خاص- أثير
كاتب المقال: المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي
نشر المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي خلال الفترة الماضية مجموعة من المقالات بصورة حصرية في “أثير”، ونعيد نشرها للقارئ الكريم.
لأبدأ بالتوضيح أن ليس المقصود بهذه المقالة بحال من الأحوال نقد نظرية طه حسين عن الشعر الجاهلي وانتحاله من قبل الرواة والإخباريين في القرنين الأول والثاني للهجرة. فهذه النظرية، أو بالأحرى هذه الفرضية لها ما لها وعليها ما عليها ، ولكنها تبقى في الأحوال جميعاً أول – وربما أجرأ – محاولة في نوعها لقراءة نقدية لمسلمات التاريخ العربي الإسلامي، وبالتالي لمسلمات التاريخ ما قبل الإسلامي الموصوف بأنه جاهلي، كما جرت صياغتها في القرنين الأول والثاني للهجرة.
ولكن في الوقت الذي لا يدعي فيه مقال وجيز كهذا الذي بين يدي القارئ أنه يتصدى للنظرية/الفرضية الطه حسينية عن انتحال الرواة الإسلاميين للشعر الجاهلي واصطناعهم لمناسباته وللوقائع التي عليها مداراته، فإنه يبقى بمثابة وفاء بوعد لم يُقيَّض لي أن أفي به على مدى العشرين سنة المنصرمة.
ولأبدأ بقصة هذا الوعد.
فقبل نحو عقدين من الزمن، وعلى أثر صدور كتابي : نظرية العقل كجزء أول من مشروع متعدد الأجزاء في نقد مشروع محمد عابد الجابري المتعدد الأجزاء في نقد العقل العربي، أجرت معي في عام 1997 مجلة عربيات التي كان يصدرها بالفرنسية من باريس ياسر هواري مقابلة صحفية بعد القدر النسبي من الضجة التي كان أثارها صدور الجزء الأول من مشروعي – إذا سمحت لنفسي بهذا التعبير – في نقدِ نقدِ العقل العربي. فبصدد الضرورة المعرفية – الإبستمولوجية كما بتنا نقول اليوم – لمنهج نقد النقد كنت أشرت في تلك المقابلة إلى السبق الذي كانت مثَّلته، من هذا المنظور، عشرات الردود التي كان أثارها في حينه مشروع طه حسين في كتابه: في الشعر الجاهلي. وفي هذا السياق تحديداً أشرت إلى أني وقعت صدفة، وأنا أراجع تاريخ كنيسة بيزنطة في معرض تفكيك القراءة الجابرية الإيجابية لتاريخ الفلسفة المسيحية بالمقارنة مع قراءته السلبية لتاريخ الفلسفة الإسلامية، على إشارة في حوليات كنيسة القسطنطينية إلى أنه في عام 473 زار عاصمة الدولة البيزنطية أمير عربي يدعى امرأ القيس
AMERKOSES
وطلب مقابلة القيصر. فاستعلم هذا الأخير عن حاجته فقيل له: أمير عربي فقد ملكه وجاء يطلب المساعدة على ردّ ملكه إليه. فاستقبله القيصر وأحسن وفادته ووعده بتقديم المساعدة اللازمة، ولكن مشترطاً عليه أن يعتتنق عقيدة مجمع خلقيدونية.
وليس يخفى ما لهذه الإشارة في حوليات كنيسة بيزنطة إلى قدوم المسمّى امرأ القيس إلى القسطنطينية من أهمية بالنظر إلى أن هذه أول إشارة موثَّقة من خارج الموروث العربي إلى الصحة التاريخية لما يرويه رواة صدر الإسلام عن امرئ القيس وفقدانه لملكه وارتحاله إلى عاصمة بلاد الروم طلباً للمساعدة لردّ ملكه إليه. وفي هذا طعن مباشر في كل ما أورده طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي عن الانتحال المزعوم للقصة وللشعر المنسوب إلى امرؤ القيس بصدد هذه القصة.
ولم يمضِ أسبوعان على نشر مجلة عربيات لمقابلتي هذه حتى تلقيت اتصالاً هاتفياً من سورية، وتحديداً من مدينة الرقة، ولم يكن محدثي أحداً آخر سوى الصديق والقاص الراحل عبد السلام العجيلي.
