أثير – د. رجب العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يبرز التحصيل الدراسي في مشهد الممارسة التعليمية اليومية كأهم قضايا التعليم ونواتجه، كونه يتربع في قمة اهتمام ولي الأمر والطالب على حد سواء، ومائدة نقاش موسعة في أروقة مؤسسات التعليم ولجان العمل والمتابعات اليومية التي تتم في وزارة التربية والتعليم، وتتجه الطموحات إلى أن تثمر جهود التطوير في السياسات والخطط وبرامج الشراكة التعليمية تحصيلا دراسيا يفوق التوقعات، ونماذج تعليمية قادرة على تمكين المتعلم من إتقان مهارات الحياة، هذا الاهتمام الذي يتفاعل مع التحصيل الدراسي يعبر عن وعي مجتمعي وقناعة بدور التحصيل الدراسي كمؤشر لجودة التعليم وقدرته على الوفاء بتعهداته والتزام مؤسساته نحو المجتمع والوطن من أجل بناء قدرات جيل المتعلمين.
والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل ما يثار حول التحصيل الدراسي وما باتت تفصح عنه مشاهد تكريم الطلبة المتفوقين تحصيليا دون غيرهم على مستوى المدارس والمديريات التعليمية والوزارة، هو: ما نوع التحصيل الدراسي الذي يمكن أن تُبني عليه الأطر التقييمية لنظام تعليمي ساع للتطور وتطبيق المعايير الدولية؟ فعلى الرغم مما يرصده الواقع من اهتمام بالتحصيل الدراسي والجهد المبذول من أجله على مستوى وزارة التربية والتعليم خصوصا، إلا أن هذا المفهوم يطرح اليوم استفسارات عدة حول فلسفته ومنطلقات عمله ودور الخصوصية المجتمعية في تشكيل مساره، في إطار دور التعليم في تعزيز الهويات وترسيخ منظومة قيمية واعيه في ظل وجود مقومات فكرية وتنظيمية وجهود رائدة تستجلي نمط الاهتمام العالمي ونستقرئه في واقع العمل التربوي، وبالتالي آلية التعاطي معه وطريقة فهمه في سلوك الإنسان العماني وفلسفة التحصيل التي يبني من خلالها شخصيته، بما يؤصل لثقافة البحث عن الاستثمار في التحصيل الدراسي كمنتج تعليمي، وبمعنى آخر كيف يمكن تحويل النظرة الحاصلة للتحصيل الدراسي من كونه غاية إلى وسيلة لعمل راق وسلوك مؤسسي تتفاعل مع معطياته وصياغته كل مؤسسات الدولة، ومستوى الاستجابة المتوقعة من قبل ولي الأمر والمجتمع في ذلك، مع وجود مؤشرات تساند وزارة التربية والتعليم في سعيها لتغيير هذه القناعة لدى الشركاء من خلال ما يظهر من إلحاق خريجي شهادة الدبلوم العام للبرنامج التأسيسي الأكاديمي، ومستويات القبول التي تشترطها مؤسسات التعليم العالي الخارجية والداخلية من مهارات الدراسة لدى الملتحقين بها، فإن الحديث عن التحصيل الدراسي في ظل مرحلة إنسانية تتجاذبها المتغيرات الحاصلة في منظومة البناء الفكري للمتعلم يتطلب من نظام التقويم والمنتج التحصيلي أن يعمل على إعادة تجديد مسار عمله ليتكيف مع مستوى التحول المطلوب في شخصية المتعلم، وضمان قدرته على التفاعل مع أحداث مجتمعه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتنموية ليصبح التحصيل حياة مستمرة ومرحلة من الترقي الإنساني في فهم مراحل التطور والمشاركة بها.
من هنا كانت الحاجة إلى قراءة معمقة للتحصيل الدراسي تقرأ مستوى التنوع في الأنشطة والبرامج، والمساحات المتاحة للمتعلم في التعبير عن خياراته واختياراته ومشاركته في تحديد نمط تعلمه، بالإضافة إلى معرفة أسباب التقييد ومستويات التقنين، ومواقف المنع التي تستهدف ضبط سلوك الطالب وإتاحة فرص أكبر له في بيئة التعلم، على أن تقنين هذه المسألة يرتبط بثقافة بيئة التعلم وطبيعة الثقافة السائدة بها، وآليات التعامل ومنهجياتها. وبالتالي إلى أي مدى يراعي التحصيل الدراسي وأدوات تقييم الطلبة، وخصوصية الطالب والموقف التعليمي والحاجة إلى اتخاذ خطوات ضبطية ونوعيتها، ويعالج فاقد التطبيق الناتج عن إشكالية الفهم، في طريقة رصد المهارة أو تقنين الموهبة بالشكل الذي يجعل من منظومة التحصيل الدراسي ذاتها، متناغمة مع قناعات الشركاء من أولياء الأمور والممارسين، بما يتيح فرص بناء مسارات أوسع للطالب تعزز من قدرته على تحقيق معادلة الضبط الطلابي، بحيث تراعي جانب الفروق في الاستعدادات والقدرات، واستلهام التنوع الحاصل في بيئة الصف الدراسي لتشكل مدخلا لبناء معايير أداء، ومنطلقات للتعرف على أفضل الآليات والأساليب المناسبة.
