أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
مع صدور قانون التعليم المدرسي بالمرسوم السلطاني (31/ 2023) ظهرت العديد من الافتراءات والأكاذيب الباطلة، والتي أفصحت عن الوجه السلبي البغيض التي باتت تصنعه الشائعات ويمارسه المروجين لها في حياة المجتمع، خاصة ما يتعلق منها بالمادة (92) والتي فرضت العقوبات على ولي الأمر إن لم يلتزم بإلحاق ابنه في الدراسة ومتابعته دراسيا، وبدأت الشائعات تنسج عبارات التهكم والسخرية، والاستهجان والاستخفاف بأولياء الأمور، أو تتداول على سبيل النكت والضحك عبر المنصات الاجتماعية وجروبات الواتس أب، وغيرها من المواقع التي تضع الشائعة طريقها للظهور، ومسارها للشهرة، والحصول على المتابعين، وبدأ تفسير هذه المادة يأخذ أبعادا أخرى في غير محلها، وأن قانون التعليم المدرسي جاء مهددا لأولياء الأمور واضعا إياهم في قفص الاتهام، بما تستهدفه من زعزعة ثقة المواطن في النظام التعليم وتشويه الصورة الإيجابية التي يصنها هذا القانون كاستحقاق وطني يتناغم مع أولويات رؤية عمان 2040 وحكومة التعليم ومحطة قادمة لإعادة هيكلة مؤسساته وبرامجه. من هنا تأتي قراءتنا لهذا الموضوع وفق النقاط الآتية:
أولا: أن المادة (92) إنما أقرت عقوبة السجن والغرامة المالية أو بإحدى هاتين العقوبتين، على ولي الأمر العقوبة في حالة عدم تحقيق ما ورد في المادة (24) التي نصت “التعليم الأساسي إلزامي لجميع الأطفال الذين يبلغون سن (6) السادسة، ويلتزم به ولي الأمر… “، والمادة (26) “يجب على ولي أمر الطالب تسجيله في الصف الأول من مرحلة التعليم الأساسي خلال الموعد المحدد لذلك عند بلوغه السن المقررة للقبول، ومتابعة انتظامه في الدراسة حتى إتمام هذه المرحلة” كما حددت المادة (27) “يستمر الطالب في مرحلة التعليم الأساسي حتى اجتيازها أو إتمامه سن (17) السابعة عشر”؛ إنما يرتبط بشرطية الإعلام اليقيني التام لولي الأمر، من إدارة المدرسة وإشعاره بعدم انتظام الطالب، فلا يعاقب إذا تراخت المدرسة في ذلك، وهذا الإعلام من المدرسة يفترض ألا يأتي هكذا استعجالا أو دفعة واحدة، بل يفترض أن إدارة المدرسة لديها المعلومات الكافية التي يمكنها استيعاب حالة الطالب وظروفه، ويستدعي ذلك وجود حوارات ولقاءات مع ولي الأمر، ومتابعات لسلوك الانتظام اليومي للطالب، وبرنامج عمل مشترك تقوم به المدرسة مع ولي الأمر في التقصي والمتابعة والتحقق، فتتكون لدى ولي الأمر مع إدارة المدرسة وأعضاء الهيئة التعليمية مساحة أوسع للتفكير في العلاج واحتواء الموقف، وإلا فإن إدارة المدرسة تتحمل هذا الإخفاق الحاصل وهذا التراخي الذي يعفي ولي الأمر من العقوبة.
ثانيا: أن المواد المشار إليها في أولا، تعطي مفهوم الالتزام سلوك الاستدامة وتعميق الشعور بأهميته حتى يسكن في فكر ولي الأمر وتتشرّبه نفسه ويتفاعل معه وعيه وضميره، بما يتسم به من تدرج في مسار الالتزام والذي يبدأ بتسجيل الطالب في الصف الأول ثم متابعة انتظامه في الدراسة حتى إتمام هذه المرحلة، بما يؤسسه من المسؤولية والوعي الذي يرافق ولي الأمر والذي من خلاله يدرك مسؤولياته وواجباته اتجاه حقوق ابنه أو القائم على رعايته، وأن يقوم ولي الأمر بدوره الأبوي أو كراع لهذا الطالب أو الطالبة، وهو أمر يتم بعد أن تتحقق له درجة الإعلام التام والمعرفة الأكيدة بمواعيد تسجيله في الصف الأول الأساسي وفق التعليمات والإجراءات التي تقرها وزارة التربية والتعليم عبر مختلف الوسائل الإعلامية وعبر الرسائل النصية وغيرها مما لا يدع مجالا أو مبررا لولي الأمر في عدم معرفته بهذه المواعيد، وأعطت المادة (92) “14” يوما لولي الأمر في إتمام إجراءات التسجيل وهي مدة كافية في ظل ما يتخللها من حملات وطنية مكثفة في التوعية والتثقيف على مختلف وسائل الإعلام، والمتابعات الميدانية والزيارات المباشرة، وتغطيات المدارس لروافدها ومديريات التربية والتعليم ودور المحافظات وأعضاء المجالس البلدية وغير ذلك.