كان صوته يتهدج حماسة وهو يقول: قرأت مقابلتك مع عربيات، وإن اكتشافك لخبر امرؤ القيس في وثيقة غير عربية يعود تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي يمثل انقلاباً معرفياً حقيقياً من منظور فرضية طه حسين عن انتحال الشعر الجاهلي وأخبار شعرائه. ولكن هذا الكشف لن يؤتي مفعوله قبل أن تنشر ما اكتشفته بالعربية، فمتى ومتى – قال مكرراً – أنت فاعل؟ فأجبته : إني في سبيلي الآن إلى تحرير الجزء الثاني من نقدي لمشروع الجابري في نقد العقل العربي، وسيتضمن هذا الجزء فصلاً مطولاً عن اللغة العربية، وستكون هذه مناسبة لكي أكتب فقرة أو هامشاً عن دلالة الخبر الذي ورد في حوليات كنيسة بيزنطة عن امرئ القيس وما يترتب عليه من وجوب تصحيح لجانب واحد على الأقل من فرضية طه حسين بنزعتها الإطلاقية.
بيد أني كنت أنا نفسي الذي فوجئ عندما اكتشفت بعد إنجازي الجزء الثاني من نقدِ نقدِ العقل العربي والذي صدر عام 1998 تحت عنوان: إشكاليات العقل العربي أني سهوت عن إضافة الفقرة أو الهامش الموعود. وقد بقي هذا السهو يؤرقني وينتزع مني تعهداً ضمنياً بأن أفي بوعدي لعبد السلام العجيلي في طبعة ثانية. ولكن عندما جاء الوقت لصدور طبعة ثانية من إشكاليات العقل العربي رحت أبحث عبثاً في محفوظاتي من آلاف الأوراق عن تلك الصفحة المصورة من تاريخ كنيسة بيزنطة فلم أقع لها على أثر. ونظراً إلى إلحاح الناشر لم يكن بوسعي أن أطيل انتظاره أكثر مما أطلته قائلاً بيني وبين نفسي إن الفرصة لا بد أن تتاح لي في أجزاء متوقعة لاحقة من نقد النقد. ولكن مع إنجاز الأجزاء الخمسة من نقد النقد هذا والتي صدر آخرها: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث عام 1910 بقي وعدي لعبد السلام العجيلي – وكان قد توفي عام 2006 – غير ناجز. ثم جاء انشغالي بمراجعة أعمالي النقدية الكاملة كما بمراجعة ترجمتي لمؤلفات فرويد شبه الكاملة ليستأثر بكل وقتي في السنوات الثلاث الماضية. ولكن ما إن انتهيت من مراجعة المجلد الثامن والأخير من مؤلفات فرويد حتى عاد يحاصرني كالوسواس وعدي الذي لم أفِ به للعجيلي الراحل. وعدت إلى أوراقي أبحث فيها عن النص المفتقد. ولما لم أعثر عليه لجأت إلى الأنترنت الذي كان أصاب في السنوات العشر الأخيرة تطوراً كبيراً. ومن خلال بحثي في غوغل عن اسم
AMERKOSES
بالفرنسية وامرؤ القيس بالعربية وقعت على نصين:أولهما في المجلد الرابع من كتاب تاريخ الكنيسة من الأصول الأولى إلى يومنا هذا المنشور تحت إشراف أوغوستان فليش وفكتور مارتن والصادر عن منشورات بلود أند غاي عام 1937، والثاني في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي.
