د . صالح بن هاشل المسكري
يُعدُّ نظام المجلسين قاعدة أساسية اعتنقتها الديمقراطيات التقليدية في تشكيل المجالس النيابية، حيث يؤكد المؤيدون لهذا النظام أنهُ وسيلة لمزيد من تمحيص القوانين وإتقانها لتفادي الأهواء والنزوات العارضة التي يقع فيها المجلس الواحد والحد من إساءة استخدام السلطة التشريعية أو التعسّف في استخدامها ، ويتيح تمثيل جميع الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والأقليات الطائفية خاصة وأن اختيار نواب الشعب أصبح حسب اللعبة الديمقراطية بيدِ عامة الشعب الذين قد لا يحسنون الاختيار وهو ما نتج عنه هبوط في مستوى أعضاء المجالس النيابية عمومًا ، فيأتي المجلس الأعلى ليحدث التوازن، فعندما يختلف المجلسان في الرأي بصدد موضوع معين يرجأ النظر فيه إلى أن يجتمعا معًا تحت قبة واحدة، فيتفقان على رؤية مشتركة أو يواصلان الاختلاف ويرفعان الأمر لولي الأمر ليفصل فيه حسب الشرعية الدستورية؛ لأن إرادة الأمة في مثل هذه الحالة لا تعد إرادة مستقرة واضحة، وفضلا عن ذلك فإن وجود المجلس الأعلى الذي يملك إعادة النظر فيما يقرره المجلس الأدنى يؤدي إلى توافر الأغلبية الرشيدة العاقلة القائمة على البحث والاستقصاء بعد تبادل الرأي والمناقشة داخل المجلسين النيابيين.
وهذا على عكس ما يردده المعارضون لنظام المجلسين من أن وجود المجلس الأعلى يتعارض مع مبدأ سيادة الشَّعب، ويُعطل سير العملية التشريعية ويُرسخ الطبقية والمصالح الشخصية لأعضاء المجلس الأعلى على حساب المصالح العُليا للبلاد ويوجد ارستقراطيات جديدة أساسها التأثير المالي والشرفي ولا يخفى شرها ورفض المجتمعات لها في العصر الديموقراطي الذي نعيش فيه ، وطالما أن السيادة لا تتجزّأ فلا يجوز إذًا أن تتجزّأ السُّلطة المعبرة عن إرادة الشعب التي هي البرلمان، فالشعب هو مصدر السُّلطات جميعًا وحارسها ومن حقه أن يفهم ما يدور حوله ويحاسب المسؤولين ، إضافة الى أن نظام المجلسين لا يخدم تماسك الأمة وتكامل بنائها ووحدة قرارها، وأن وجود المجلس الأعلى إنما هو التفاف تمارسه السلطات السياسية للحد من اندفاع وهيمنة المجالس الشعبية المنتخبة المعبرة عن إرادة الأمة ، وهدر غير مبرر للمال العام في بعض الدول الصغيرة والفقيرة التي تحتاج الى ترشيد الإنفاق لتحقيق التنمية الشاملة.
