أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
هل هو زمن جديد أم زمن يتكرر في دورة لا تنتهي، ما يسميه نيتشه العود الدائم L’éternel retour؟ سرعة التحول لا تسمح لنا برؤية الأشياء على أوجهها الصحيحة. الزمن الذي نعيشه يتغير بشكل جنوني، ومعه تزداد مخاوفنا من مصائر تراجيدية يمكننا أن نتوقعها ونراها ترتسم في الأفق، ولو ظل ارتباطنا بالحياة أقوى وأهم، لأنه الأبقى. وكما قال سرفانتس قبل قرون، على لسان دون كيخوتي، وهو يجيب عن أسئلة مرافقه الدائم: اسمع يا سانشو. لا نملك طريقا آخر. علينا أن نشد على الحياة بكل ما نملك من قوة وصبر. حتى عندما نفقد الأمل في كل ما يحيط بنا، علينا إعادة خلقه وابتداعه. لا أستبعد أن تكون حالة سرفانتس شبيهة بحالنا اليوم. هو أيضا جاء في لحظة تاريخية فارقة انتفت فيها كل اليوتوبيات التي صنعها الإنسان لنفسه، وحل محلها التوحش ومطاردة الإنسان على معتقده وثقافته وقناعاته. فقد طردت محاكم التفتيش المقدس في إسبانيا الكاثوليكية، كل بذرة للنور، وأحرقت المثقفين، وطاردت كل من يخالفها دينيا. سرفانتس لم ينفذ من محاكمها إلا بشعرة. فقد طالبته بوثيقة نقاء الدم التي تثبت أنه لا يوجد في سلالته موريسكيون مسلمون أندلسيون، أو مارانيون يهود.
اللحظات الحادة هي التي تحرك التاريخ، لكنها في الوقت نفسه تحرق أجيالا بإدخالها في نزاعات وحروب دموية، وأحيانا مدمرة لكل عمران وثقافة، في ظل أوضاع سياسية مرتبكة ومتداخلة تغيب فيها القيم وتحل محلها قيم أخرى. ولا غرابة في ذلك، يظل السياسي هو الذي يَصْنَع ويُصَنِّع حياتنا اليومية وفق مقاييسه المتعددة التي تلعب فيها مختلف الاستراتيجيات دورها الحيوي ويظل الإنسان المهزوم، مثل الحالة العربية اليوم، ينتظر أن تخرج منها أدهش الحلول الربانية، وينسى أن الحل يصنعه التفكير والجهد الحقيقيان، بدون ذلك سيظل العربي يدور مثل الضرير في المكان نفسه، وهو يظن أنه قطع الفيافي والمسافات. ما يغطي اليوم عجزنا المفجع، ليس المنتَج الاقتصادي والثقافي المنافس عالميا، ولا الجهد العلمي الذي يرقّي الناس ويدفع بهم إلى الأمام، لكن الطبيعة التي تجود علينا بخيراتها التي تسمح لنا بالبناء والتشييد والسفر وارتياد أحدث التكنولوجيات، وشراء الأسلحة الفتاكة التي لن تُستعمل، لا في حروبنا القومية التي لم تفض في النهاية إلا إلى سلسلة من الهزائم المتواترة، ولا في تحرير فلسطين التي عليها أن تتحمل تراجيديا المصائر السّيزيفية وحدها، بحمل صخرتها الأبدية والصعود بها عاليا، قبل أن تتدحرج معها من الأعلى، والعودة حثيثا إلى السفح، ثم محاولة معاودة الكرة مرة أخرى، مرتين، عشر، مائة، بل آلاف المرات بلا أفق حقيقي. أسلحة تصدأ في المخازن، والجديد منها يوجهه العرب ضد بعضهم البعض، في صراع مفتوح، لا أحد يعرف أفقه في النهاية. القاتل عربي والمقتول أيضا عربي.