المصدر الأول يستمد أهميته، وبالتالي دلالته، من كونه مصدراً أجنبياً يؤرخ لتاريخ الكنيسة البيزنطية من مصادرها الذاتية ووثائقها التاريخية الخاصة بها وبدون أية مرجعية إلى الروايات العربية الموضوعة من قبل طه حسين في قفص الاتهام. والحال ماذا يقول ذلك النص المقتضب كما ورد في الجزء الرابع الذي يحمل كعنوان: من وفاة ثيوذوسيوس إلى انتخاب غريغوريوس الكبير(1)؟ بالحرف الواحد في فقرة بعنوان ((جزيرة إيوتابا)):
((يُذكر هنا أيضاً وجودٌ لأسقف في جزيرة إيوتابا. فهذه الجزيرة، المسماة اليوم بجزيرة تيران عند مدخل العقبة، كانت مركزاً مهماً للتواصل التجاري ولجباية الضرائب. وقد قَدِم للاستقرار فيها رجل عربي يدعى امرأ القيس
AMORKESOS
بعد جلائه عن المناطق الخاضعة لملك الفرس، وذلك في نحو العام 470، طارداً منها المأمورين الرومان. وفي عام 473 بعث بأسقف أمته، المدعو بطرس، إلى الأمبراطور لاون(2)، ليحصل منه على مركز العامل الأمبراطوري على عرب الجزيرة العربية. فاستقدم لاون الأمير إليه وأحاطه بضروب التكريم ومنحه السلطة، ليس فقط على إيوتابا، بل أيضاً على نواحي أخرى. ولكن الجزيرة استعيدت لاحقاً من قبل رومانوس، قائد جيوش الأمبراطور أنسطاس. بيد أن الأسقفية بقيت قائمة. وقد كان من جملة الحاضرين في مجمع القدس عام 536 أسقف عن جزيرة إيوتابا يدعى أنسطاس)).
وليس يخفى أن الغائب الكبير عن هذا النص الفرنسي هو المصدر التاريخي الذي استقي منه خبر امرؤ القيس وقدومه إلى القسطنطينية. والحال أن النص الثاني الذي أمكن لنا الاهتداء إليه – وهو هذه المرة بالعربية – يسمّي المصدر التاريخي لذلك الخبر. يقول كبير مؤرخي العصر الجاهلي الذي هو جواد علي في كتابه الموسوعي: تاريخ العرب قبل الإسلام الصادر بين 1956 و1960:
((ذكر ملخوس الفيلادلفي
MALCHOS OF PHILADELPHIA
اسم عامل عربي سمّاه
AMORKESOS
أي امرؤ القيس، كان كما قال رئيساً على بطن من بطون الأعراب هو بطن
NOKALIAN.
وذكر أن بطرس، أسقف أهل الوبر، ذهب في عام 473 إلى القسطنطينية ليطلب من القيصر ليون أن يمنح هذا الرئيس درجة عامل
PHYLARCHOS
على العرب المقيمين في العربية الحجرية. وكان هذا الرئيس يقيم مع قبيلته في الأصل، كما ذكر ملخوس، في الأرضين الخاضعة لنفوذ الفرس، ثم ارتحل عنها ونزل في أرضين قريبة من حدود الفرس وأخذ يغزو منها حدود الساسانيين والقبائل العربية المقيمة في الأرضين الخاضعة للروم. فتمكن بذلك من بسط نفوذه وسلطانه على القبائل حتى بلغ ساحل البحر الأحمر واستولى على جزيرة إيوتابا، وهي جزيرة مهمة كان الروم ينزلون فيها لجمع الضرائب من المراكب الذاهبة إلى المناطق الحارة أو الآيبة منها، فتصيب الحكومة أرباحاً عظيمة جداً. كذلك حصل على ثروة عظيمة من الغنائم التي حصل عليها من غزوه للمواضع المجاورة لهذه الجزيرة والواقعة في العربية الحجرية وأعالي الحجاز. وأراد امرؤ القيس، بعد أن بلغ من النفوذ مبلغه، الاتصال بالروم والتحالف معهم والاعتراف به عاملاً رسمياً على العرب الذين خضعوا له وعلى العرب المعترفين بسلطان الروم عليهم. ولذلك أرسل بطرس أسقف قبيلته، ليكون رسوله إلى القيصر. وقد نجح هذا الأسقف في مهمته ، وتوسَّط في دعوة امرئ القيس لزياة القسطنطينية، فلما وصل إليها استقبل بها استقبالاً لائقاً ورُحِّب به ترحيباً جداً، ولا سيما بعد أن أعلن دخوله في النصرانية، فأنعم عليه القيصر بالهدايا والألطاف وعيَّنه عاملاً
PHYLARCHUS
على تلك الجزيرة وعلى مواضع أخرى وعلى أعراب العربية الحجرية. ثم عاد مكرَّساً)).
