فضاءات

الحلقة الرابعة: وقفة (١) مع آية السيف وآية الجزية

الحلقة السادسة الضابط الثالث: حفظ العقل
الحلقة السادسة الضابط الثالث: حفظ العقل الحلقة السادسة الضابط الثالث: حفظ العقل

يكتبها: بدر العبري

اشتهرت هذه الآية: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، بأنّها آية السيف، وأنها نسخت كل آية سلم، فاستغلها المتطرفون دليلا في قتل الناس إن كانوا غير كتابيين، أو أخذ الجزية إن كانوا كتابيين كما سنرى في آية الجزية.

للأسف أن يقرأ قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعيدا عن سياق الآيات.

وقبل البيان الأصل تحكيم الآيات المحكمات والداعية إلى السلم، والأصل السلم، ومنها قوله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وقوله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

والقرآن ذكر في بداية سورة براءة أربع صور:

الصورة الأولى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

الصورة الأولى:

الصورة الثانية: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ.

الصورة الثانية:

الصورة الثالثة: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.

الصورة الثالثة:

الصورة الرابعة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.

الصورة الرابعة:

فالسورة تصور لك الحال التي وصل إليها المشركون من حيث أكبر درجات الاعتداء والتعاون مع الأمم الأخرى في إلحاق الضرر بالمؤمنين، وعدم التزامهم بالمواثيق والعهود، ومع ذلك راعى القرآن الأشهر الحرم والتي هي مقدسة عند العرب.

فالسورة تصور لك الحال التي وصل إليها المشركون من حيث أكبر درجات الاعتداء والتعاون مع الأمم الأخرى في إلحاق الضرر بالمؤمنين، وعدم التزام

هم

 

بالمواثيق والعهود، ومع ذلك راعى القرآن الأشهر الحرم والتي هي مقدسة عند العرب.

فهناك أصل من خلال الصورة: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، فإذا نقضت هذه الصورة كانت الصورة الأخرى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.

والقرآن أمر إن جنحوا للسلم يجنح لها…

إلا أنّ هناك فئتين من المجتمع فئة تظهر أنها تدخل الدين الجديد، فيشهدون لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهؤلاء يؤخذون على ظاهرهم دون تتبع وتجسس، وإن لم يؤمنوا به حقيقة، كما حدث عند فتح مكة، وهي صورة: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

وهناك فئة أخرى لا تدخل في الدين لكنها ترجع إلى السلم وتطلب الأمان: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ.

فنجد الآيات عالجت هذه الصور المتكررة، إلا أن الناس للأسف نزعوا هذه الصور واكتفوا بصورة واحدة، وجعلوها ناسخة لكل آية تدعو إلى السلم.

أما الجزية في قوله تعالى:  قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.

وقد ناقشت هذه الآية في كتابي القيم الخلقية والإنسان، وهي كذلك جاءت في سياق سورة براءة أو العسرة، جاء الحديث ضد أمة باغية معتدية فهنا أمر الله بقتالهم، وذكر أهل الكتاب هنا لأن الروم كانوا على ملة عيسى، وهم أهل كتاب، فتناسق المقام في ذكرهم، ومع ذلك عندما وافقوا على السلم لم يقاتلهم الرسول باتفاق، فلو فسرت الآية ظاهريا لكان الرسول وحاشاه عاصيا لأمر ربه.

والجزية فسرها بعض المعاصرين حسب ما ذكرته في كتابي القيم بنصه: أما عن الجزية التي شرعها الله تعالى فلابد أن تقرأ وفق السياق الذي وردت فيه، والجو الذي عايشته الآية، وإلا فهؤلاء جزء من الوطن، لهم حق العيش فيه، وعليهم ما على باقي المجتمع من واجبات، من هنا إن تلاعبوا به، وخططوا للإفساد فيه؛ فشأنهم كغيرهم يحاربون، وإن لزم الأمر حمايتهم في حالة الخوف منهم، وبعد الصلح معهم، فبإمكان الأمة أن تفرض عليهم الجزية وهم صاغرون، فتأمن الأمة من مكرهم وسوء نيتهم، وفي المقابل بإمكان الأمة أن ترفع عنهم المشاركة في الأماكن الحساسة كالجانب العسكري، مع وجوب حمايتهم، وتوفير الأمن لهم، فمن هنا سموا أهل ذمة، أي إنّ ذمتهم ورقابهم في أعناق المؤمنين، مقابل ما يأخذونه منهم. 

وإن لم يكن هنا أي خطر فلا يؤخذ منهم شيئا، ولهم الحق في الشراك الوطني بكافة مؤسساته المدنية والعسكرية، ولا يجوز أن يجبروا على لباس معين مثلا، فهذا من الظلم الذي جاءت الشريعة الخاتمة برفعه، وإبدال الحوار والتعايش محله.

ثم بان لي خلافه لذلك قلت في الفهرس: هذا التفسير قلته سابقا معجبا ببعض تأويل المعاصرين، حيث وضعوا ذلك من باب التمرد، فاستحسنته تأويلا وتفسيرا، وأما الآن فيبدو لي – وهو الموافق بإذن الله تعالى لسياق واقع النّزول-  أنّ الجزية أقرب إلى العلاقات الدّولية لا المواطنة، ففي السابق – أي وقت نزول الآية – لم يكن عند العرب دولة بالمفهوم المعاصر، وإنّما كانوا أقرب إلى التجمع القبلي، فكانت القبيلة أشبه بالدولة، وغالبا ما تدين القبيلة بدين أو مذهب معين، وتشتهر به.

وعليه الجزية أقرب إلى العلاقات الدولية في حال العصيان والتعدي من جهة، وفي حال حماية تلك الدولة من جهة ثانية كما يعمل به اليوم.

وعليه لا يدخل فيه مفهوم المواطنة، فالمواطنة مبنية على ذاتية الإنسان وحقه المدني، ولا اعتبار لدين أو مذهب أو فكر، ويكون الجميع سواسية وفق القانون.

فلا معنى أن يفرق بين أحد لاختلاف دين، ويكون الجميع تحت الشراكة في بناء الوطن، والكل متساو في الحقوق والواجبات، فالمواطنون جميعا تحت ذمة من اختاروهم ليمثلوهم في الرئاسة، وهم في الوطن سواء، وفي الشراكة فيه سيان.

فكانت الدولة أقربَ اليوم بمفهوم القبيلة بالأمس، وعليه يظهر لي قراءة مفهوم الجزية وفق هذا السّياق.

Your Page Title