أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
ذاكرتنا العربية الثقافية انتقائية بحسب حاجات الحاضر وظروفه ومعطياته السياسية غالبا. تنسى وتتذكر وفق معطيات كثيرا ما تكون فيها الظرفية الطارئة هي المتحكم الأول كالموت أو تكريم آخر العمر أو غيرها. لهذا يتم النسيان بعدها مباشرة وكأن هذا الإنسان أو ذاك لم يكن موجودا أبدا، ولم يكن رافدا ثقافيا مهما وقت التصحر المتوسع في الجسد العربي المكلوم، وعقلا متنورا في عز الحرب البدائية واليقينية، المعلنة ضد العقل النقدي الفعال.
الدكتور فيصل دراج، جزء حي من هذه الذاكرة المعطلة للأسف التي بدأت الأضواء تنسحب عنها مخلفة وراءها فراغا وظلمة قاسيين. يعرفه أهل التخصص جيدا، وكل من اشتغل في النقد، وواجه، من خلال كتبه، صرامته وجديته وصعوبة فهمه أحيانا. فقد كان دوما خلاقا وسباقا في جهوده النقدية الحداثية الكبيرة التي وضعت النقد العربي على حافة التساؤل: هل النقد مجرد رأي في كتاب أو في قضية؟ أم هو شيء أعمق من ذلك، يمس آليات تفكيرنا اليوم لتقويمها وإعادة بنائها جذريا، في مجتمعات حرمت من هذا الحق بسبب الاستعمارات المتعاقبة والأنظمة اللاثقافية المعادية للإنسان، التي خلفتها وراءها؟ بهذا المنطق يتخطى النقد وجهة النظر باتجاه إعادة بناء الإنسان كليا. تابعت الناقد الكبير فيصل دراج، عن قرب، منذ أن كنت طالبا في دمشق الشام أعد رسالة دكتوراه بين جامعتي دمشق والسوربون، التي أدرِّسُ بها اليوم. منذ اللحظة الأولى اقتربت من أطروحاته في تجديد الفكر العربي. كنت فخورا بجهوده، وتابعته في مشاريعه العقلانية الكثيرة التي تركت وقتها أثر كبيرا في الساحة الثقافية السورية والعربية، مع الروائي العربي الكبير عبدالرحمن منيف، والمسرحي المميز سعد الله ونوس، وكنت مساهما متواضعا بالمشاركة فيما كانوا ينشرونه، وأشهد أني تعلمت الكثير من تلك الأيام.
وعلى الرغم من هيمنة المدرسة الكلاسيكية النقدية العربية على مجمل النشاط النقدي الجامعي العربي، فقد كانت المنطقة المغاربية التي جئت منها، في أوج النشاط النقدي البنيوي، بمختلف مدارسه، وكانت جهود المدرسة الشكلانية الروسية التي قدمها تودوروف توفيتان تدرس في الجامعات وتترجم جهودها المعرفية. كانت النقد التاريخي ينسحب مخلفا وراءها نقدا يكبر داخل الحماس غير المؤسس معرفيا أو رفض المؤسسة النقدية العربية التي كان عرشها قد بدأ يهتز بعنف. فيصل دراج كان من الأقلية النادرة التي نادت وقتها بضرورة تجديد المؤسسة النقدية المترهلة التي كانت تعيش في دوامة التكرار دون القدرة على تحقيق القفزة النوعية، فمد الجسور الثقافية العالمية نقديا مع أسماء كبيرة ظلت سجينة الرؤية الستالينية للثقافة، مثل باختين الذي كان يشكل ظاهرة نقدية كبيرة انفتح عليها النقد العربي متأخرا كثيرا، لأنها تجمع بين نصية النص والتعددية الصوتية في الرهانات اللغوية الروائية التي طبقها على دويستوفسكي. الأمر الذي ضمن قراءة نقدية متكاملة، على العكس من الرؤية التاريخية للنقد التي كانت جعلت من النقد والكتابة أيضا مجرد صدى للإيديولوجيات المهيمنة وقتها. كما انفتح على جهود لوسيان غولدمان صاحب البنيوية التوليدية، وسيسيولوجيا الذي شكل مسارا مستقلا في البنيوية التي ربطت النص بالتعبير عن المجموعة الاجتماعية، وليس عن الطبقة كما في الأطروحات الاشتراكية السابقة، فالكاتب قد يخون طبقته ويكتب عن كل ما يقوضها ويهدمها مثال بلزاك وتولستوي بشكل من الأشكال. يجب أن نقول إن مثل هذه المدارس النقدية الغربية، كانت ما تزال مغيبة في المشرق العربي في أواسط السبعينيات حيث ظل النقد التاريخي هو سيد كل شيء. ولم يخرج من دائرته الضيقة إلا مع كوكبة من النقاد العرب المميزين، على رأسهم فيصل دراج الذي انتقد الثبات والدوغما، قبل أن تأتي بعده كوكبة من النقاد غيرت نظام رؤية النص الأدبي، الروائي تحديدا.