ثالثا: أن تنفيذ هذه العقوبة إنما يرتبط بالطالب في التعليم الأساسي دون غيره، من التعليم المبكر وما بعد الأساسي، كونه حق أساسي للطالب في سلطنة عمان، وعدم وفاء ولي الأمر بأداء هذا الحق جريمة تعرضه للعقوبة، ذلك أن مجانية التعليم الأساسي وأن الدولة ترعاه وكفلت لهذا الطالب الحصول على المقعد التعليمي والبيئة المريحة ووسيلة النقل الملائمة والكتب والمواد الدراسية على أيدي معلمين متخصصين، بدون أن يتكلف ولي الأمر مسؤولية دفع استحقاقاتها المادية، وبالتالي يصبح التخلي عن هذا الحق جريمة يعاقب عليها القانون ما دامت لا توجد أسباب صحية أو غيرها تمنع الطالب من التحاقه بالمدرسة. انطلاقا من المادة (46) التي أجازت للوزارة السماح بالدراسة المنزلية أو التعلم عن بعد للطلبة الذين تقتضي ظروفه عدم الانتظام في الدراسة، هذه المادة مساحة أمان للطالب الذي تتجه الظروف إلى عدم قدرته على الانتظام في الدراسة بالمدرسة بأن تمنحه حق التعلم في البيت، كما يؤصل فقه الالتزام في ولي الأمر ويقلل من أهمية المبررات التي يختزل فيها هذا الحق، كأن يسكن في أماكن بعيدة (أعالي الجبال والمناطق المنخفضة) التي يصعب الوصول إليها بشكل يومي أو استخدامها سيعرض الطلبة للمخاطر.
رابعا: أن هذه العقوبة في المادة (92) في قانون التعليم المدرسي؛ جاءت للحد من بعض التحديات والمشكلات والممارسات التي واجهتها وزارة التربية والتعليم لفترات طويلة والتي كان لها تأثيرها السلبي في زيادة الفاقد التعليمي خاصة ما يتعلق منها بالفاقد الإحصائي في تسجيل طلبة الصف الأول من التعليم الأساسي والذي يظهر فيه أن بعض أولياء الأمور لا يسعون لتسجيل أبنائهم في الصف الأول، بالإضافة إلى الحد من بعض الممارسات الاجتماعية لدى بعض أولياء الأمور في استعجال تزويج ابنتهم القاصر في سن التعليم الأساسي ومنعها من الدراسة في سن مبكرة، الأمر الذي يؤدي إلى انقطاعها عن المدرسة، وتشير الإحصائيات إلى ارتفاع نسبة جنوح الأحداث ومساهمتها في تصنيف الجرائم في سلطنة عمان حيث أشارت إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن ما نسبته 3.8% نسبة الجناة من الأحداث ممن هم دون سن الثامنة عشر أي في مرحلة التعليم الأساسي يمارسون جرائم المخدرات ويتعاطون المؤثرات العقلية، بالإضافة إلى ذلك ارتفاع حالات الطلاق والخلع في المجتمع وزيادة تعقد العلاقات الأسرية التي يذهب ضحيتها الأبناء في عدم وجود من يحتويهم أو يحميهم أو يرعاهم نظرا لما تولده مشكلة الطلاق من انتهاك صارخ للحقوق وتجاوزات تفوق قدرة الأبناء على التحمل والاستمرارية ناهيكم عن الضغوط النفسية والفكرية التي تتولد لديهم مما قد يضطرهم إلى ترك الدراسة.
خامسا: أن إيقاع هذه العقوبة المشار إليها في المادة (92) لا تتحقق إلا بعد استيفاء المؤسسة التعليمية لواجباتها ومسؤولياتها بشكل كامل، وعلى سبيل المثال أشارت المادة (43) إلى أن للطلبة الحق في الحصول على تعليم ذي جودة عالية، وفصلت المادة (49) هذا المفهوم من خلال جملة الضوابط التي تقوم بها الوزارة لضمان حصول الطلبة على هذا الحق، وهي حقوق تتسم بالتكاملية والترابط وأن الخلل أو التقصير في تحقيق أحدها لا يعرض ولي الأمر للعقوبة، عندما يظهر لدى الابن أو القائم على رعايته عدم الرغبة في مواصلة التعلم بسبب أن البيئة التعليمية والمدرسية غير قادرة على تحقيق طموحاته وأولوياته في بيئة تعليم وتعلم آمنة وجاذبة، أو أنه لم يكتسب المعارف والمهارات والقدرات والكفايات المحددة في مرحلة التعليم الأساسي بشكل صحيح لقصور دور المؤسسة التعليمية أو المعلم أو زيادة عدد الطلبة في الفصل الدراسي وقلة فرص المشاركة والاهتمام الممنوحة له، أو أنها معلومات نظرية لا تعكس مسارات الحياة والظروف التي يعيشها الطالب، أو لا تلبي تطلعاته ولا تقف على ظروفه ولا تخفف معاناته، أو يجد فيها حالة من التكرار والاجترار المفضي إلى الملل وعدم الرغبة في التعليم، أو كذلك لم يستفيد الطالب