وقد عاد جواد علي في كتابه الموسّع: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الصادر بين 1958 و 1960، وفي الفصل الثالث والثلاثين منه، إلى تثبيت نص ملخوس الفيلادلفي وأورد تتمة له فقال:
((أراد امرؤ القيس، بعد أن بلغ من السلطان مبلغه، الاتصال بالروم والتحالف على العرب الذين معهم ، والاعتراف به عاملاً رسمياً، أي
PHYLARCH OR SATRAP
فأوفد رجلاً من رجال الدين اسمه بطرس إلى القسطنطينية يعرض رغبته هذه على القيصر ليو. فلما قابل هذا رجال البلاط أظهر لهم أنه يريد الدخول في النصرانية. فأظهر القيصر ليو رغبته في مقابلة امرئ القيس للتحادث معه. فقصده امرؤ القيس فاستقبله استقبالاً حسناً، وعامله معاملة طيبة وأجلسه على مائدته، ومنحه لقب
PATRICIAN
، وجالس رجال مجلس السنات
SENATE
، فأدى ذلك إلى استياء الروم من سياسة القيصر هذه مع رجل مشرك، ولكنه بيَّن لهم أنه يريد تنصيره بذلك وإخضاعه لسلطانه. ولما قرر العودة أعطاه القيصر صورة ثمينة وهدايا نفيسة، وحثّ رجال مجلس الدولة أن يمنحوه هدايا سخية، ثم منحه درجة عامل على الجزيرة وعلى أرضين أخرى جديدة لم يكن قد أخذها من قبل. إلا أن الروم لم يرتاحوا لهذه المعاملة وانزعجوا من إسراف القيصر في إكرامه ومنحه تلك الأرضين، ولا سيما تلك الجزيرة التي استرجعوها بعد ذلك بمدة ليست طويلة، وفي مدة حكم القيصر أنسطاس)) (3).
ولا يتدخل جواد علي على نص ملخوس هذا إلا ليعلق على إشارته إلى
أن امرؤ القيس كان كما قال رئيساً على بطن من بطون الأعراب هو بطن
NOKALIAN
فيقول: ((كان امرؤ القيس المذكور سيد قبيلة سماها المؤرخ ملخوس الفيلادلفي نكليان أو نخليان، ويظهر أن هذا الاسم هو النخيلة، وهو موضع معروف قرب الكوفة على سمت الشام، وهو موضع ينطبق عليه ما ذكره ملخوس من أنه كان في أرض سلطان الفرس)).
ولكن يبقى الغائب الكبير عن نص جواد علي هو ملخوس الفيلادلفي نفسه. فهو لا يحدد لنا من هويته سوى كونه مؤرخاً دونما إشارة إلى جنسيته أو اللغة التي كتب بها أو الزمن الذي كتب فيه التاريخ المنسوب إليه. والحال أن هذه نقطة بالغة الأهمية : فلو كان ملخوس من المؤرخين المتأخرين ولو كان يتقن العربية لكان يمكن القول إنه كتب ما كتبه عن امرئ القيس متأثراً بالروايات العربية المتداولة عنه بدءاً من القرنين الأول والثاني للهجرة، ولما كان ما كتبه لتكون له تلك الدلالة السالبة من منظور الدعوى الطه حسينية عن تصنيع سيرة امرئ القيس والشعر المنسوب إليه في مصانع رواة القرنين الأول والثاني للهجرة. والحال أن ملخوس الفيلادلفي ولد وكتب ومات في القرن الخامس الميلادي، وقد كتب باليونانية وعاش في بلاط الأمبراطور لاون الأول نفسه. وتاريخه الذي يحمل كعنوان: تاريخ بيزنطة، قد ضاع ولم تصلنا منه إلا شذرات، وقد روى فيه تاريخ الأمبراطورية البيزنطية من بداية مرض لاون الأول ووفاته عام 474 إلى يوم اغتيال خليفته يوليوس نيبوس عام 480م. واستتبعه بقسم ثانٍ استعرض فيه الأحداث امتداداً إلى عام 491، وهو عام تسنم الأمبراطور أنسطاس العرش. واسمه ملخوس ينمّ عن أن أصله سرياني بالنظر إلى أن هذه الكلمة (بالسريانية ملكو) تعني الملك. وهذا ما يؤكده لقبه بالذات: الفيلادلفي، بالنظر إلى أن فيلادلفيا هو الاسم الذي كان يطلق قديماً على عمان الأردنية. ولعل هذا أيضاً ما يفسر معرفة ملخوس ببعض مجريات شبه الجزيرة العربية في عصره.
