الأديب العربي الكبير أدونيس يكتب لـ “أثير”: نخرج من العقد الأوروبية دون الخروج من منجزاتها الحضارية

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

خاص- أثير
كاتب المقال: الأديب العربي الكبير أدونيس


نشر الأديب العربي الكبير أدونيس خلال الفترة الماضية مجموعة من المقالات بصورة حصرية في “أثير”، ونعيد نشرها للقارئ الكريم.

ـــ 1 ـــ
ينبغي أن نخرجَ نحنُ العرب من ” العقدةِ ” الأوروبّية، دون أن نخرجَ ، طبعاً ، من عالمِ المُنْجَزاتِ الحضاريّةِ الأوروبّية. فلا بدَّ منَ الفصْلِ، في علاقاتِنا مع البشر، بين عالَمِ المعرفةِ وعالَمِ السّياسة. ينبغي، تِبْعاً لذلك أن نرفضَ قطعيّاً، أيّةَ هَيمَنَةٍ أجنبيّة، سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو ثقافيّاً، فيما نُواصِلُ تَعْميقَ علاقاتِنا مع الكشوفاتِ المعرفيّة في العالم كلّه.
ــ 2 ــ
سياسِيّاً، تضطَرِبُ أوروبّا. تخسَرُ مَركَزِيَّتَها، بِوَصْفِها نموذَجاً، وتخْسَرُ الهالَةَ الرّمْزِيّةَ المُرتَبِطةَ بهذه المركَزيّة. وهي الآنَ تابِعَةٌ للنِّظام الأميركيّ ـــ وتزدادُ، يوماً فيَوماً، تَبَعِيّةً. وهو نظامٌ يَهْدمُ عالَمَ البشَر ـــ لكن بأسلحَةِ جنونٍ إيدْيولوجيٍّ تُؤسِّسُ له رؤيةٌ دينيّةٌ ” إنجيليّةٌ “. رؤيةٌ تقوم على عقيدة ” خلاص ” الإنسان ـــ وهو ” خلاصٌ ” يعني، عمليّاً، شكلاً من أشكال ” الإبادة “. سلاح العقوبات الاقتصاديّة، مثلاً، هو نوعٌ من ” قتل ” البشر، إضافةً إلى احتقار البعد الإنسانيّ في الإنسان.
العالَمُ في هذه الرّؤيةِ الأميركيّة ـــ الأوروبّيّة، ” قارّةٌ واحِدةٌ “.
وترى الجماعةُ القائلةُ بهذا ” الخَلاص ” أنّ رسالتَها هي أن تقودَ هذه القارّة ” بعِلْمِها ” و ” اقتصادها ” و ” بحربِها ” و ” سِلْمها ” وفقاً للحالة والوضْع. وأوروبا سائرةٌ حتّى الآن في هذه الرّؤيةِ ” الرّسوليّة “. بدْئيّاً، يتطلّبُ الأمر استِئْصالَ بعضِ الأعضاءِ في جسمِ الكون، على غِرارِ استئصالِ السّكّانِ الأصليين الذين يَحكمُ الآنَ ” ترامب ” بلادَهم ويسجنُ بقاياهم في المَعازِلِ والأكواخ. وعلى غِرارِ استئصالِ شعبِ فلسطين، وإحلالِ شعبٍ آخرَ محلَّه ـــ شعبٍ ” رسوليٍّ ” هو أيضاً، لكن على طريقتِه.هكذا تتخلّى أوروبّا عن قِيَمِها الحضاريّةِ، وبخاصّةٍ الإنسانيّةِ والثقافيّةِ، وتتعاوَنُ في العالَمِ كلِّه، وبخاصّةٍ في العالَمَيْن العرَبيّ والإفريقيّ، مع أنظِمَةٍ تحْيا على قَتْلِ شعوبِها ونَهْبِ ثَرواتِها.
وهي في ذلك تُشارِكُ في إبادةِ الإنسانِ المَخلوقِ على صورةِ الله الذي تؤمِنُ به. في ذلك أيضاً يعيشُ الغَربُ الأوروبّيُّ، الآنَ، سياسِيّاً على الأخصّ، مُستَعبَداً، بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً، للنّظام الأميركيّ ـــ الرّسوليّ، ” المُخَلِّص “.
أمّا على الصّعيدِ الثّقافيّ، فقد فَرَضَت التّبَعِيَّةُ للنِّظامِ الأميركيِّ سياسةً ثقافيّةً للعملِ على جَعْلِ الثَّقافةِ نوعاً آخرَ من الإعْلامِ الإيديولوجيّ. وفي هذا يُصْبِحُ الفِكْرُ والأدبُ نشاطاً وظيفيّاً في خدمةِ الرّؤيةِ السّياسيّة. وهذه مُمارَسَةٌ تُوَحِّدُ بين الرّؤية الإسلاميّة ـــ العربيّة السّائدة، سياسيّاً والرّؤيةِ الأميركيّة ـــ الأوروبّيّة.
هكذا يواجِهُ الفكرُ الأوروبّيّ مُعضِلاتٍ كبيرة، في علاقاتِه بالعالَم الرّاهِنِ وقضاياه، وفي علاقاتِه مع حاضِرِه وتاريخِه، على السَّواء.
وفي هذا نجد ما يمكن أن يُفسِّر كيف يكادُ الإعلامُ بوَسائِلِهِ المُتَعَدِّدَة أن يحُلَّ محَلَّ الفِكْرِ والثّقافة، وكيف نرى اليومَ أنّ رجلَ الثّقافةِ في أوروبّا بدأَ يميلُ إلى أن يكونَ مُوَظَّفاً إعلاميّاً، قبلَ أن يكونَ كاتباً أو مُفَكِّراً. تحويلُ الكتابةِ إلى وظيفةٍ في هذه المَرحلةِ من تاريخِ الإنسان يعني القبولَ بتحويلِها إلى مَصْنَعٍ هائلٍ للأكاذيب.
الكتابةُ ــ الوظيفةُ قَيْدٌ آخر وسجنٌ آخر وتَبَعِيَّةٌ أخرى.






Your Page Title