وبالتالي توجيه مسار التحصيل نحو التأثير والأثر والمبادرة والإنجاز والمهارة والحافز، فالتعليم القائم على تنمية مهارات الاستقلالية والنقد البناء والتحليل والدراسة والتشخيص والحوار وحل المشكلات، ومدى اقترابه من مواهب الطلبة واهتماماتهم ورفع سقف التوقعات الذاتية لديهم، يجعل من أمر إيضاح الصورة المنشودة في التحصيل الدراسي ومعالجة ما يحصل من سوء فهم نحوه من أهم الأمور التي ينبغي أن تضعها وزارة التربية والتعليم والمدارس في الحسبان، وبالتالي تعزيز جانب النصح والتوجيه بشأنها وتمكين الرسالة الإعلامية والتربوية من إيضاح إطار العمل الذي تعمل خلاله نظم التقويم وآلية متابعة أداء الطالب وأنشطته في قاعات الدراسة وبيئة المدرسة، وتوفيرها بدائل متعددة ومهارات جديدة ترتبط بمهارات المستقبل والمهارات الناعمة والتقنية باعتبارها أهم مرتكزات أي تحول قادم ينشد من التحصيل الدراسي المنتج والمبتكر، منسجمة مع الجهود الدولية في الأنظمة التعليمية المتطورة لإعداد المتعلم للتعامل مع أنشطة القدرات العليا والاستجابة للمعايير الدولية في الاختبارات التي تتناول مهارات الطلبة وتركز على توجيه العمل نحو ترقية هذه المهارات وتوظيفها في حياة الطالب الشخصية والوظيفية والمهنية والرقمية، لفهم أعمق لموضوع التحصيل الدراسي ذاته بتغيير قناعات المتعلمين نحوه بحيث يجد في المدرسة وبيئة التعلم فرصته في إتقان المهارات العليا وتغيير نمط التفكير وأساليب التعليم والتعلم ونظرياته داخل الفصل الدراسي، بما يعزز من قدرة المتعلم على إدارة نطاق تعلمه، وتمكينه بنفسه من اكتشاف مواهبه وقدراته واستعداداته والتفكير الابتكاري خارج الصندوق بشكل يضمن له نموا في البدائل وكفاءة في اكتشافها، وحضور مستويات عليا من التفكير وتقدير المهارة الناتجة؛ فإن أي توجه يراد من التعليم المدرسي أن يحققه على مستوى بناء المهارات الناعمة للطلبة أو التنويع في المسارات أو تعظيم المواهب الطلابية أو تعزيز مفهوم التعليم المنتج، يجب أن ينطلق من مراجعة للتحصيل الدراسي محدداته ومنطلقاته وغاياته وآليات تنفيذه بما يتواكب مع الحالة العمانية بكل نجاحاتها أو تراجعاتها في إطار أنساق قيمية وثقافية واجتماعية مرتبطة بخصوصية الإنسان العماني وهويته الوطنية وما يراد له من تقدم وتطور، وتراعي كل المتغيرات التي ترتبط بسلوك الإنسان العماني وظروفه الاقتصادية والمعيشية، ثم تعالج في إطار البيئة العمانية بما يتوفر فيها من مقومات وفرص وما يحصل فيها من تحديات ومنغصات، وتطويعها لتحقيق مستهدفات رؤية عمان 2040.
أخيرا يبقى التحدي الأكبر للمدارس والممارسين التعليميين هو كيف يمكن جعل التحصيل الدراسي لغة حالمة (لغة التفكير والابتكار والموهبة والمنافسة والحياة) تتجاوز الدرجة الامتحانية للطالب وحصوله على تقدير عال ومستوى +90% إلى البحث في أعماق التفاعل ووجدانيات المشاعر، ونظارة الفكر وصخب القريحة، وهدوء السلوك ورقي الممارسة، إنها تبحث في جانب الابتكار والاختراع والمنافسة، وتتفاعل مع حجم ما يمتلكه المتعلم من قدرات واستعدادات ورغبة في التعلم ومهارات الحياة في البيت والمجتمع والتعامل مع المواقف وإدارة الأزمات وحل المشكلات وحسن التصرف وامتلاك صنعة يتقنها الطالب ويبرز وجهها الأجمل المشق في حياته، تظهر في مشاركته الإيجابية في إعادة هندسة الواقع وإثبات بصمة حضور له، ونقله إلى الخيال العلمي والأدبي والفكري الواسع ، والأخذ بيديه نحو بلوغ المعالي، والانطلاقة به نحو تلمس النجاح فيما تفوق فيه، إنه اكتشاف الموهبة وإدارة روح المبادرة وصقل القدرات وصناعة القدوات، لذلك لا ينبغي أن يُقلّص دوره في درجة أو يُحجم حراكه في ضجيج طالب ونشاطه في الفصل دون غيره، بل قد يكون في صمته وهدوئه مكمن الإعجاز وسبيل الجدارة، فليكن التحصيل الدراسي طريقنا للبحث في عمق الإنسان والدخول في تفاعلات الصندوق لنكتشف خلاله جماليات صنع الله في مواهب أجيال عمان وقدراتهم، ويبقى ما نشاهده اليوم على مستوى تكريمات وزارة التربية والتعليم والمدارس من اهتمام بالطلبة ذوي الدرجة التحصيلية العالية على حساب المواهب والقدرات، انتحار للكفاءة وقتل للإرادة، واختزال مفرط لروح التغيير التي يجب يصنعها التعليم في مخرجات، تلكم الروح التي يبقى أثرها حاضرا في واقع حياة الطالب لا تنتهي بانتهاء المرحلة الدراسية أو تغلق صفحاتها بانتهاء العام الدراسي واختبار المادة، فهل ستعاد قراءة التحصيل الدراسي في فلسفة التعليم بسلطنة عمان -حقيقة واقعية- في ظل المهارة والقدرة والاستعداد والتأثير أم ستظل في اجترارها المعرفي وسطحيتها المزيّفة؟