المعروف أن نظام المجلسين نشأ لأول مرة في إنجلترا نتيجةً للتطور التاريخي الذي مرّ به نظامها السياسي والدستوري ، حيث ظهر أولًا مجلس اللوردات ثم أعقبه مجلس العموم ، فقد كان البرلمان الأنجليزي إلى ما قبل سنة 1254 يتكون من الأشراف وكبار رجال الدين ، وفي ذلك العام دعا الملك هنري الثالث فارسين عن كل مقاطعة للاشتراك في جلسات البرلمان ، ثم أضيف إلى الفارسين ممثلان لكل مدينة أو مركز حضري مهم ابتداءً من العام 1273 م ، وفي العام 1295 دعا الملك أدوارد البرلمان النموذجي الذي ضم ممثلين لطبقات الأمة جميعا، واستمر وضع البرلمان الأنجليزي على هذا النحو لفترة معينة، ولكن سرعان ما ظهر داخله نوع من التكتل ، إذ كون رجال الدين والأشراف والنبلاء كتلة يجمعــها نوع من التجانس والتفــاهم فيما بينها، بينما كون نواب العامة ( المقاطعات والمدن والمراكز الحضرية ) كتلة أخرى يجمعها أيضا عامل التجانس بين أفرادها. ولم يأت عام 1351 حتى انفصلت الكتلتان وأصبحت كل واحدة منها تكوّن مجلسا خاصًا ، فأصبح مجلس اللوردات يتكون من الأشراف والأساقفة ، ومجلس العموم يتكون من نواب المقاطعات والمدن ، وتقرر أن يكون المجلسان متساويين في الاختصاص وأن تصدر القرارات بأغلبية كل منهما ، وأخذ مجلس العموم يقلص من صلاحيات مجلس اللوردات شيئا فشيئا إلى أن أصبح مجلسا شرفيا ، وأصبح مجلس العموم بيده كل سلطات الدولة تقريبا وهو الوحيد الذي يراقب أداء الحكومة ويحاسبها.
ويعد نظام الازدواج البرلماني في الدول الاتحادية أمرًا منطقيًا يتفق مع التكوين الخاص لمثل هذه الدول ، ويلاحظ أن بعض الدول التي كانت تأخذ بنظام المجلس الواحد قد عدلت عنه إلى نظام المجلسين ومن ذلك البرتغال وأسبانيا ، بل إن هناك دولًا تتعدد فيها المجالس البرلمانية كجمهورية جنوب أفريقيا التي يوجد بها ثلاثة مجالس ، مجلس للسود ومجلس للبيض ومجلس ثالث للملونين ، كما يلاحظ أن جميع الأنظمة الملكية في الوطن العربي تأخذ بنظام المجلسين ، في حين تأخذ الأنظمة الجمهورية بنظام المجلس الواحد .
ويشترط لقيام نظام المجلسين النيابيين ضرورة المغايرة في كيفية اختيار أعضائهما واختلافهما في التشكيل، فالمجلس الأعلى يكون في العادة مجلسا معينا بالكامل من قبل رئيس الدولة أو جعل بعض أعضائه معينين والبعض الآخر منتخبين وفق شروط خاصة تختلف عن تلك المقررة لانتخاب المجالس الشعبية ، والشرط الثاني المهم هو ضرورة تساوي المجلسين أساسا في التشريع ، وليس معنى ذلك التساوي المطلق بين المجلسين في مسائل التشريع أو المسائل الأخرى غير التشريع إنما يجب على الأقل أن يكون للمجلس الأعلى سلطة وقف التشريعات التي يصدرها المجلس الأدنى . أما إذا اقتصر اختصاص أحد المجلسين على مجرد إبداء رأي استشاري ، فإننا سوف نكون أمام نظام المجلس الواحد من حيث الواقع ، وإن بدت لنا في الظاهر صورة لنظام المجلسين.
وساعد النظام الرأسمالي على انتشار نظام المجلسين إذ أدى إلى انقسام المجتمعات الحديثة إلى طبقاتٍ متباينة ، ومد ذلك نظام المجلسين بمبررات جديدة حيث نُظر إلى ضرورة تمثيل طبقة أصحاب المال والأعمال وملوك الصناعة وكبار الممولين في مجلس خاص يوفر الحماية الضرورية لمصالحهم تجاه مصالح جمهور الشعب، ويتفق مع ما لهؤلاء من تأثير كبير على النظام الاجتماعي والسياسي في الدولة البرجوازية، وهي نظرة عنصرية تجاوزتها المجتمعات الحديثة وآمنت بالإرادة الشعبية وبالديموقراطية ، فيَدُ الله مع الجماعة.
