أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
يشكل التخييل الروائي الحجر الأساس لأي عمل إبداعي، ولا يمكن لأي كان أن يكتب الرواية وفي ذهنه التخلي عن التخييل باسم الواقعية المباشرة، أو باسم التصوير الحيادي الذي يفترض توجها موضوعيا نحو الواقع. علما أننا نخطئ لو تبنينا القول بأن الخيال يشكل نقيضا للواقع، ولن تعدم مدارس نقدية سعت إلى حل تقابل ضدي مزعوم بين الخيال والواقع، وذلك عن طريق تأويل الخيال الأدبي على أنه أفق للحقيقة التاريخية، والعكس صحيح. ولعلنا لا نبالغ لو قلنا إن علاقة داخلية تربط الواقع مع الخيال تبقى هي المسؤول الأول عن تشكيل شخصية الأدب، لذلك، فحتى أكثر الروايات واقعية وارتباطا بالمجتمع لا تخرج عن التخييل، وإلا ستصبح أي شكل آخر إلا كونها رواية، فالرواية من حيث هي فن إبداعي لا يمكنها أن تتخلى عن هذه الخاصية التخييلية التي تحدد مفهومها في الحقل الأدبي كما أسلفنا، بل إن أكثر الواقعيات تشددا وارتباطا بالواقع الموضوعي والحقيقة المجردة، لم تستطع أن تتخلص من فعل التخييل.
لو أخذنا روائيا كبيرا مثل إميل زولا الذي تأثر بالعلوم التجريبية، وكان قد أصدر كتابه الرواية التجريبية عام 1880، وعبر فيه عن انحيازه لرواية مجردة من كل الزوائد، وقريبة من العلم والحقيقة، نجده فيما بعد قد تراجع عن الكثير من مفاهيمه العلمية الجامدة التي حاول تطبيقها على الأدب، وعاد إلى المخيال، لا بوصفه وسيلة للهرب من الحياة، ولكن بصفته حجرا أساسيا لأية كتابة إبداعية. عموما فقد راهنت كل الواقعيات على التخييل للدفع بها أكثر إلى احتلال مساحات إبداعية وفنية أوسع، تسهل لها مهمة التطور والتمايز والخلق الإبداعي، بما في ذلك الواقعية الأوروبية التي راهنت على رجل المستقبل الذي ينتصر للعقل، خارج منظومة دينية أدانت استعمال العقل، بل وجعلته جريمة تستحق العقاب، لذلك ارتبطت الواقعية الأوروبية بفكرة الانعتاق من الظلم الإقطاعي والبرجوازي، وكذلك الظلم الذي وقع على المرأة، جاعلا إياها مجرد وسيلة لمتعة الرجل، ليصبح بإمكاننا القول إن هذه الواقعية نجحت في خلق متخيل روائي، انبثق من العناصر المكونة للفترة الإقطاعية، وهو ما عبرت عنه واقعية القرن التاسع عشر بقوة كبيرة على الرغم من تنوعاتها المختلفة.
معروف عن زولا أنه خلق في رواياته كلها نماذجه التخييلية المقاومة، وأعطاها من مادته الأدبية الكثير، حتى بدا كأنه يقوم بتصوير الواقع الموضوعي، معبرا عن حقائق شكلتها عناصر خارجية، كانت بحد ذاتها منبعا لعمليات تخييلية، جعلت من الرواية فعلا إبداعيا وليس تاريخيا، لذلك نجده قد كتب رواياته في عز الانتفاضات الشعبية ضد الاستغلال البرجوازي، خالقا نماذج حتى وإن شابهت بعض نماذج الواقع الموضوعي، إلا أنها لم تعد إنتاجا حرفيا للواقع، واقتربت مما يسميه النقاد l’effet du réel الإيهام بالحقيقة، بمعنى أننا نظنه حقيقة موضوعية بسبب مرجعه، لكنه في النهاية فعل تخييلي يستقي مادته من خلال واقعية تصف الواقع وتحلله، ليكون الواقع المادي مجرد مادة أولية يتم الاشتغال عليها، فتطرح ما يعتمل المجتمع من ظلم ونضال اعتمادا على المعاينة الموضوعية، وعلى الآليات الأدبية التي تجعل من النص الأدبي أدبا في نهاية المطاف، أو ما يسمى نقديا شعرية الرواية، حتى لا تنزلق نحو ترديد صور كأنها عملية نقل حرفية من المجتمع.
