أثير- د.سعيد محمد السيابي، كاتب وأكاديمي في جامعة السلطان قابوس
وسط جحيم مستعر يزيد سعته التدمير والقتل الممنهج الذي تقوم به قوة غاصبة للأرض، ويدفع ثمن هذا الصلف الأبرياء في فلسطين، وتدور الدوائر على أبناء فلسطين من أطفال ونساء وكبار السن كل يوم في حدث جديد وجروح أكبر من سابقاتها، والعالم يتفرج على هذه المعاناة التي تكلف ثمنا باهضا وتعيد الجرائم ببشاعة تفوق سابقاتها في مشهد قل حدوثه لشعب وأرض يجرح ويقطع ويهدم كل ما فيه بحجج واهية من الانتقام والتنكيل والحقد الذي يمارس بحق كل فلسطيني وعلى مرأى ومسمع كل الأمم؛ فالثمن المنشود دفعه دائما أكبر بذنب وبغيره، وهذا ما نبأت به مسرحيتان في ذاكرتي من المسرحيات الحديثة التي تحمل روح النظال والتضحية في سبيل انتصار الحق والحرية.
مسرحية (ثمن الحرية) قدمها قسم الفنون المسرحية في عام ٢٠٠٤م كمشروع تخرج على مسرح قاعة المؤتمرات بجامعة السلطان قابوس، وهي من تأليف الكاتب المسرحي عمانوئيل روبلس ومن إخراج الدكتور عثمان عبد المعطي، وتم إعادة عرضها في افتتاح مهرجان المسرح العماني الأول على قاعة مسرح قصر البستان في العام نفسه.
يدور موضوعها حول وحشية الإرهاب الإسباني في فنزويلا عام ۱۸۱۲م، حيث الضابط الإسباني ( مونسيرا ) الذي يثور على هذه الوحشية، فيتخلى عن فرقته، ويضحي بنفسه، وبعدد من الرهائن لتمكين القائد الفنزويلي ( بوليفار ) من الفرار، ومن جمع شتات المناضلين، وهذا ما تم في نهاية مسرحية ( ثمن الحرية ) حيث استطاع المخرج تكثيف الأحداث الرئيسة التي تقع في سجن تحت الأرض يتم فيه تعذيب الأبرياء والتحقيق معهم وأخذ أقوالهم بقوة السلاح وإعدامهم في نهاية المطاف إلى أن يتمكن بوليفار من تحرير المدينة والقضاء على الضباط الأسبان.
مسرحية ( ثمن الحرية ) تحمل أهدافا إنسانية بالدرجة الأولى فهي تقدر سعي الإنسان إلى الحصول على حريته. كما أنها تدعو إلى ضرورة التوحد ضد أعداء البشرية الساعين إلى قتل الأبرياء، وإشاعة روح المغتصبين مستغلين في ذلك تخاذل البعض عن واجبهم تجاه قضاياهم الوطنية، أو خوفهم على حياتهم ومكاسبهم النفعية. أما المنظور الفكري والفلسفي لهذه المسرحية، فيرتكز في مفهوم الكفاح والتضحية: هل يكون وقفا على أفراد دون آخرين ؟ أم أن المسؤولية مشتركة، وبالتالي فالعائد للجميع .
والمسرحية الثانية هي (الثمن الفادح) التي قدمها قسم الفنون المسرحية بجامعة السلطان قابوس كمشروع تخرج على مسرح قاعة المؤتمرات بالجامعة في عام ۱۹۹۹م. وهي إعداد عن مسرحية ( جسر آرتا ) للكاتب اليوناني (جورج ثيوتوكا)، وإخراج الدكتور هاني مطاوع .
تقوم المسرحية الأصلية على أغنية شعبية لها سطوتها وتأثيرها في الأوساط الشعبية اليونانية توارثتها الأجيال عن أسطورة بناء (جسر آرتا) وما رافق ذلك من تضحيات، وقد بلور المؤلف أحداث مسرحيته بحيث جعل المغني راويا تشكل أغانيه أصداء لما يدور من أحداث، وتقدم إشارات ومفاتيح لما ستؤول إليه الأحداث التي ترتكز على فكرتين إحداهما فكرة المدينة الإغريقية القديمة كمركز للإشعاع وإنتاج المعرفة وإرساء القوانين والشرائع، والثانية تتعلق بالطموح الفردي والتأكيد الذاتي بما يتجاوز القوانين ويكسرها.
نجد الجسر ينهار للمرة الثالثة بدون سبب ظاهر، فالذي يقوم عليه رئيس البنائين المشهود له ببراعة التصميم ودقة الأداء، وكان السؤال المحير الذي يؤرق رئيس البنائين، لماذا ينهار الجسر؟ وأي شؤم يرافق هذا الكيان الذي توفرت له كل شروط النجاح.
تتنامى الأحداث لتقر بوجود قوى شيطانية مدمرة تقف وراء انهيار الجسر وأن على رئيس البنائين تقديم هدية وقربان حتى يستقيم البناء. الشبح المدمر يخير البناء المهندس بين تقديم القربان والجسر، والقربان زوجته العزيزة عليه، المتفانية في خدمته، يجب أن يدفنها مع شرط خارج عن قدرة العقل ، وهو شرط جائر وثمن فادح مطلوب من رئيس البنائين الموزع بين الرغبة والإرادة والمعذب بالخيلاء المرتكزة على ثقة بإمكاناته في بناء أي عمل مهما كانت التضحيات، وبخاصة في مواقف الفصل والحسم عندما يستجيب لشروط الشبح وينتصر لإرادته في إقامة الجسر وفي اللحظة ذاتها ينكسر على المستوى النفسي لفقد زوجته؛ تلك المفارقة السوداء بين تحقيق الفكرة، وبلوغ المجد بين التضحية بزوجته الطاهرة الوفية، أم ولده الرضيع.
إن رئيس البنائين هو نموذج للمتغطرس الذي ينتهج بسبب طموحه الكبير أبشع السلوك والتصرفات، ويذهب لتدمير نفسه من الداخل، بتعريض أسرته وبيته للدمار بدافع ذلك المجد الزائف، وما أكثر رئيس البنائين في واقعنا، وما أقل أصحاب الحكمة والدراية والتضحية في سبيل القيم الحقة والإنسانية السوية؛ لهذا تستمر الأثمان في الدفع والفداحة والمصيبة في الوقوع على الأبرياء، والإنسانية تتفرج وإن تدخلت فمتأخرة الإفاقة.