لنا أن نطرح بعد هذه الجهود الكبيرة التي بذلها فيصل دراج وجيل حداثي بكامله، السؤال المعرفي الضروري: ما هي مآلات التجربة النقدية العربية الحداثية؟ لماذا ظلت حبيسة المحلية اللغوية والقومية؟ هل السبب لغوي إذ أن اللغة العربية، مهما قلنا عنها، تظل حبيسة عالم عربي غير متيقن بجدوى لغته، لهذا كثيرا ما اختار عليها لغات الهيمنة لدرجة أن نتساءل إن كانت اللغة العربية ستستمر في الحياة في تعاملنا القاصر معها، إما بدفنها في عمق الدين بمعناه الأكثر ضيقا، أو تفضيل تعليم اللغات الأجنبية على حسابها. أم أن السبب الجوهري يعود إلى كونها تحت ضغط “إمبريالية لغوية” لا تسمح للعربية بالانتشار؟ أو لا هذا ولا ذاك ولكن السبب يعود إلى كون ما قدمته التجربة النقدية العربية لم يرق إلى الأطروحات العالمية يمكن أن نفصل في أسبابها على رأسها الحرية المحجوزة عربيا حتى إشعار آخر، إذ كيف يمكن، في المجال النقدي تحديدا، الحديث عن تجربة نقدية حقيقية في غياب كلي للحريات العامة. الحدود الحمراء تؤطر بشكل واع أو لا واع المساحات النقدية.
فيصل دراج لامس هذه المعطيات التاريخية والنقدية عن قرب. ولكن المشكلة الكبرى هي أن هذا النقد الثقافي العالي القيمة يعاني من معضلات عدة غير المشكلة اللغوية التي تجعله رهين محليته. لقد أفرز النقد العربي ترسانة من المسلمات غير الدقيقة، حاول فيصل دراج بجهوده الكبيرة المتفتحة على المنجز الفكري العالمي أن يذلّل بعضها، لكن المشكلة ظلت قائمة. فقد مال النقد العربي الاستهلاكي السريع، في العشرين سنة الأخيرة نحو السهولة الكبيرة في التعامل مع الظواهر الأدبية، وغطى على كل الجهود المعرفية، ولم يتوقف ولا مرة واحدة بصرامة وجدية ليتأمل منجزه بالكثير من التبصر وقليل من التواضع. فيقوم بالعمل الذي يفترض أن يقوم به ما دام يرتكز على المعرفة المسبقة، كما فعل الناقد الكبير تزفيتان تودوروف، قبل سنوات قليلة، عندما وقف، وفي يده مشرط النقد الذاتي في التفاتة غير مسبوقة، فانتقد الرحلة النقدية التي تفصل النقد عن دوائره الاجتماعية الطبيعية، التي كان وراءها هو وجيل أصدقائه البنيويين من الستينيات حينما أدخلوا في النقد الفرنسي تجربة الشكلانيين الروس. طرح في كتابه: الأدب في خطر la littérature en péril، قضية شديدة الأهمية في مسألة الأدبية التي تشكل حجر الزاوية في أية معرفة نقدية: هل علمنا أبناءنا حب النص والقراءة لفهم العالم الذي يحيط بهم؟ أم أننا أرهقناهم بالنظرية دون أن يكون لذلك تأثر على النص؟ نحن لا نعلم أبناءنا القراءة الفعالة التي ترتكز على المتعة ومواطن جمال النص، ولكن على الآليات التي لا تهم القارئ إلا في حدود التخصص الضيق. هل نعلمهم النظريات، أم نمنحهم الوسائل العملية لقراءة نص من النصوص، وحبه والتأثر بجمالياته؟ وكان سؤاله من وراء ذلك هو تبيان المخاطر المحدقة بالأدب اليوم، فجاء جوابه قاهرا لكل المنجز النقدي الذي مشى على عكازة واحدة تتخلص في شكلية النص، لقد فضلنا الشكل، وطريقة الكتابة، واللغة، على المحتوى الذي يشكل جزئيا، مبرر الأدب الناجح والجيد. في الثانويات، بدل أن نفكر في المعنى العميق للأعمال الروائية، فضلنا تحليلها الآلي وفحصها كأنها جثث مخبرية، بالرجوع إلى السميائيات والبراغماتية وغيرها، على قيمتها، ونتساءل بعدها لماذا لا يحب التلاميذ ستاندال أو فكتور هوجو وبقية الكتاب الكلاسيكيين الذين أصبحوا تلقائيا مكروهين. لهذا، فالخطر الكبير ليس في موت الكتاب، أو اندثار القراءة، ولكن في خسران توصيل متعة القراءة والمعرفة الفنية، وتحول النقد إلى نظام من الرموز والشفرات التي تحتاج إلى فكها، وليس مسلكا مهما للمعرفة وفهم النصوص.
