فضاءات

الروائي الأردني جلال برجس يكتب لـ “أثير”: مقتطف من كتابي القادم “نشيج الدودوك”

أثير- الروائي الأردني جلال برجس

كان هواء ديسمبر باردا، وحادا كسكاكين شرهة حين نزلنا من الطائرة العسكرية. وقفت أنظر حولي. عراء أصفر مسطح، تستلقي فوقه الريح، وهو يمتد بعمق، كأنه اطمئن إلى فكرة اللانهاية. للوهلة الأولى داهمتني رغبة بالبكاء، لكني أطلقت بدلًا منها ضحكة أقرب ما تكون إلى المجون الساخر، والجندي الذي جاء لمرافقتنا يستعجلني بالصعود إلى السيارة بنبرة عسكرية آمرة.

كنت عبر المسافة القصيرة بين الطائرة والثكنة أكتم صراخا داخليًا: ما الذي تفعله هنا؟ سؤال يقف بوجهي بقوة رغم ما يحدث لشريان السلالة الصحراوية. كل شيء له لون يميل إلى الصفرة، حتى الثكنة التي بقيت ساهمًا بها إلى أن صرخ الجندي يستوضح من زملائي: ما به يسهو بهذا الشكل؟

كل واحد منا انتبذ واحدًا من الأسرّة الشاغرة، وصندوقًا لأغراضه وجلسنا ننصت لترحيب الذين سبقونا بالمجيء إلى هذا المكان. لم تحظ السماء في تلك الليلة العاصفة إلا بظلام دامس وأنا أقف إلى النافذة ونَفَسي يشكل طبقة ضبابية على زجاجها. إنها صدمة الأمكنة. تربكك، تثير فيك مشاعر إضافية من الوحشة والأسى، وتضعك أمام أسئلة جديدة.

رسمت برأس إصبعي ثلاث نقاط على الزجاج، ووصلت بين اثنتين منها بخط، ثم استلقيت في سريري. كان زملائي يجلسون مع عدد من قاطني الثكنة ويتبادلون الحديث. فتحت حقيبتي ورحت أعيد قراءة (وداعًا للسلاح) لهمنجواي. مر أحدهم ورأى العنوان وابتسم، ثم حرك يده أمام أحد زملائه بطريقة ساخرة فهمت منها أنه يصفني بالجنون. في تلك الليلة رأيت نفسي آكل جبنًا واشرب نبيذًا، تمامًا مثلما كثر الحديث عن هذا الامر في الرواية. في الصباح أخذونا إلى الطائرات، وعرفونا بالطائرة بمعزل عن سنوات الدراسة. كائن فيزيائي يركض على المدرج، ثم يقفز في الهواء مخلفًا كل ذلك الضجيج. مثلما حدثت لي صدمة مع المكان حدثت لي صدمة مع الطائرة. كرهتها، ولم أجد بي أدنى درجات الطاقة لأعمل عليها. كنت أقف مصابًا ببلاهة وسذاجة كبيرة مع زملائي ومسؤول القسم الذي أعمل فيه يحاول أن يجسر المسافة بيننا وبين الطائرة. التقيت بزملاء من تخصصات أخرى، طرد لقائي بهم شيئًا من الوحشة، لكنه فعل مؤقت هربت منه في المساء إلى القراءة. كنت أقرأ بنهم مرضي. أقرأ هربًا من أحلام كنت على يقين ساذج من أنها ستتحقق، ومن صحراء رغم اتساعها وجدتها تخنقني بجدارة. انخرطت في العمل، انصياعًا إلى الأوامر العسكرية. في أوقات الاستراحة أجلس في ظل شجرة صحراوية قبالة المبنى الذي أعمل فيه وأدخن، أدخن بشراهة غريبة رغم آلام المعدة التي أخذت في تلك الأيام تهاجمني بتدرج بدايته مقبولة. أول مرة جلست فيها أسفل تلك الشجرة، نقشت على جذعها تاريخ خطوتي الأولى في ذلك المكان، وكأني أضبط عدادًا يفضي بي إلى اللحظة التي أغادره فيها.

بعد مرور عامين صار لي أصدقاء مقربين، اعتادوا على ذلك الشكل من الفوضوية، والمرح الزائدين عن حدهما، وتجاهلي لكثير من المواقف التي لا تستحق، وشغفي الشديد بالطبخ، وكرهي للطائرة، من دون أن يعلموا عن أوراق تمدها يد الذاكرة لي ليلًا وتحيلني إلى شخص تهاجمه الكآبة، فيهرب منها إلى القراءة. هناك بدأت الكتابة بوعي مغاير لما فعلته بشكل عشوائي من ذي قبل، وحدث تصالح مباغت مع الطائرة، ومع الصحراء. كان ذلك قبيل غروب ليلة صيفية، حيث الشمس تتهيأ للسقوط في بحر الرمال الشاسع. كنا نجهز الطائرة للانطلاق، أضع على أذنيّ سماعتين مربوطتين بمسجلة على خاصرتي تبث إلي أغنية من فيلم Top gun ، أغنية رقيقة بعنوان Take my breath away .

تحركت الطائرة وأنا أراقبها عن بعد، ثم انطلقت من رأس المدرج، وصعدت إلى السماء، ثم تقاطعت بقرص الشمس.

كانت لحظة آسرة، تشبه الحب في مشتهاه العالي، تمامًا كمريد وصل مبتغاه. لحظة تماهى فيها كائن فيزيائي، مع الطبيعة، كائن أماط اللثام عن جانب جميل من وجهه. لا أدري لماذا حدث ذلك! ربما وقفت الموسيقى وراء أن أرى الأشياء من زاوية جديدة، أو ربما هي لحظة الكتابة التي كان عليها أن تبدأ من مشهد جعلني أؤمن أن بإمكاننا إضافة روح حتى إلى أشياء لا روح فيها. يومها جلست أرضًا أستسلم لنسمة الهواء الصحراوية عند غروب يميط اللثام عن جهة لم أرها من قبل للحزن الذي لولاه لما كان هناك معنى للبهجة، ورحت أنظر إلى الصحراء كيف تمتد بكل تلك السلاسة، وألمس الحصى، والتراب، وأفكر بالمعاني المتوارية وراء القشور. استلقيت على ظهري أنظر إلى السماء كيف تعج بالنجوم، والخطوط الضوئية للشهب والنيازك تهطل كضربات جريئة لفنان يصالح بين الأبيض والأسود.

حين عادت الطائرة، وسكنت كأنها ليست تلك التي فعلت كل ذلك الضجيج، اتكأتُ على جناحها يغمرني سهو من عمقه تجرني يد إلى تأمل رعونتها الفيزيائية، رعونة تشبه خروج مفاجئ لبنت على ما كان يعيقها عن شكل مفتقد من الحرية. لامست معدنها وموسيقى الأغنية ذاتها التي صالحتني عليها، تتهادى من أغوار مخيلتي، تدفعها موسيقاي الداخلية؛ فكتبت على جناحها الناعم، وبرسم متمهل للحروف:
“أريد امرأة مثلك لا تأبه بالريح”.


Your Page Title