د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
تشكل منظومة تقييم أداء المعلم في التعليم عن بعد أهمية كبيرة في رسم ملامح النجاح وتقليل مؤشرات الإخفاق في الجهد التربوي المقدم في التعامل مع هذا النوع من التعليم، والصورة الذهنية التي تعكسها ممارسات المعلمين وقناعاتهم واستيعابهم لمتطلباته على قبول الطالب له وشعور ولي الأمر بوجود تقدم ملحوظ في تعلم أبنائه؛ وما يطرحه ذلك من الحاجة إلى استخدام بدائل تقييمية داعمة للمعلم وقدرته على تحقيق رسالته والوفاء بمهمته، على مستوى بنية التقييم ومحتواه وأساليبه ووسائله وأدواته، ودخول ولي الأمر والطالب كعنصرين أساسيين في عملية تقييم أداء المعلم في التعاطي مع المحتوى الرقمي، ذلك أن الحكم على أداء المعلم في هذا النوع من التعليم لا يقتصر على تخطيطه للدرس أو كتابته له في دفتر التحضير واطلاع المشرف ومدير المدرسة عليه؛ بل بما يحققه من قيمة تعليمية مضافة في حياة الطالب وسلوكه ومدى قدرته على استيعاب الموقف التعليمي وتحقيق تعلم يستطيع من خلاله أن يجيب كحد أدنى على التساؤلات المطروحة في الكتاب أو الواجب البيتي المطلوب من الطالب الإجابة عليه.
وبعد ما يزيد على شهر من بدء تعلم الطلبة عبر نظام التعليم عن بعد في الأول من نوفمبر 2020، ودور أولياء الأمور في مساندة أبنائهم في إتقان أبجديات هذا النظام ومفاهيمه من واقع المنصة التعليمية، يصبح إغفال ولي الأمر من منظومة التقييم أمرا مجحفا في حقه، الذي بدأ يدرك أن هذا النوع من التعليم في ظل التحديات التي يواجهها والإشكالات التي يعاني منها، ما زال لم يحقق لابنه تعليما يشعره بالتقدم أو يوفر له جرعات تعليمية كافية يستطيع من خلالها أن يؤدي التزاماته الدراسية سواء بالقراءة أو التحضير أو حل الواجبات أو بزيادة هرمون الدافع الشخصي لدى الطالب بالتعلم الذاتي خاصة في الصفوف (1-9)، وبالتالي فإن تبني أدوات تقييم مغايرة للمعتاد، قادرة على رسم ملامح الإنجاز، واضحة للمعلم والممارسين التعليميين، يحقق فرص المعلم في المنافسة وبناء القدرات وتطوير المهارات، وحفز دافع التجديد والابتكارية والتحديث للخبرات والمهارات وإعادة تنشيط الهامل منها؛ أحد المدخلات في تقديم فرص نجاح أكبر للمعلم في استدراك الخلل وتحديد موضع المشكلة وتقييم مستوى الاستيعاب المتحقق ، وتوجيه بوصلة العمل القادم نحو الجوانب التي تحتاج إلى المزيد من التركيز عليها من قبل المعلم أو إعادة شرح الدرس للطلبة مرة أخرى.