السبب الأساس، هناك تصور مغلوط للأدب يقطع مع العالم الذي نعيش فيه، فُرِض على الجانب التعليمي، وعلى النقد أيضا، الذي أصبح ميكانيكيا، وكذلك على الكثير من الكتاب. بينما يبحث القارئ بطبيعته العفوية عما يعطي معنى لوجوده من خلال المؤلفات، خارج هذه المعادلات النقدية التي فرضت عليه.
نتجت عن هذا التعامل غير الصحيح مع النص الأدبي، ترسانة مصطلحية ضيعت القارئ كليا، لم تراجع ولم تضبط ولم تُرهّن إذ أن عمر بعضها قرابة القرن بنفس المسوغات. لدرجة أن أصبح لكل ناقد مصطلحات تنشأ في الأغلب الأعم على الفراغ، أو على فهم خاطئ للنظريات النصية التي تشكل مرجعا له. لا يمكن لظاهرة من الظواهر أن تتطور إلا بالمراجعة الفعالة لما أنجز حتى اليوم، ووضعه في مجال اختبار للتقويم والتصحيح والاحتفاظ به إذا كان استعماله جيدا، أو التخلي عنه. الأمر في هذا السياق ليس معقدا. أن يتم جرد المصطلحات التي استقرت في العالم النقدي العربي واعتمادها نهائيا إذا ثبت جدواها، أو التخلي والتعويض لكل ما هو مرتبك علميا. لا يمكن لنقد أن يتطور في ظل ترسانة مصطلحية غير دقيقة. هناك مجموعة من المصطلحات، متداولة اليوم، ولكن أساسها فهم خاطئ أو محدود في مرجعها الأوروبي أو الأنجلوساكسوني. يمكن ضبط ذلك بإرادة نقدية أقوى، تتوخى خدمة النقد أولا وأخيرا. من بين ذلك، مصطلحات نقدية فردية لا سند لها على الإطلاق، وتدور في فلك صاحبها. طبعا للناقد الحق في
فعل ما يريده، لكن على المؤسسة النقدية العربية، إذا وُجدت، باستثناء الأسماء المتفردة هنا وهناك وفيصل دراج واحد من أهم علاماتها الكبيرة، أن تفرض نفسها كقوة مقاومة توقف حالة التسيب الذي أنهك النقد والطلبة والجامعيين لدرجة أن يجد الباحث نفسه في أدغال مصطلحية مرتبكة. وينسى من نحتوا المصطلحات، أن كل المصطلح هو اختزال لمعرفة بكاملها مخبأة فيه، وليس مجرد أنانية نقدية تدور في فلك الذات والاستراحة داخل اليقين المناهض أصلا للمعرفة التي هي حركة دائمة في التغيير المستمر. ونظرا لضخامة هذه الترسانة المصطلحية يبدو أمر هزها صعبا، وربما مستحيلا. مع أن الحلول التقنية الأولية متوفرة. مثلا، عقد سلسلة مؤتمرات عربية نقدية يحضرها الفاعلون في المجال النقدي، توفر فرصا كبيرة لوضع المصطلحات الأساسية في الحقل الأدبي رهن النقاش والسجال، مع أوراق عمل واضحة ودقيقة، لا تكفي فيها الانطباعية التي تتأسس عليها، للأسف، الكثير من العناصر الثقافية التي تخل بالعلمية. لا نستغرب اليوم أن نجد جيلا نقديا ضائعا داخل أدغال المصطلحية التي ليست أمرا ثانويا ولكنها من الضرورات العلمية. الهدف من وراء هذه المؤتمرات، الخروج بثبت مصطلحي عربي شامل يرتكز على وفاق معرفي مسبق، في المجال النقدي، ينشر في شكل معجم، يقدم، بل يفرض على الطلبة الباحثين في رسائلهم، ويطبق على الحقل المغاربي أولا، حيث النشاط النقدي الجديد بارز، ثم التنسيق على مستوى عربي للوصول إلى تكوين منظومة مصطلحية قريبة من بعضها، من خلال إنجاز معجم نقدي موسع يعتمد في الجامعات العربية. طبعا