وفي السلطنة وبعد تهيئة وتمهيد وتدرج للبنية الاجتماعية والديمقراطية في البلاد بتشكيل مجلس بلدي مسقط في بداية العهد مع مجالس شبيهةٍ في الولايات ، ثم إنشاء غرفة تجارة وصناعة عُمان عام 1973م ، تبعه مجلس للزراعة والأسماك والصناعة عام 1979م وكان من أهم اختصاصات هذا المجلس دراسة القوانين والأحكام والأنظمة والقرارات السارية ومشاريع القرارات المستقبلية الخاصة بالقطاع الاقتصادي ، وبعد عشر سنوات على تأسيس البنية التحتية للبلاد خطا جلالة السلطان خطوة مهمة أعلنت عن بدايات البناء المؤسسي للدولة وترسيخ الديمقراطية والمشاركة الشعبية وذلك بتشكيل المجلس الاستشاري للدولة أولا في العام 1981م ثم مجلس الشورى بعده بعشر سنوات أي في العام 1991م ، وبعد نضوج التجربة البرلمانية والمشاركة السياسية في البلاد ، ولأجل توسيع قاعدة المشاركة بالرأي والاستفادة من خبرات أهل العلم وذوي الاختصاص ، وإسهامًا في تنفيذ إستراتيجية التنمية الشاملة أنشئ مجلس عُمان في 16 سبتمبر 1997م بالمرسوم السلطاني رقم 86 / 97 ، وذلك بعد أقل من عام على صدور النظام الأساسي للدولة الذي خصص بابه الخامس المادة (58) لمجلس عُمان ، ثم جرى تعديل النظام في 19 أكتوبر 2011م وأنتجت المادة ( 58 ) 44 مادة مكررة منها 34 مادة للأعمال التنظيمية والإجرائية لمجلس عُمان والباقي 10 مواد للاختصاصات الرقابية والمالية والتشريعية التي جاءت مرة بذكر الحكومة عندما يتم تحويل مشروعات القوانين الى مجلس عُمان ، ومرة بذكر مجلس الوزراء عندما يتم تحويل هذه المشاريع لمجلس الشورى ولا أجدُ تفسيرًا لذلك ، وأصبح من الأهمية بمكان أن يصدر قانونٌ ينظم عمل مجلس عُمان ، ويحدد مجالات العمل المشتركة بين مجلسي الدولة والشورى ، وتلك التي يستقل بها كل مجلس باختصاصه عن الآخر ، والعلاقة الشكلية أو الإجرائية بين مجلس عُمان وبين الحكومة .
والحقيقة أن القيادة السياسية لم تألُ جهدا في دعم وتسهيل مهمة الهيئة البرلمانية بغرفتيها سواءً من حيث منح الاختصاصات الواسعة في النظام الأساسي للدولة التي أصبح بعضها عبئًا على المجلس ويحتاج الى جيل ثانٍ وثالثٍ ورابع ليستقر وينضج ويتمكن من تقديم منتجات برلمانية وطنية قابلة للتطبيق أساسها دراسات مُعمّقة وتوصيات منطقية واقتراحاتٍ تلامس حاجات الوطن من القوانين والتشريعات والأعمال الرقابية والمالية وغير ذلك ، أو من حيث توفير الإمكانات والتسهيلات والموازنات العريضة لمجلس عُمان ، أو من حيث إتاحة الفرصة للاجتماع بمجلس الوزراء للحوار وتبادل الأفكار وتحقيق مبدأ التعاون والتكامل بين السلطتين التنفيذية والبرلمانية ، أو من حيث توفير المقر الرحب ” مبنى مجلس عُمان الجديد ” بتجهيزاته العالية التقنية وقاعاته الكبرى وهو يُعدُّ مفخرة ومكسبا من مكاسب النهضة العمانية الحديثة ، إلاّ أنه بعد أكثر من عقد ونصف على قيام مجلس عُمان يبدو أنّ العطاء دون مستوى الطموحات الوطنية