وإذا رجعنا الآن أدراجنا إلى فرضية طه حسين عن انتحال الشعر الجاهلي وجدناه يشكك، في ما يشكك، في كل واقعة الرحلة إلى القسطنطينية قائلاً بالحرف الواحد: ((إذا لم يكن بدّ من التماس الأدلة الفنية على انتحال هذا الشعر، فقد نحب أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاط الروم وخالط القيصر…ولم يظهر لذلك أثر ما في شعره: إذ لم يصف القصر ولم يذكره ولم يصف كنيسة واحدة من كنائس القسطنطينية)).
وهنا يبدو لنا أن طه حسين نصف محق ونصف مخطئ. فواقعة زيارة امرؤ القيس للقسطنطينية ثابتة لا جدال فيها ما دام شاهد من أهل العصر والمكان – نقصد ملخوس الفيلادلفي – قد تحدث بقدر من التفصيل عن تلك الزيارة كما قدّم خلاصة سريعة عن حياة امرئ القيس وسياسته.
ولكن هنا تحديداً نصطدم بالتباس كبير: فامرؤ القيس الذي يتحدث عنه ملخوس زار القسطنطينية عام 473 على حين أن الشاعر امرؤ القيس كان مولده في أغلب التقدير بعد خمسين سنة(520 م.) وموته في حوالي العام 565. وهذا معناه أنه لم يكن إلا حفيداً لجده امرئ القيس الأول.
ولا شك أن الجد لم يكن شاعراً ولم يكن معنياً إلا بأمور السياسة والمال، كما لم تكن العربية قد أصابت في عصره التطور الذي سيؤهلها لاحقاً لأن تغدو لغة المعلقات. ولكن لا شك بالمقابل في أن اللغة العربية كانت أصابت في القرن السادس تطوراً أهّلها لنزول القرآن بها مع إطلالة القرن السابع. وكائناً من كان ناظم قصيدة الرحلة إلى القسطنطينية:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
أهو امرؤ القيس الحفيد أم امرؤ القيس المنحول، فإن فرضية طه حسين ذات النزعة الإطلاقية عن انتحال الشعر الجاهلي برمته تصاب بارتجاجة في واحد على الأقل من أساساتها: فالرحلة الامرؤ القيسية إلى القسطنطينية لم تكن من اختراع مخيِّلة الرواة، وهذا أقل ما يمكن قوله. ولا ندري أصلاً ـ بانتظار أن تثبت الوثائق ذلك ـ إن لم يكن امرؤ القيس الحفيد قد كرر بدوره، محتذياً حذو الجد وربما لأسباب مشابهة، زيارة القسطنطينية(4).
ومهما يكن من أمر، فإن هذه الورقة التي بين يدي القارئ لا تزعم ما لا تملك أن تزعمه: فقد كان كل الغرض منها الوفاء بوعد لم يتسنَّ لكاتبها أن يفي به في حينه. وبما أن فرضية طه حسين لا زالت إلى اليوم موضع نقاش في الأوساط الاختصاصية المعنية، فليس من شأن هذه الورقة غير أن تلقي بصيصاً من ضوء على إشكالية لا تزال موضع أخذ وردّ بين أهل الاختصاص، ولا سيما أنها تتصل، على حدّ تعبير طه حسين نفسه، بشيء ((ليس ديناً ولا سياسة، ولكنه يتصل بالدين والسياسة اتصالاً قوياً))، ومداره على السؤال التالي: هل نفسِّر القرآن بلغة الشعر الجاهلي أم نفسِّر الشعر المسمى جاهلياً بلغة القرآن؟
______________________________________________________
1-أمبراور بيزنطي شغل عرش بيزنطة بين 457 و474، واستتبع لسيادتها روما والأمبراطورية الرومانية الغربية.
2-ثيوذوسيوس هو آخر أباطرة الأمبراطورية الرومانية الموحدة(347-395)، وقد عمدته الكنيسة قديساً. أما غريغوريوس الأكبر (540-604) فهو من كبار أحبار الكنيسة والرابع والستون من باباواتها.
3-القيصر أنسطاس أو أنسطازيوس: أمبراطور بيزنطة من سنة 491 إلى سنة 518.
4-يذكر جواد علي بالفعل في المفصَّل أنه لما انهزم امرؤ القيس الحفيد أمام المنذر ملك الحيرة ((سار إلى قيصر صريخاً فأمدّه)).