ربما كان ضحايا حروبنا البينية أكثر من ضحايا حروبنا مع أعدائنا الخارجيين. هذا المعطى وحده يجعل الخوف من المستقبل مبررا، الأدهى ليس هذا، بل إنّ العرب أخطأوا عصرهم، بتخلفهم عن جميع الأمم، ولا يدرون أنهم في قاع البئر. يتفانون ويتمزقون بلا أفق أبدا. العرب اليوم في عمق السياسة، لكن أية سياسة؟ تلك التي تقدمهم، أم تلك التي تسحبهم نحو القاع والموت. سياسة وحيدة منتهجة عربيا، تلك التي تقتل كل يوم ما تبقى من إرادة جماعية وقومية. للأسف، كثيرا ما يكون رواد التقتيل القومي عربا. ومادام الأمر يتعلق بالعربي، فليس الأمر مهما عالميا. النتيجة المدمرة واحدة. الخطابات السياسية المنتجَة في هذا السياق، تنضوي تحت إرادة المهيمن. لهذا أي خطاب أدبي أو إبداعي وفيّ لقيم الإبداع والخلق والحرية سيجد نفسه على الطرف النقيض من هذه الخطابات السياسية، أي في موقع العداء والموت المحتمل، أو الحرب الافتراضية ضده.
لهذا، فالمبدع في العالم العربي لا يربي الكثير من الأوهام حول مسألة حرية التعبير في مجتمعات بنيت جوهريا على النقيض من ذلك. لا مهرب للمبدع العربي، بحر الموت وراءه، بحر الغرق أمامه، بحر النسيان مآله، فماذا يخسر في النهاية في وضع كهذا؟ لن يخسر إلا جسده أو بقاياه. لا قوة له إلا قوته الباطنية الإبداعية، وهو يعرف مسبقا أنه غير مرغوب فيه أبدا. المبدع مكروه رسميا لأنه ينغص على الذين يعيشون رفاها وهميا على حساب كمّ من البشر يموتون يوميا بلا قيمة، لا لحياتهم ولا لأجسادهم. النشرات العربية تعج بالتفجيرات التي تأخذ في طريقها العشرات، والاغتيالات والاختطافات. الدم العربي لم تعد له قيمة تذكر. النشرات الغربية والعربية أيضا أصبحت تمر عليه كخبر عام. يجد المبدع العربي نفسه منخرطا في الفعل المضاد للخطاب المهيمن أو ما يطلق عليه اليوم ريال بوليتك التي تعني ببساطة أن تقبلَ بما هو أمامك إذا أردتَ أن تستمر في الوجود والحياة.
المنجز الأدبي العربي، في هذا السياق، ليس إلا جزئية صغيرة من هذا التضاد، لا لدولة عربية يتماهي فيها السياسي بالقبلي، والعصري بالتقليدي البالي، ولا لخيارات سياسية أثبتت عجزها في المائة سنة الأخيرة، لكن لعصر مضى مفرغا من أي مشروع، ولآتٍ لا شيء فيه يبشر بأفق سليم، أو ببعض الخير. وظيفة النصوص التي اختارت التحليل والغوص في التاريخ، لا تفعل شيئا سوى أنها تعري وضعا ليس اليوم مرئيا إلا من خلال بعض علاماته المعاشة ببؤس والتي تحتاج إلى تأمل يتخطى الأغلفة الناعمة والخشنة.
لهذا ما نقرأه اليوم فيها من خطابات، هي في عمق السؤال المركزي الذي تتوخى هذه النصوص طرحه في نقاشها للوضع العربي، مبتعدة عن أوهام اليوتوبيا التي أزاحتها الديزوتوبيا التي هي الشكل النقيض لكل ما يصنعه الإنسان ذهنيا من أحلام. نحن في مفترق طرق شديد الخطورة، إما أن نتوقف قليلا ونتأمله وننتج مخارج النجاة الحقيقية، غير تلك التقليدية المعلنة سلفا كما في الطائرات: مخرجان للإنقاذ في الأمام والوسط ومخرجان في الوراء. كلها أبواب أصبحت اليوم تؤدي إلى الفراغ والموت. علينا قبل فوات الأوان أن ننحت مخارج غير منظورة وهي متوفرة، لكنها تحتاج إلى عقل براغماتي يضعها أمامه ويقوم بفحصها بدقة، ويقبل بالخسارة مقابل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إذا لم يكن قد فات الأوان. الوضع العربي اليوم مثل وضع الأرض التي فقدت كل إمكانية للمقاومة بعد أن امتلأت بثاني أكسيد الكربون والسموم التي تبثها المصانع لدرجة أن أصبحت تهدد الأرض نفسها وليس الحياة عليها فقط، بعد أن اخترقت طبقة الأوزون الواقية، وغير النظام المناخي كليا الذي لم ينتج إلا الموت المحتمل. الحلول التي قدمتها ندوة COP 21 لن تكون بالضرورة هي المنقذ، لكنها على الأقل، تقلل من المخاطر، وتمنح الأرض أملا في الحياة. الوضعية العربية شبيهة بذلك في كل التفاصيل. إما أن يجد العرب، موحدين أو منفصلين لا يهم، الحلول الممكنة التي تنقذهم وتنقذ أرضهم وعرضهم ومالهم ومستقبلهم، وإما أن ينهار ما تبقى واقفا حتى اليوم ولا يبقى من أفق ممكن إلا الجحيم النهائي والعودة إلى القرون الوسطى. الخطر الداهم حقيقة وليس مجرد أوهام. كل الدراسات الإستراتيجية والاستشرافية تقود إلى ذلك. يخطئ جدا من يظن من العرب أنه في منأى عن عاصفة الإفناء. إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، سينتهي العرب تباعا، وحدودهم ستنتهك بلا أية قدرة عن الدفاع، وحليفهم المصلحي اليوم، سيجلب معه وسائل الموت والدمار عند الضرورة، لأن مصلحته اليوم هي أيضا خدمة حلفاء استراتيجيين آخرين، ليسوا العرب، بكل تأكيد.