قد يصطدم ذلك بإرادة جيل استقر على الوهم المصطلحي ولن يقبل بأي تغيير، لكن إثارة الأمر والذهاب فيه عميقا يشكل اليوم أكثر من ضرورة، حتى ولو بقي المشروع سلسلة ورشات مفتوحة. ربما جاء جيل، غير جيلنا، وأخذها مأخذ الجد وناقشها بعمق أكثر، ووضعها في سياق ما يجب تغييره. النقد ليس دائرة مغلقة، وليس نصوصا منجزة، لكنه عالم حي ومتحرك، مشروع مفتوح باستمرار على المنجز البشري العلمي. على هذه الحركة أن تنعكس على الإرادات النقدية العربية الحية، وتهز يقين ما هو مثبت اليوم خطأ. وإلا سنعود إلى التراب، مخلفين وراءنا جيلا بنى مشاريعه النقدية على الوهم والخطأ واليقين، ورثناهم له دون التمكن من تصويبهم نقديا. نرى ملامح ذلك، اليوم أمام أعيننا، حيث الكثير من الدراسات والأبحاث، يقوم بها طلبتنا الذين أصبحوا أساتذة أيضا، تبنى على مصطلحات مرتبكة وضعناها بين أيديهم، دون التمكن من تصويبها أو تقويمها، لقنّاهم إياها كحقائق مطلقة، تكاد تكون مقدسة، لن تشيع في النهاية إلا معرفة مزيفة وعطالة نقدية حقيقية.
الجهود التي قدمها فيصل دراج في المجال النقدي كبيرة ومميزة، وتستدعي الكثير من الأسئلة. لا غرابة من الاعتراف، وهذا ما ذكره فيصل دراج في الكثير من مقالاته المهمة وكتبه أيضا، أن هناك مشكلا حقيقيا يطرح على النقد في العالم العربي اليوم. لماذا لم يخرج ولا ناقد عربي من الدائرة اللغوية العربية، ويذهب نحو الإسهام في المنجز النقدي العالمي كما هو الحال بالنسبة للرواية مثلا؟ ما عدا استثناءات خارجية سأتحدث عنها لاحقا، ليصبح جزءا من آلية النقد العالمي، ومرجعا حقيقيا، يثرِي ويثرَى ولا يبقي حبيس الجدار العربي؟ هل اللغة هي العائق كما ذكرت سابقا؟ من يكتب باللغة العربية سيكون صداه غير مسموع عالميا؟ بعد أكثر من قرن من الممارسة النقدية الحديثة، ما يزال هذا السؤال معلقا وكأننا نخاف من طرحه. قبل سنوات طرح أستاذي الكبير البروفيسور حسام الخطيب، المختص في الأدب المقارن، إشكالية كبيرة: ما هي السبل من أجل مدرسة نقدية عربية؟ وكان نقاشي معه: هل المدرسة النقدية قرار يُتَّخذ أم أنها محصلة ممارسة نقدية طويلة، بإستراتيجيات واضحة، وخيارات ثقافية مسبقة. وعلى الرغم من جهوده العظيمة، والنوايا الطيبة المرافقة، ظلت هذه المدرسة في مدارات الحلم. هل مرد كل هذه الإخفاقات، المسألة اللغوية بمختلف تشعباتها، أي أن الكتابة باللغة العربية تجعل النقد رهين المكان، ورهين اللغة بكل المحمولات السياسية والدينية المصاحبة لها؟ نحن في عالم لا شيء فيه حيادي أبدا؟ مع أن اللغة السلافية والتي لا علاقة لها باللاتينية التي تشكلت حولها الكثير من اللغات الأوروبية، فرضت أسماء نقدية ثقيلة مثل باختين الروسي، وجوليا كريستيفا وتودوف تزفيتان، لدرجة أن أصبحوا روادا في النقد العالمي؟ ربما يعود الأمر لثقافة الناقد نفسه؟ أغلبهم تتلمذوا على النقاشات الفلسفية العالمية والفرنسية تحديدا، ما بعد الحرب العالية الثانية، مثل بنيويات كلود ليفي ستروس، جاك دريدا، وميشال فوكو وغيرهم، والتعددية اللغوية التي تسمح للناقد بأن يرى عالم الأدب، بعين أكثر اتساعا تتجاوز المعطى الوطني والقومي. طه حسين، عميد الأدب العربي، على الرغم من تحصيله النقدي المهم عندما نقرأه اليوم بالعين المجردة والمسافة الموضوعية، نجد أنه لم يستفد إلا قليلا من الثقافة الغربية، الفرنسية تحديدا. كلها ثقافة سماعية بسبب فقدان البصر. ويكفي دراسة أبحاث فيصل دراج في المسألة الثقافية العربية، وحول طه حسين تحديدا وكل من مثلوا العقلانية العربية، لندرك كم أن المسلمات تحتاج اليوم إلى إعادة نظر عميقة. صحيح أن طه جسين حاول، من الشيء القليل، أن يكون مفيدا لثقافته التي كانت ما تزال ترزح تحت قيود المنظومة الثقافية الإقطاعية. لكن هل كان ذلك كافيا؟ ليس القصد التقليل من قيمة رجل أعطى الكثير، وفهم النقيصة الثقافية من منطلق السؤال القديم الذي طرحه شكيب أرسلان، ما يزال قائما إلى اليوم: لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟ هو السؤال نفسه الذي يجب أن يخترق النقد. ألا يمكن أن تكون المعوقات السياسية ومعاداة العرب من وراء هذه الانتكاسات؟ هنا أيضا تقف الحجة مضادة للمبرر المقدم. الحرب الباردة بكل ترساناتها النووية، وآلاتها التدميرية، واليقينيات الإيديولوجية، لم تمنع أقطاب البنيوية والشكلانية الروسية، والحوارية، والتناص، والسيميائيات من احتلال المراتب الأولى في مجال النقد الغربي، الفرنسي تحديدا. الشيء الوحيد اليوم، الذي لا يختلف عليه اثنان، هو الدوران المغلق على النفس للنقد العربي، والاكتفاء بالاستهلاك. كل ما أنتجته المؤسسة النقدية العربية، ظل حبيس الملحية، أو رهين المدارس الغربية التي تحكمت في كل مساراته، واكتفى عمليا بإعادة إنتاجها في غياب فهم حقيقي لها ولجذورها الفلسفية. مضى الجيل الأول في العصر الحديث، جيل طه حسين، لكنه لم يترك إلا علامات نقدية باهتة مستوحاة من مشروع نقدي غربي لم يفهمه جيدا. فقد كان رهانه الكبير ليس الإضافة، ولكن نقل المعارف الغيرية، نحو الثقافية العربية لزحزحة صخرة التخلف. لقد كان اكتشاف الطهطاوي للثقافة الغربية والغرب مفجعا سقطت أمامه كل الثنائيات الجاهزة: غرب غارق في ماديته وملذاته، مفكك أخلاقيا، وشرق روحاني، متسام في معارجه العالية. ويكتشف غربا هرب عن الشرق بسنوات ضوئية، وتكفي قراءة “تخليص الإبريز في تلخيص باريس” لندرك تراجيدية اكتشاف الآخر المتقدم في القرن التاسع عشر، واكتشاف هزال الذات معرفيا وحياتيا. الأجيال التي تلت لاحقا، وإلى اليوم، لم تخرج عن منطق طه حسين في التعامل مع الآخر، أي نقل المعرفة النقدية الغربية المتطورة نحو شرق يعاني النقائص المدمرة التي ثبتتها الاستعمارات المتتالية. لهذا، فمنطق الإضافة الإنسانية لم يكن هاجس النقد العربي. فقد ظل رهين هذه الدائرة التي كانت تتسع وتضيق عليه.
إن الظواهر العربية الوحيدة والنادرة التي شاركت في الفعل النقدي العالمي، وأضافت له من معارفها، هي تلك التي نشأت وكبرت في أوروبا وأمريكا. أي خارج مدارات العالم العربي.