من الأنشطة والبرامج ومصادر التعليم في المدرسة إما لقلة تنوعها أو ضعف فاعليتها أو أنها تتسم بالتكرارية أو أن ممارستها تتم في إطار غير عادل يتعرض فيها الطالب لحالة من التمييز الوارد في المادة (42) أو التمييز بسبب التحصيل الدراسي وعدم حصوله على هذا الحق كجزء أساسي من تعلمه، وحق من حقوقه لا ينازعه عليه أحد أيا كان، أو أن الطالب لم يحصل على الرعاية الصحية المناسبة سواء كانت الصحة البدنية والنفسية والفكرية، كأن يتم تعطيل الرياضة البدنية في المدرسة واستهلاكك حصص المهارات الفردية في إنهاء المنهج الدراسي أو عدم وجود معلم متخصص لهذه المهارات التي ينمو فيه جسد الطالب كما ينمو فكره وتصفو نفسه في سلام وأمان، وينطبق على ذلك القصور في تحقيق المادة (45) “على الوزارة أن توفر الخدمات اللازمة لتعزيز الصحة النفسية والبدنية والاجتماعية وخدمات التوجيه والإرشاد المهني للطالب”، بما يعنيه ذلك من أن الحصول على هذه الخدمات حق للطالب، وإن التقصير في تحقيق هذه المسؤولية بالشكل الصحيح مما ساهم في تنفير الطالب من المدرسة يلقي بالمسؤولية على الوزارة والمدرسة والهيئات التعليمية ويوجب عليها تصحيح الأدوات والتنويع في الوسائل وامتلاك أدوات توجيه قادة على أن تترك أثرا، كما تستخدم آليات وبرامج وموجهات أكثر ابتكارية يتفاعل معها الطالب وغيرها ذلك كثير، إن بقاء هذه الجوانب طرفا سلبيا في معادلة الانتظام والانضباط، لتكون النتيجة المترتبة عليها انقطاع الطالب من المدرسة وتحججه بالأعذار في عدم مواصلة الدراسة أو أن تتسبب في أضرار نفسية وفكرية وغيرها، لن يكون ولي الأمر في هذه الحالة سببًا في هذا الوضع، بل المؤسسة التعليمية ذاتها لذلك ينتفي تطبيق هذه المادة لأن المدرسة لم تفي بدورها.
سادسا: إن قانون التعليم المدرسي جاء محافظا على حقوق أولياء الأمور ودافعا لهم نحو مشاركتهم في العملية التعليمية، ومحققا لطموحاتهم في تعليم أبنائهم بالحصول على تعليم ذي جودة عالية يشعر فيه الطالب بالأريحية والثقة والاحتواء والكفاءة والاحترام والمشاركة وإبداء الرأي، ويعطي ولي الأمر فرصًا أكبر لإثبات حضوره في المدرسة، فجاء قانون التعليم داعما لولي الأمر في هذا الحق وطمأنته بأن ابنه سيحصل على تعليم عال الجودة، وإن المدرسة قادرة على احتواء الطلبة، ووقايتهم من الانحراف العكسي في ظل ما اشارت إليه المواد (47/48/ 94) من القانون حول الانضباط السلوكي، بل أنه استطاع أن يحصل على إجابات وافية ومقنعة للكثير من التساؤلات التي يطرحها، وباتت تشكل هاجسا له في تعليم ابنه، خاصة ما يتعلق منها بمساحة الأمان الممنوحة لابنه في حافة النقل المدرسي، ودور المدرسة في رفع التحصيل الدراسي للطالب، ومسؤولية المدرسة في توفير بيئات الأمان النفسي والفكري، وترسخ القيم التي هي مصدر فخر واعتزاز أولياء الأمور بتحققها في أبنائهم وفلذات أكبادهم، والواجبات البيتية، والتكاليف المالية التي يتحملها ولي الأمر في الحصول على الأنشطة والبحوث لابنه من المكتبات، أو ما طرحه من تساؤل: من المعني بتدريس الحلقة الأولى من التعليم الأساسي، الطلبة أم الأمهات؟ في ظل مساحة التجاوزات في هذه التكاليف التي تضع على جهود المدارس علامات استفهام كبرى.
أخيرا إننا على ثقة بأن قانون التعليم المدرسي القوة الناعمة للتعليم المدرسي، فلا يقلق ولي الأمر مما يثار حول حقوقه، فإن قانون التعليم المدرسي لم يأتي مهددا لولي الأمر؛ بل محفزا وداعما له، ومحافظا على حقوق أبنائه، مؤطرا لعلاقة التكامل والترابط بين المدرسة والبيت، في ظل الممارسات الأخيرة التي اتجهت إلى إقصاء مشاركة ولي الأمر في المدرسة وغياب الفرص المتاحة له في متابعة ابنه دراسيا وسلوكيا واقتصار ذلك على لقاء أولياء الأمور الذي تنفذه المدارس بواقع لقاء واحد في الفصل، ليصنع قانون التعليم المدرسي استحقاقات كبيرة لأولياء الأمور وفرص يبقى الرهان فيها كيف يمكن أن يستثمرها ولي الأمر ويصنع في ظلها الفارق؟