فضاءات

الروائي الأردني جلال برجس يكتب عبر “أثير”: حين تسكننا الأمكنة

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – الروائي الأردني جلال برجس

أي بقعة خدشت رئتيَّ فيها أول دفقات الهواء؟ إنها (حنينا) قرية تقف صورتها الأصلية أمام صورتها الحالية، وقد تحولت إلى كومة أسمنت شرقية ببيوتها العتيقة، وغربية فعلت الهندسة فعلها فأنجبت بيوتًا حديثة. حنينا التي أعرفها هي نسخة عام 1977، وليست نسخة 2023؛ بيوت قليلة من الحجر والطين تتناثر كثآليل على ظاهر يد حنطية اللون. صباحها سماء يتصاعد فيها دخان الطوابين كمردة تبحث عن سر في طبقاتها العالية. روائحها: اختلاط الندى بالأشياء. القهوة وهي تُعَد للمواعيد المبكرة. خبز طازج تلقيه إلى صيجان، تعتمر رؤوس النار، أياد نساء سمراوات، ممشوقات القوام يقرفصن قرب النار كقفلة قصيدة تتبع مدارج اللهفة. أصواتها: صياح الديكة وهي تقف بنرجسيتها على الأقنان، والسلاسل الحجرية. تهليلات جدي وباقي الكهول وهم يفركون عيونهم بأول الشمس. صوت المهباش وهو يسحن حبات البن المحمصة، باب نهار جديد. أجراس الماعز والشياه وهي تيمم شطر المشارق حيث الاخضرار البكر.

رأيت جدي ذات مرة يحمل (دَلَّة) القهوة العربية من حضن كومة من جمر (الجفت)، نوى الزيتون، ويمشي مسرعًا نحو رجل بدا عليه الاستعجال، فلم يقبل الدعوة على الغداء. سكب له ثلاثة فناجين من القهوة شربها وغادر. قلت له يومها: لماذا أصريت على أن يشرب القهوة؟ أجابني وهو يدفع بعقاله إلى الوراء: لأنه ضيف. والضيف ضيف الله، فكيف لا أفعل ما رأيت. تساءلت من جديد: ولماذا القهوة تحديدًا؟ عدَّل من جلسته قرب (كانون) يتقد فيه الجفت ويمنح اللحظة دفئًا قبالة برد شتاء تلك السنة. مسح على رأسي بيده، ثم طوَّق كتفيْ بذراعه، وجذب جسدي الضئيل نحوه ثم راح يشرح لي. مرت سنين لم أنس ما قاله جدي عن الضيف، والقهوة لأنه قال ما يؤمن به. القهوة عند البدو تصريح مجازي يؤدي إلى الوئام، والنشوى، والكرامة. يحل الضيف؛ فيسقى ثلاثة منها: الأول للضيف؛ إذ أن له صدر مكان آمن لا لبس فيه. وله أعالي المحبة. وله ألا يسأل عن شيء إلا بعد ثلاثة أيام وثلث. والثاني للكيف؛ قفزًا عن التعب، وتجاوزًا لما يهدد المسرة، وذهابًا إلى اتزان النظر والسمع والشم والذوق لتبتكر اللحظة. والثالث للسيف؛ عهد بين الضيف والمضيف بأن يتعاونا على صد أي عدوان.
مكاننا الأول بصمة ترافقنا حتى في تنقلنا بين أمكنة أخرى لا تخصنا؛ له صور تطغى على صور أمكنة لاحقة تتلقفها الذاكرة بدهشة، مع ذلك هي لا تساوي ما تفعله بنا أشياؤنا، وأحداثنا الأولى. أمر يجيء من سر الحنين الذي مرة يثير فينا الرغبة بالبكاء، وأخرى يرشقنا بشكل طريف من الحب. أو ربما هي زاوية شعرية تُري كل إنسان ما في جهاته الأربع. أشيائي الأولى في حنينا، وباتت مع الأيام مثل الخيط الناظم بين كل ما عشت.


حدث ذات مرة أني رأيت كومة حطب تصعد الطريق نحو بيت جدي؛ فأصبت بالذعر. لم أكن أدري أن الشِّعر، هو أن ترى كومة حطب تمشي. ولم أكن أعي أن ما رأيته سيقودني إلى القصيدة في ليلة ماطرة لها الكثير من الوحشة، والقليل من الأمل.  كانت أمي في تلك اللحظة الملتبسة تعلّق الملابس على حبل الغسيل حين أحتضنها صارخًا: أنظري، إن الحطب يمشي. لم أدري أن زوجة جدي الثالثة (حميدة) ذات القامة القصيرة، تحمل حطبًا على رأسها قادمة من الوادي. للأشياء صورتان: واحدة نراها بعين الشعر، وأخرى بعين الرواية. حياتنا إذن قصيدة، وراوية، كلٌ منا يسعى إلى كتابتها ليستريح، لكنه لن ينال ذلك.

Your Page Title