من بين هذه الأسماء، جمال الدين بن الشيخ الذي أسس في جامعة السوربون كرسيا للغة العربية وأشرف عليه. انخرط في الدراسات الفكرية والأدبية، ودرس باللغة الفرنسية خاصيات المخيال العربي من خلال نصوصه التأسيسية الكبيرة مثل ألف ليلة وليلة والإسراء والمعراج، والمنجز الشعري العربي القديم. نتج عن ذلك سلسلة من المؤلفات العالمية: ألف ليلة وليلة أو الكلمة السجينة (1988)، الشعرية العربية (1998)، معراج محمد، متبوع بمغامرة الكلمة (1988)، قبل أن يقوم بترجمة ألف ليلة وليلة في صيغتها الأصلية العريقة برفقة صديقه أندري ميكاييل، وتطبع في أهم وأثمن سلسلة عالمية (الثريا). لقد كان تأثيره في الثقافة الغربية كبيرا، برفضه كليا، استشراق البازار. تحول جهده إلى قيمة مضافة.
الشيء نفسه قام به الكاتب الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد في كتابه المرجعي الاستشراق (1978). وكان واحدا من رواد أدب ما بعد الاستعمار. وكتب: العالم والنص والناقد (1983)، القومية والاستعمار والأدب (1990)، الثقافة والإمبريالية (1993)، الإنسانية ونقد الديمقراطية (2004) عن النموذج الأخير/ الموسيقى والأدب ضد التيار (2006) وغيرها من المؤلفات الكثيرة التي بينت أن النقد هو أولا وأخيرا بنية فكرية وليس ترديدا لأطروحات المدارس النقدية العالمية. ثانيا، هو عمق ثقافي وفكري وفلسفي واسع.
كلاهما، جمال بن الشيخ وإدوار سعيد استفادا من منجز ما بعد الحداثة (فوكو ودريديا) لإعادة تفكيك البنية الثقافية العربية التي لم تستفد كثيرا من منجزهما بسبب غرقها في السهولة. هو نفسه الجهد الذي بذله طوال عقود متتالية الناقد فيصل دراج، دون أن يصل صداه في عالم عربي مغلق على نفس تارة داخل دين سياسي، وتارة داخل الخرافة التي تتجلى في التصرفات اليومية.
من الصعب تخيل نقاد كبار مثل تودوروف، جيرار جنيت، أمبيرتو إيكو، رولان بارث، وغيرهم، خارج المكون الفكري والفلسفي واللغوي العالمي والمتعدد. المأساة، أن الناقدين والمفكرين، ابن الشيخ وإدوارد سعيد، ظلا جزيرتين معزولتين، وغير مأهولتين، في ظل نقد عربي متقادم فكريا في غالبيته؟ ولم يتحول جهداهما، على الرغم من تأثيراته العالمية، إلى دينامية تخلخل البنية النقدية العربية المكتفية بذاتها في أغلب نماذجها، ولا تعيد النظر في بنياتها المتهالكة التي لم تفرز إلى اليوم، باستثناء القلة القليلة اليتيمة في بلدانها، مؤسسة نقدية قوية لها سلطتها الفعلية. الذين يصنعون الحدث اليوم ليسوا النقاد، ولكن الصحفيين، والوسائط الاجتماعية.