إن تأملا للمعمار التخييلي لروايات إميل زولا سيكشف أنه بني كليا على مجتمع نهايات القرن التاسع عشر بكل عاداته وتقاليده وممارساته الاجتماعية المختلفة، دون أن يسمح للتخييل أن يكون أسيرا يقيده، الأمر الذي يجب أن يتنبه له أي كاتب روائي. في روايته الشهيرة “جيرمينال”، صور إميل زولا أبعادا قربته من الواقع الموضوعي دون أن تجعله يغرق فيه، معتمدا في واقعيته على خلق النموذج المعبر الذي يستجيب لمعايير بناء شخصياته الواقعية، أي تلك التي تؤمن بضرورة فهم الواقع الاجتماعي الموضوعي وتتحرك من خلاله. فقد طور شخصية إيتيان لونتييه Étienne Lantier بطل رواية جيرمينال، حتى أصبحت معبرة عن فئة عمالية كبيرة، بكل ما فيها من صفات للشاب الحيوي الذي يرفض الظلم. علما أن بعدا تخييلا غنيا سيدفع باتجاه فرضية حتمية بأن زولا قد عايش هذه النماذج، أو اقترب منها، ليكون قادرا على عملية تحويلها من مادة أولية إلى أخرى أدبية، وهو ما نلمسه من خلال شخصية إيتيان لونتييه التي تعمق زولا داخليا فيها، مظهرا ما تحمله من مرتكزات قوية جعلت منه في النهاية شخصية قيادية، ظهرت أولى علاماتها الأولية في تلك اللحظة التي ضرب فيها مسؤوله بصفعة لأنه أهانه أمام العمال.
استكمالا للكيفية التي ظهر زولا فيها شخصيته، نعود للرواية حين يسافر إيتيان نحو الشمال بحثا عن عمل، فيجده في مناجم مونتسو de Montsou في ظروف صعبة شديدة القسوة، نراه وقد أقام عند عائلة ماهو Maheu، وهو من عمال المناجم الفقراء، فيحب إحدى بناته، كاترين Catherine التي ترفضه لأنها كانت عشيقة أحد عمال المناجم العنيف شافال Chaval الذي كان يعتدي عليها في كل وقت. مع الأزمة الاقتصادية تخفض الشركة رواتب العمال فيدفع، إيتيان لونتييه العمال إلى الانتفاضة ضد رأس المال الاستغلالي، لكن القمع البوليسي يوقف الانتفاضة، فيقتل الكثيرون ومنهم العامل ماهو الذي كان يقيم عنده. تتوالى الأحداث، إلى أن يفك الإضراب الذي لعب فيه لونتييه دورا مهما، ويعود الجميع إلى العمل لكن سوفارين Souvarine العامل الفوضوي سياسيا anarchiste، يفجر المنجم بمن فيه من العمال، وقد كان بينهم إيتيان، وكاترين وشافال، الذين يجد ثلاثتهم أنفسهم وقد غاصوا آلاف الأمتار تحت الأرض. في النهايات وبعد معركة طاحنة يقتل إيتيان، شافال، عشيق كاترين التي تموت بين ذراعي إيتيان قبل وصول الإنقاذ، ويواصل إيتيان نضاله من أجل التنظيم النقابي الذي يدرك بأن لا حل آخر إلا عن طريقه.
في رواية زولا هي مادة تخييلية، إذ لا وجود مادي تاريخي لأحداثها إلا فيها، حتى وإن كنا لا ننفي أنها صورة شبيهة لواقع مادي، أي أن فعل التخييل ظل مربوطا بواقع ثمانينيات القرن التاسع عشر، لكن العالم الذي دار داخله النص هو عالم تركيبي، أي أن الشخصيات المحورية مثل إيتيان لونتي، وكاترين، وسوفارين، وشافال وغيرها، لا يمكن أن توجد إلا داخل رواية أدبية اسمها جيرمينال، ففيها ولدت وفيها دفنت. ويمكن أن نقيس على ذلك بقية النصوص الأدبية الأخرى التي بنيت على مرجع اجتماعي موضوعي، التي شكلت عالما محكما لفترة القرن التاسع عشر. ولو سألنا عما يمكن أن يكون قد أعطى الانطباع بهذا الشبه الواقعي؟ فسنجيب بأنه الجهد الذي بذله الكاتب لخلق عالم تخييلي روائي مواز استطاع أن يعبر من خلاله عن وضع اجتماعي استغلالي شديد الظلم، وربما يكون هذا الإيهام بالحقيقة هو ما يقود القارئ إلى تكوين انطباع عن أن ما رواه زولا قصة حقيقية وقعت في مجتمع القرن التاسع عشر، بينما هو ثمرة جهد تخييلي مصدره المجتمع وفعل التحويل الكتابي، الذي على الكاتب الجيد الانتباه له، بمعنى الخروج من واقعية مباشرة، لا تعدو كونها إعادة إنتاج بشكل مسطح ساذج.