أثير- تاريخ عمان إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
ارتبط العمانيون بالبحر والملاحة ارتباطًا كبيرًا، ونمت هذه العلاقة حتى أصبحت الملاحة والتجارة البحرية من المهن الأساسية التي يمارسها العديد من سكان الموانئ العمانية، وكان من الطبيعي أن يصاحب ذلك الاهتمام بعلوم عديدة كالفلك والحساب، وأن يلجأوا إلى التأليف الملاحي واستخدام عدد من الأدوات والخرائط والمؤلفات الملاحية التي تعينهم، من بينها: الإسطرلاب، وآلة الكمال، والديرة (البوصلة)، والفرجار، والتقاويم، والرحمانيّات، و(الناليّات)، والروزنامات وغيرها. ” أثير” تقترب في هذا التقرير من أحد المؤلفات الملاحية الفلكية العمانية التي تعد شاهدةً على براعة الملاحين العمانيين في هذا المجال، والتي كُشِف عنها النقاب حديثًا ألا وهو مصنّف رحماني “سلوة المهموم والعطر المشموم” لمؤلفه عبدالله بن أحمد بن عبدالرزاق أبا الرجاء الجحفلي الأنصاري، وتعد أقدم تصنيف عثر عليها حتى الآن في مجال الرحمانيات الحديثة، وقام بدراستها وقدّم لها الباحث المتخصص في التاريخ الملاحي البحري بدر بن ناصر العريمي في الملتقى السنوي الثاني والعشرين لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي عقد مؤخرًا في جامعة قطر تحت عنوان “دول مجلس التعاون.. تاريخها وآثارها عبر العصور”.

تعريف الرحمانيات الرحماني تصحيف لمصطلح الرهماني المصحف عن مصطلح راهمانج، وهو تعريب لكلمة فارسية مركبة من شقين راه / نامه وتعني كتاب الطريق أو دليل الطريق أو سجل الطريق وهو يُطلق تحديدًا على مرشدات الملاحة البحرية التي يستخدمها نواخذة البحر كما يذكر الزبيدي في تاج عروسه أو الفيروز آبادي في قاموسه المحيط. وهي تنقسم إلى نوعين؛ رحمانيات قديمة مثل مصنفات ابن ماجد وسليمان المهري في القرنين 15 و16، ومصنفات المتقدمين مثل التمامي والمرزوقي والخضوري. أقدم الإشارات التاريخية لهذه المرشدات الملاحية جاءت عند الجغرافي والرحالة العربي المقدسي في القرن الرابع الهجري في «تقاسيمه» حين قال عند حديثه عن نواخذة منطقة المحيط الهندي: (…..ورأيت معهم دفاتر في ذلك يتدارسونها ويعولون عليها ويعملون بما فيها فعلقت من ذلك صدرًا صالحًا بعد ما ميزت وتدبرت ثم قابلته بالصور التي ذكرت). العثور على المخطوطة: يعود الفضل في العثور على هذه المخطوطة القيمة وإخراجها إلى الدكتور خوان أسيفيدو، وهو أحد أعضاء فريق مشروع (ERC RUTTER) الذي يعمل على دراسة التقاليد البحرية في العالم ويركز بشكل كبير على تاريخ الإبحار العربي في العصور الوسيطة والحديثة، وهو برنامج ممول من مجلس البحوث الأوروبي. قام أسيفيدو بكتابة مقال علمي رصين ورائع حول هذه المخطوطة الملاحية المهمة نُشر على الموقع الإلكتروني لجامعة هامبورغ في أكتوبر 2021م، وقد تواصل معه لاحقًا الباحث بدر العريمي لدراسة المخطوطة وتحقيقها.
العثور على المخطوطة:

التعريف بالمخطوطة ومؤلفها: نسخة المخطوطة موضوع الدراسة هي بعنوان «سلوة المهموم والعطر المشموم» ويُردف بعد العنوان: (في العلم المبارك المقسوم على العلامات والمجاري والنجوم في جميع الأقطار والأماكن بر العرب والهند والروم). توجد هذه النسخة في المكتبة الوطنية بلشبونة في جمهورية البرتغال وهي النسخة الوحيدة المعثور عليها حتى الآن، وهو أقدم رحماني للفترة الانتقالية عُثر عليه حتى الآن.
التعريف بالمخطوطة ومؤلفها:

أما المؤلف فهو عبدالله بن أحمد ابن الشيخ الفقيه عبدالرزاق ابن الشيخ محمد بن عبدالملك بن عبد الحق أبا الرجاء الجحفلي الأنصاري من مدينة صور بعُمان. أتم المؤلف كتابه في يوم الأربعاء 10 رمضان من العام 1243هـ والذي يوافق 25 من مارس للعام 1828م لكنه استغرق وقتًا طويلًا في إتمام هذا الكتاب فقد وثق تاريخ تدوينه لبعض المعلومات المتعلقة بمحتوى الكتاب في الأعوام التالية 1235هـ / 1820م، 1239هـ/ 1824م، 1242هـ / 1827م. تقع هذه المخطوطة في مجموعة كراسات رصت إلى بعضها البعض في (190) ورقة تقريبًا، متوسط الأسطر لكل صفحة حوالي 26 سطرًا، حوالي 117 صفحة منها عبارة عن جداول رقمية أي ما نسبته 62% من إجمالي صفحاتها وهي بلا غلاف.