ختاما، أعتقد أن الدكتور فيصل دراج بجهوده النقدية أصبح يدرك اليوم بقوة أنه لا خيار للنقد العربي ولا مسالك أخرى له، إما الدخول في المنظومة النقدية بكل معوقاتها وسلبياتها وحسناتها التواصلية، من منظور نقد صارم للذات، مثلما فعل تودروف في كتابه الصرخة، أو الموت المبرمج. نتمنى أن يأتي ذلك على يد فيصل دراج لوجوده في الدائرة النقدية الشمولية التي لا تحكمها المسبقات والتي تعاملت مع النص في كل تحولاته التي اشتغل عليها ليس كإيديولوجية خارجية تدخل في مركبات النص وتظل معزولة عنه ولكن كبنيات يفرزها النص داخليا بحيث تصبح جزءا من البنية ولا معنى لها خارج البنية. لا يمكننا أن نتغاضى عن سؤال البدايات: هل حقيقة وصلت مناهجنا النقدية إلى منتهى عطائها لأنها مؤسسة شُيِّدتْ على المتوفِّر النقدي، الذي نهل منه فيصل دراج بحنكة الباحث المتمرس، مؤسسة عوضت الفعل النقدي بكم كلامي ومصطلحي كبير، والتقنية المفرطة، والشكلية التي تخفي تحتها ضعفا كبيرا في الممارسة النقدية بالمعنى التاريخي الفعلي، أكثر من أنبائها على فكر حقيقي فعال ليس فقط في الأكاديمية ولكن أيضا في الآليات المنهجية المتبعة حتى اليوم. يستحق منا هذا وقفات جدية تستجيب لما آلت إليه الأوضاع النقدية جامعيا ولكن أيضا في الحياة الثقافية. يدفعنا هذا إلى تأمل الظاهرة النقدية في أفولها المستمر على الأقل كفاعلية ثقافية وفكرية مساهمة في التحول الثقافي العام، وحتى المجتمعي. وهذا ليس ظاهرة محلية أو عربية فقط ولكن عالمية، بالخصوص في الزمن الذي نعيشه حيث يعاني النقد العربي من أصعب أزمنته وأزماته من حيث الجدوى؟ أما يزال للنقد العربي شيء يقوله. هل يملك وسائط التلقي الإيجابية؟ النقد العالمي نفسه لم يستطع تخطي أزمته على الرغم من اجتهاداته. ما فعله الباحث الفرنسي بيار بورديو عندما طرح القضية الإعلامية في سلسلة محاضراته في الكوليج دو فرانس، يدخل في هذا السياق. يبدو أننا لا نستفيد كثيرا من المتغيرات الحاصلة في كل الحقول. ننتظر حتى تستقر على شكل ما، لننقلها إلى حقل كثيرا ما ينكرها وينفرها، ولا ندخل خضم السجالية في عز تكون الظاهر من منطلقات ثقافية لها بعض سماتها الخاصة مهما اتسعت التقاطعات العالمية بالمعنى الثقافي. هناك حالة تشظى في العملية النقدية عالميا، استلمتها الآلة الإعلامية بقوة واستثمرتها لصالحها، كأن تجد مثلا فلانا يعمل بالمجلة الفلانية، تخصص في النقد أو في علم الجمال أو في الهندسة المعمارية أو الموسيقى، أو في غيرها. فهو يملك هوية الصحفي أكثر من الأكاديمي، فالأكاديمية لا تكسوه من عري ولا تطعمه من جوع ولا تغنيه بالمعنى النقدي والمتابعة. أي أن مساحة الأدب والعمل عليه سرقت إعلاميا من النقد ودفع به إلى المزيد من العزلة في مغارات التجمعات الأكاديمية التي يكرر أغلبها النظريات التي لم تعد تسترعي أي انتباه لدى القارئ العادي الذي أصبح ملتصقا بما تقوله الوسائط الإعلامية، أكثر من ارتباطه بالنهج الأكاديمي الذي انحصر متابعوه. زمن صعب، يتحول بسرعة كبيرة تجعل من متابعته أمرا ليس هينا ولا يسيرا. يتم هذا في ظل طغيان هيمنة الوسائط الاجتماعية التي اجتاحت كل الحقول، ويقف النقد العربي أمامها باهتا، مجردا من أي سلاح، ولا حتى من أي تفكير أو تأمل من أجل تخطيها. هناك محاولات لا تعدو أن تكون مجرد ردة أفعال تجاه حالة لا يعرف النقد لا منطلقاتها ولا مؤدياتها، ويجهل أحيانا حتى ميكانيزماتها الإستراتيجية. لقد انسحب النقد العرب أو يكاد، في المواجهة التي تجمعه اليوم بجنس متسلط، اسمه الرواية. فقد محت، من حيث الحضور على الأقل، كل الأجناس الأخرى من طريقها. نعرف جيدا أن النقد ظل دوما في الدوائر الأكثر تخصصا، ومنها الدوائر