ومع التقدير لما يبذله المعلمون من جهد نوعي وسعي مستمر نحو الوصول إلى تدريس ناجح رغم التحديات المرتبطة بشبكة الإنترنت وحالة الإغلاق المستمرة لها في أثناء الموقف التعليمي ذاته، وتدني مستوى الاستعداد والجاهزية لدى وزارة التربية والتعليم والشركات العاملة في مجال الاتصالات في تقديم خدمة تعليمية وتقنية واتصالية قادرة على سد الاحتياج والوفاء بمتطلبات التعليم عن بعد، والإحراجات المستمرة التي يتعرض لها المعلم في التعامل مع هذه العوارض الحاصلة والتي لها انعكاساتها السلبية على أداء المعلم وتشتت الذهن وتقليل مستوى التركيز وارتفاع هاجس القلق والحس المسؤول لديه في هدر وقت الحصة ، أو في فقد الأفكار وتسلسلها؛ إلا أن التعليم عن بعد أظهر وجود تباينات واضحة بين المعلمين في ما أشرنا إليه، ولعل من بين المبررات التي قد تثار في هذا الجانب ترجع إلى استيعاب المعلم واعداده وتهيئته القبلية وفهمه لما يحصل وعدم ثبات المنصة التعليمية وحالة التداخل والتغيير المتسارع والاضافات الحاصلة لها وضعف الشبكة والتحول الجديد في عملية التعلم ، والتي قد تكون أحد مبررات هذا التمايز ومسببات هذا التباين بين المعلمين في تعاطيهم مع منظومة التعليم عن بعد، ناهيك عن علاقة ذلك ببعض المتغيرات الديمغرافية والتي قد يكون من بينها تخصص المعلم ذاته ومستوى اطلاعه او استخدامه لهذا النمط من التعليم في تخصصه الدراسي أو في استراتيجيات التعليم والتعلم اليومية أو جوانب الاهتمام الشخصية التي يمنحها للتقنية بحيث تكونت لديه معرقة تراكمية واسعة استطاع من خلالها أن يمتلك مساحة أكبر للابتكارية والمبادرة والاستمرارية في تنفيذ متطلبات التعليم عن بعد، وما قد يكون لذلك من أثر في تفوقه على زميله الآخر الذي قد يكون مقلا في هذا الجانب، مما أوجد حالة من التباين والفارق بين المعلمين في الأداء، وهو ما انعكس ذلك على دافعية الحماس لديهم ورغبة التغيير في ذاتهم ، والحرص على تنفيذ دروسهم، وهاجس الشعور بالتقصير عند حدوث عارض الفصل في الشبكة او انقطاع الصوت أو وجود خلل فني ليتم تنفيذ الدرس بكل ثقة وتشوق في وقت آخر خارج وقت الدوام الصباحي، لتظهر في المقابل روح التغيير في قناعات ولي الأمر والطالب فيجهز نفسه لحضور الدرس، هكذا صنع بعض المعلمين واقعا مغايرا لما فرضته الشبكة من تحديات وأوجدته من اختلالات ونفور؛ بيد أن هذا الحماس والدافع النفسي الذي أوقده بعض المعلمين بإخلاصهم وحسهم المهني وروحهم العالية في تحقيق التعليم عن بعد قد غيّر الموازين وأعاد الثقة في دور التعليم عن بعد في رسم ملامح الابتسامة والإيجابية في أبنائنا.
أخيرا لقد أفصح نظام التعليم عن بعد عن وجود كفاءات تعليمية من المعلمين المجيدين، ملهمة في زمن التغيير، تستحق التقدير والاجلال ورفع القبعة لها، أسهمت في إعادة صياغة الواقع السلبي الناتج عن قصور في الشبكة وتدني أداء المنصة، بيد أن هذا العطاء المتجدد الذي امتلكه المعلم عزز في الطالب روح التغيير وحب المبادرة والاستعداد والجاهزية، وعلى العكس من ذلك فقد ضاع أبناؤنا أمام تهاون بعض المعلمين وسوء إدارتهم للموقف التعليمي وضعف الحماس والرغبة لديهم التي قد تفوق في تأثيرها ما يمتلكه المعلم من معلومات ، ليبقى الشعور السلبي الناتج عن ضعف التعامل مع المواقف المرتبطة بالشبكة وإنهاء الدرس وعدم العودة إليه لمجرد انقطاع الصوت أو خلل في الشبكة، مساحة أسهمت في رسم علامات الحزن والألم والأسف في قدرة التعليم عن بعد في بناء جيل المتعلمين القادم.