مكوّنات المخطوطة: تتكون المخطوطة من عدة أبواب رئيسية وهي: جداول الميل اليومي للشمس: ويسميه الميل الأعظم، وهو مقدار ميلان الشمس عن خط الاستواء بالدرجات والدقائق في كل يوم على مدار 4 سنوات. وجداول المساج: والمساج هو مقدار الجري الزاوي للسفينة، أي مقدار ما قطعته السفينة من درجات ودقائق وثوانٍ على خطوط الطول ودوائر العرض وهي مهمة أيضا لاستخراج إحداثيات السفن لتحديد مواقعها. ومن ضمن المحتويات، جداول الأماكن والمواقع البحرية: وهي عبارة عن جداول تحتوي على إحداثيات الطول والعرض لبنادر ومرافئ معظم أجزاء جزر وسواحل المحيط الهندي.
مكوّنات المخطوطة:


وبالإضافة إلى ما سبق يتضمن رحماني سلوة المهموم موضوعات أخرى مثل: وصف المجاري الملاحية، شروح مفصلة للبروج الشمسية والمنازل القمرية، وصف بلدان العالم الساحلية (دورة الدنيا)، قبلة الصلاة، نصائح وتوجيهات عامة، أحكام فقهية تخص مجتمع السفينة وما قد يطرأ عليهم خلال رحلاتهم.

الأهمية التاريخية لمخطوط سلوة المهموم: لهذه المخطوطة أهمية تاريخية كبيرة تتمثل في عدة نقاط من بينها التعرف على المعارف العلمية عند نواخذة البحر في تلك الفترة؛ حيث نجد أن مُصنِف رحماني سلوة المهموم على دراية عميقة واسعة بعلم الفلك وعلم الجغرافيا والرياضيات والتقاويم الفلكية. كما تحتوي المخطوطة على مادة جغرافية دسمة للمواقع الساحلية خصوصًا فيما يتعلق بالأسماء القديمة التي اندرست أو قل تداولها ويحددها تحديدًا جغرافيًا، مثل: رأس الجمجمة وهو رأس الحد بولاية صور، بر الأطواح (من رأس الحد حتى مصيرة)، بر الأحقاف (من مصيرة وحتى رأس فرتك)، وأما البر (من فرتك وحتى عدن) فيسميه بر الجرن، كما يطلق على مضيق باب المندب (باب المندم) و (باب إسكندر). كما يفصل في جزر البحر الأحمر تفصيلًا دقيقا. كما تتطرق المخطوطة إلى العديد من المسائل التاريخية، بعضها متعلق بالتاريخ القديم وبعضها بالحديث، مثل: الأحداث التاريخية القديمة: قصة سيدنا نوح وأبنائه، والمكان الذي التهم فيه الحوت سيدنا يونس، وذرية سيف بن ذي يزن. وتشير المخطوطة إلى أنواع السفن المستخدمة في تلك الفترة وهي البغلة والغنجة. وتعرض المخطوطة لبعض أسماء الأعلام البارزة خلال فترة كتابته وبالأخص في المجال البحري، ومن بين من ذكرهم: ولد تباع بن خادم وكان يملك سفينة من نوع البغلة، ومحمد بن راشد الذي كان يملك سفينة من نوع الغنجة، ومسعود بن مسلم الذي كان يملك سفينة من نوع البغلة، وسليمان بن رجب ومالك بن أحمد بني جابر من سكان نيابة طيوي بولاية صور وكانا مسافرين على متن إحدى السفن الشراعية، كما يؤرخ لوفاة لشخص اسمه هزيم بن حارم الحكمان على ظهر السفينة. كما أن هناك إشارات متعلقة بحال المدن، فعند ذكر المؤلف للإحساء يقول عنها: «المدينة المشهورة تخت العلم وميدان العلماء ومورد عن الظمأ»، ويقول عن الظاهرة بأنها مورد تمور الفرض، والباطنة مورد التمر الباطني، ويتحدث عن أهمية ميناء صور في استراحة السفن لأغراض الصيانة والتزود بالبضائع التجارية. وأشار المصنّف إلى بعض الأحداث التاريخية المعاصرة، فهنالك إشارة مهمة من باب أن المصنف قد عاصرها وهي الحملات الإنجليزية على جعلان عام 1820، وذكر ما حدث فيها. كما تعرض رحماني سلوة المهموم إلى بعض الأحكام الفقهية وسنن البحر وأعرافه بأسلوب توجيهي وإرشادي؛ فهو يتناول كيف يجب أن تكون علاقة النوخذا بطاقم السفينة، وعلاقته بالمسافرين، الأمور التي من الواجب أن يلين عندها أو يكون صارمًا فيها.
الأهمية التاريخية لمخطوط سلوة المهموم:

يُذكر أن الباحث بدر بن ناصر العريمي حاصل على شهادة الماجستير في التاريخ من جامعة السلطان قابوس، ويعمل معلمًا لمادة التاريخ في مدرسة أحمد بن ماجد بصور، وهو عضو في الجمعية التاريخية العمانية، وجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون، وحضر عددًا من المؤتمرات داخل السلطنة وخارجها. المرجع: – العريمي، بدر بن ناصر. رحماني سلوة المهموم والعطر المشموم، ورقة عمل مقدّمة للملتقى العلمي الثاني والعشرين لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الدوحة، قطر 2023