الأكاديمية، لكن حضوره كان دائما مهما ويعدل من مسارات الأدب. لم يكن فيليب هامون الذي خصّ جهده للشخصية وتحولاتها، ظاهرا في المحافل العامة، ولم يكن فيليب لوجون الذي جعل من السيرة رهانه النقدي، معروفا خارج الأوساط الجامعية شديدة التخصص على الرغم من قيمته العلمية التي لا تضاهى، ولم يكن محمد آركون الذي تعمق في الدرس الإسلامي من الموقع التاريخي والأنثروبولوجي حالة إعلامية كبيرة، على الرغم من قيمته الأكاديمية والتاريخية، ولا جهود ميشيل فوكو، ولا رولان بارث، ولا جيرار جنيت، ولا جمال الدين بن الشيخ وغيرهم، استطاعت أن تضعهم في المدارات الإعلامية الثقيلة والمهمة كالتليفزيون، وهم يستحقونها بامتياز، مثلما حدث للروائيين الذين أصبحوا جزءا من المشهد الثقافي والإعلامي، كنجوم يملأ حضورهم الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي. الوحيد من الباحثين الذي ظل حاضرا في المشهد الإعلامي العام، هو سارتر لأنه ترك الأوساط الثقافية ونزل إلى الشارع العام. صوره وهو يوزع المنشورات الداعية إلى الانتفاضة في 68 تبين أن الرجل أدرك في وقت مبكر أن الفكر العظيم يحتاج إلى حامل له لإشاعته، الإعلام بالدرجة الأولى، لهذا وجب الاستفادة منه وإلا سيظل الفكر سجين أصحابه ونقاشاتهم، مهما كانت قيمتها التاريخية والمعرفية. هناك، في عصرنا، انفصال كلي بين المعرفة المغطاة إعلاميا، والمعرفة المهملة مع أن فوائدها إستراتيجية، كأن هناك قصدية في التجهيل تشرف عليها مؤسسات كبيرة وغير مرئية. على الرغم من ذلك كله، هناك جيوب مقاومة تتبناها أسماء قليلة ما تزال تؤمن بجدوى النقد، وربما كان فيصل دراج أحد أهم المنتمين إلى هذه الجيوب. المسألة مفهومة عالميا ويمكن تفسيرها بسهولة. نجد المئات بل الآلاف من المبدعين الروائيين عالميا، لكن صناعة ناقد واحد تقتضي زمنا حقيقا لأن المسألة أكثر تعقيدا ثقافيا وتركيبيا. النقد ثقافة وانتماء كلي لعصر أو لسلسلة من العصور، وآلة لاختبار جدوى النصوص وفهم حركتها الداخلية وآلياتها، والآلة تحتاج إلى أن تكون ملمة بثقافة عصرها ولا تبقى على هامشه. وهذا يقتضي خبرة معرفية ترتكن حتما إلى جهد كبير ومميز بكيفية استقبال النقد العربي للممارسات النقدية الغربية، من خلال الرواد، مثل طه حسين، والعقاد، ولويس عوض، ومحمد مندور، وشكري عياد، وغيرهم، إضافة إلى الأجيال اللاحقة. فقد تعاملوا مع المنجز النقدي الغربي المبني على معرفة حقيقية، كأنه مادة منتهية وغير قابلة للسجال وأخذوها على علاتها من دون مراعاة للظرفيات الثقافية المحلية. فقد ظلوا رهيني الإعجاب والنموذجية الغربية التي لم يفهموها وفق اشتراطاتها ومؤدياتها. وسرعان ما ظهر ضعف هذه الموجة الثقافية ميدانيا لأنها لا تملك الأساسيات التي تجعلها مبدعة وخلاقة من الناحية النقدية.
لهذا سيكون جهد الدكتور فيصل دراج كبيرا ونتائجه مفيدة جدا ليجد النقد العربي مسارته، على الأقل طرح سؤال الجدوى، الذي يمر حتما عبر ناقد كبير هو حجة نقدية لإعادة بناء المؤسسة النقدية التي أعاد تودوروف إثارتها وخلخلتها، دون أن يتمكن من إعادة بنائها وتركيبها. فقد توفي قبل بلورة المفاهيم الجديدة لكنه امتلك جرأة تهديم جزء مما بناه وبين مزالقه.
مسؤولية الناقد الكبير فيصل دراج في هذا السياق كبيرة، بل وحتمية.
نحتاج أحيانا إلى عمرين لكن نتوصل إلى إتمام مشروع بدأناه في زمن متقدم، لكن الزمن أدركنا. لكن لا شيء يمنع من وضع اللبنات الأولى والعلامات الأساسية للمشروع النقدي الجديد، ويستمر النقد في فتح الأبواب المغلقة والتهوية في جسد المؤسسة النقدية التي خرج منها وأصبحت اليوم معطَّلة ومعطِّلة لكي يكون المشروع النقدي القادم إيجابيا منتجا وليس مستهلكا فقط.