّ في الحضارة الإغريقيّة. وهي شخصيّة تمثّل الغشّ والمكر والخديعة والهلاك. وصفت في الكتب اليونانيّة بمكرها؛ يمكنها بدهاء التّعامل مع كلّ موقف يواجهها، وهي بدون مشاعر وأحاسيس، وفي قمّة القسوة؛ بل أكثر من ذلك سادية تشعر بسعادة غريبة عندما تدمّر حياة النّاس وتشقيهم. فتشكّلت داخل المسرحيّة على هيئة امرأة بلا ملامح، حضرت بما للمرأة من رمزيّة موصولة بالأرض، وليس بمتجسّدها الحقيقي… تتواتر الأحداث وتتصاعد؛ لتكشف عن نيّتها في الفتك بالعالم الإنساني مستغلّة معاناته وهوسه بتغيير ظروفه البيئيّة.
.
وتكتشفون خبايا النّصّ وتفاصيل الحكاية بين أسطر الكتاب المسرحي “هيومانيا” الّذي أصدرته دائرة الثّقافة بالشّارقة.
هل بك حنين إلى القيروان تلك البعيدة القريبة منك، تلك المتلبّسة فيك؟
لم أخل يوما أنّي أعشقها إلى ذلك الحدّ. كما ذكرتَ فعلاً القيروان تلبسني وألبسها. ظننتُ أنّي لا أعرفها حقّ المعرفة؛ فهي بالأساس مدينة محافظة لها عرفها ذو الطّابع الخاصّ. مدينة ذكوريّة، لا تسمح للأنثى بمساحة كافية من الحرّيّة. خلتُ أنّي لا أعرفها، وإذا بها تسكنني. لطالما أحسست بأنّها تكبّلني، وتكبح طموحي إلى أن ابتعدتْ دياري عنها. وإذا بها كبّلتني غراما، وملأت فؤادي بأجوائها، ووجدتني حرّة أتجوّل بين حكاياتها.
وعن حنيني إليها أذكر ما أهديته إليها في مجموعتي القصصيّة ‘لسوادي حلاوة’:
“إلى قيرواني الّتي أتوق إلى أحيائها وأسواقها وسمائها، إلى تلك المدينة العريقة الّتي ألهمتني فنّيّة القيل؛ فامتطيتُ أرجوحة الزّمان؛ أُداعب لمامًا ماضٍ كان، وأناشدُ مستقبلاً يريد أن يكون!”