النصوص الأدبية التي ظهرت في السنوات هي صرخات خوف داهم، لكن للأسف، قليلا ما يسمع الساسة هذه النداءات لأنهم لا يقرؤون. وحتى القراء الذين صنعوهم يحملون جينات هذا التناقض في الاستقبال. قضيتان جوهريتان تطرحان في هذا السياق: الأولى تتعلق بالقارئ وأفق انتظاره الوهمي الذي تعود عليه، وإغراقه في تفاؤل أبله، ونصّية رسولية حاملة في جعبتها اللغوية كل الحلول التي تنتظرها الجماهير لحل مشكلاتها بجمل مرصوصة لم تعد قادرة على إقناع حتى منتجها. طبعا هذا القارئ الغارق في الأوهام، والمنتظِر لغودو لن يصل أبدا، موجود حقيقة، وهو ثمرة لنظام خطته الثقافة الرسمية التي تلقاها هذا القارئ، من المدرسة، لكنه قارئ عرضة لتجاذبات عدة. فيه من الاستسلام للسهل ما لا يمكن نكرانه، لكن فيه أيضا العصيان الذي قليلا ما ننتبه له وهو المكان الذي خرجنا منه جميعا. القادر على مغادرة دائرة اليقين الرسمي والدخول في مسائلات مختلفة من خلال مجمل المكاسب الثقافية التي تحصل عليها الإنسان في معاركه الحياتية. ولأننا ثمرة هذا العصيان الطبيعي نكتب، ونقرأ بشكل يخالف ما تريده وتنتظره المؤسسة الرسمية منا. هذا العصيان قليلا ما يؤخذ بعين الاعتبار في عمليات التوصيف، وربما كان هذا بالضبط ما يصنع الوعي الممكن الذي به يتخطى القارئ الشرطية المفروضة عليه. والسرد نفسه تخترقه هاتان الخاصيتان. خاصية الرسمي الذي يصنع سرده من الخطاب الرسمي ولا يخرج عنها لأنه يدرك العواقب الوخيمة التي تنتظره مما يجعل الكاتب مثل بهلواني نيتشه الذي عليه، وهو يقطع مسار الحبل مشيا، ألا يتدحرج لا شمالا ولا يمينا وإلا فثمة موته. مشكلة السرد أنه لا يستطيع أن يقف على هذه الحدية لأنه منذ البداية يحدد خياراته المختلفة ويسقط تجاه ما يشترطه التاريخ ورؤية الفنان أو المبدع التي لا تقبل بلعبة التوازن. هذا لا يعني تعويض الخطاب بالشتيمة السياسية والخطاب السهل، ولكن بتحريك آلة الإبداع بحيث تدرك أين تقف وماذا عليها أن تمس.
وفي هذا بطبيعة الحال لا يتساوى المبدعون أبدا. فهناك من اختار المسلك الصعب، مسلك الإبداع، وهناك من اختار طريق السهولة الذي يقود إلى كل المسالك إلا مسلك الإبداع. الكتابة عمل شاق ومضن وتحتاج إلى صبر كبير وطويل أيضا. بل إلى إرادة من فولاذ وثقة لا تخفت، في المستقبل.