والشعبية ولا يحقق القناعة والرضا على مستوى القاعدة الجماهيرية ، ولا يزال بعض أعضاء المجلس يبحثون ويتحدثون عن امتيازاتٍ شخصية ومخصصاتٍ مالية وحصانات برلمانية وجوازات دبلوماسية وحقوق تقاعدية ، وأن تكون لهم مكاتب في محافظاتهم وأن يكون لهم طاقم موظفين يعيّنون لأجلهم ويسرحون بسببهم وغير ذلك، وهنا أستحضر فقرة من خطاب جلالة السّلطان المعظم حفظه الله ورعاه في افتتاحه لمجلس عُمان عام 1997م حين قال ( إن مسيرة التنمية الشاملة لا تكتمل إلا بالتكاتف والتعاضد والتعاون ، والتساند بين الحكومة والمواطنين ، لذلك فان مسؤوليتكم في استمرار هذه المسيرة كبيرة وعظيمة وهي مسؤولية وطنية سوف تحاسبون عليها أمام الأجيال القادمة فهل أنتم مستعدون لحملها ؟؟؟ إن ذلك يحتم عليكم أن تبدو آراءكم وأن تقدموا اقتراحاتكم بكل تجرد وترفع عن المصالح الخاصة وأن تلتزموا الواقعية في تناول القضايا التي تمس المصلحة العليا للوطن والمواطن ) انتهى الاقتباس .
ولا أريد أن ألقي باللوم على المؤسسة البرلمانية وحدها ، لأن الحكومة تتحمل جزءًا من التعطيل والتأجيل عندما لا يعرف مجلس عُمان شيئا عن مصير دراساته وتوصياتها التي يجتهد سنوات في بحثها وتحضيرها ثم يحيلها إلى مجلس الوزراء ، تذهب إلى هذا الأخير ولا يعود لها أي أثر ، ثم إن القوانين ومشاريع القوانين تتعطل في مجلس الوزراء لسنوات ولا يعرف أحدٌ سببا لهذا التعطيل ، وفي حين حدَّد النظام الأساسي للدولة مُددا لمجلسي الدولة والشورى لإقرار أو تعديل مشاريع القوانين المحالة إليهما من مجلس الوزراء لا تتجاوز الأربعة أشهر ونصف في الأحوال العادية والشهر ونصف لمشاريع القوانين التي لها صفة الاستعجال ، إلا أنه جعل الباب مفتوحًا لمجلس الوزراء ولم يلزمهُ بأية مدة لإصدار القانون ، ويبدو أن هناك فجوة في الطريق الموصل بين مجلسي عُمان والوزراء غير مُعبّدة كما يجب، تتعثر فيها كثير من المشاريع والمصالح الوطنية ويلوم بسببها كلٌّ منهما الآخر، وهذه الفجوة يجب التعرف عليها جيدًا والاعتراف بتأثيرها السلبي على المصلحة العامة وإصلاحها ، تحقيقا لمبدأ لشفافية الذي يجب أن تنتهجه جميع المؤسسات وحفاظا على المصالح العليا للوطن والمواطن في كل مكان .
أخيرًا أرى بأن نظام المجلسين في سلطنة عمان يحتاج الى إعادة نظر، فبالإضافة الى أنه نظام مُكلف ماليا في بلدٍ تعددت فيه المؤسسات الرسمية على نحو تشكل فيه بعض هذه المؤسسات عبئًا إداريًا وماليًا على الدولة، فإن هذا النظام أيضا لا يُساعد على سهولة وانسيابية العملية التشريعية بالقدر الذي يعقدها ويعرقلها ويبطئها في عصر تتسارع فيه الحياة وتتعدد فيه المصالح الوطنية والدولية ولا تحتمل أي بطء أو تعقيد في الإجراءات، وربما من المناسب أن يكون هذا التغيير هو المنطلق لتعديل ( جزئي ) قادم للنظام الأساسي للدولة، التغيير الذي طالبت به الجهات والشخصيات الحقوقية في السلطنة .
د.صالح المسكري