د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
د. رجب بن علي العويسي-
خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
يفرض ملف الباحثين عن عمل من مخرجات التعليم الجامعي وما قبل الجامعي اليوم واقعا جديدا على منظومة الإصلاح الاقتصادي الوطني التي جادت بها رؤية ” عمان 2040″ ، في ظل ما أشارت إليه بيانات التعداد الإلكتروني بالسلطنة لعام 2020 من أن عدد المواطنين الباحثين عن عمل بلغ 65.438 ألف باحث عن عمل ، منهم 40.879 ألف إناث، و24.559 ذكور، حيث تركز العدد الأكبر من الباحثين عن عمل في الفئة العمرية أقل من 29 عاما بواقع 47.115 ألف باحثا عن عمل، منهم 20.4 ألف ذكور، و26.6 ألف إناث ، ومن حيث المؤهلات العلمية للباحثين عن عمل فقد كان على التوالي، 44% من حملة المؤهل الجامعي ، و27% من حملة مؤهل الدبلوم، و19% من حملة الدبلوم الجامعي.

عليه فإن اسقاط هذه المؤشرات على صورة مؤسسات التعليم لدى الباحثين عن عمل، يرتبط بأمرين، الأول: أن أغلب هذه الفئات هم ما دون سن 29 سنة وهم فئة الشباب ، بما يحمله من شغف العطاء والمبادرة، وحب التجديد والتطوير، والتحدي والمغامرة، والثاني، أن حملة المؤهل الجامعي ( بكالوريوس أو ما يعادلها) هي اكثر شرائح الباحثين عن عمل، بما يحمله ذلك من تراكمات وتداخلات لعوامل فكرية ونفسية واجتماعية واقتصادية كونها فئات مرت بكل مراحل التعليم، واكتسبت خبرات وتجارب متعددة، لذلك تنتظر بعد تخرجها فرص الحصول على وظيفة الحياة التي تبدأ خلالها رحلة العطاء والانجاز، وبناء الذات، واعداد النفس لمتطلبات الحياة المهنية والاسرية والاجتماعية، ناهيك عن أن المجتمع ما زال ينظر للتعليم الجامعي نظرة تقدير واعجاب ويضع الملتحقين به أمام مقارنة مجتمعية وشعور بالفخر ، وينتظر المجتمع من مخرجات المؤهل الجامعي حصولهم على مزيد من الفرص الوظيفية والامتيازات المهنية كونهم يمثلون مرحلة متقدمة عليا في التعليم ، وعليه فمع مرور الوقت يصبح لهذه التراكمات أثرها على قناعة الخريج “الباحث عن عمل” فتولدت لديه صورة سلبية مشوهة حول مؤسسات التعليم العالي( جامعات، كليات، معاهد عليا) التي تخرج منها ومنحته شهادة التخرج والاعتراف ، إلا أنها لم تستطع أن توفر له سوق العمل الذي يحتويه، ويحتفظ به، ويعمل على تجديد مهاراته وفتح آفاق العطاء له، وهو ينتظر لسنوات عدة – قد تصل في بعض التخصصات إلى عشر سنوات أو اكثر.

من هنا فإن قدرة الجامعات ومؤسسات التعليم العالي على الاحتفاظ باستحقاقات التقدير والاعتراف المجتمعي في أعلى سلم الإنجاز، يرتبط بمستوى حضور التعليم في بناء عمان المستقبل، والرهان الذي يقع عليه في تعزيز المنظومة الاقتصادية، بحيث تعمل مؤسسات الدول والقطاع الخاص على احتواء هذه المخرجات واستيعابها لتمارس دورها بكفاءة ومهنية ، فإن اهتزاز صورة مؤسسات التعليم في المجتمع، والقناعات التي تحملها المخرجات حول التعليم ومؤسساته سيكون لها تأثيرها على مستقبل التعليم ذاته، وقدرته على تحقيق أولوياته، والوصول إلى غاياته، والاستثمار في المساحة الممنوحة له في رسم ملامح المستقبل، فإذا لم يكن قادرا اليوم على صناعة انجاز تفخر به هذه المخرجات، فإنه سيكون غير قادر مستقبلا على الاحتفاظ بوجوده في قناعات أبناء المجتمع.
وبالتالي أن يتجه العمل نحو تحسين الصورة القاتمة، وانتزاع هاجس الخوف لدى الأجيال من مستقبل التعليم، وتصحيح الأفكار السلبية والمعلومات الخاطئة التي اشترك الجميع في ترسيخها سواء أكان المجتمع أم الأسرة أم مؤسسات التعليم أم مؤسسات الاقتصاد والمال، والقناعات التراكمية التي ما زالت تقرأ المنظومة الاقتصادية بعيدا عن التعليم، وتفصل منظومات التوظيف والتشغيل والتمكين والتدريب عن المسار التعليمي ذاته، وتعمل على تبرير اتساع فجوة التواصل بين مخرجات التعليم وسوق العمل، إذ من شأن ضمان ثقة المخرجات في المؤسسات التعليمية أن يضعها أمام استحقاقات قادمة في سوق العمل المحلي، ويعيد انتاج الواقع الوطني بوضع التعليم كمحرك لأجندة العمل الوطنية وبوابة رئيسية لدخول المستقبل، فيتعدى دوره جانب التنفيذ إلى المشاركة بفاعلية ومهنية في رسم ملامح المنظومة الاقتصادية، وتقديم تخصصات نوعية تتفاعل مع معطيات الواقع وتستجيب لضروراته، وتتكيف مع طبيعة التحول الحاصل في سوق العمل، وتجد قبولا لها من المؤثرين الاقتصاديين ، والوقوف على التخصصات المشبعة بالجامعات ومؤسسات التعليم العالي، والوظائف المتراكمة ، إما بتعديل محتواها، أو توجيهها لتخصصات أخرى ذات أولوية أو تعليقها لحين وجود احتياج قادم لهذه التخصصات، أو عبر إيجاد تخصصات تتواكب مع وظائف المستقبل في ظل الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحديثة، حتى تصبح مصدر فخر واعتزاز لدى هذه المخرجات بأن مؤسساتها التي تنتمي إليها ، استطاعت أن تفتح لها الآمال الكبيرة والانطلاقة الواسعة في اثبات بصمة حضور لها في ميدان المنافسة العالمي.
أخيرا فإن إعادة تحسين صورة المجتمع عامة والباحثين عن عمل خاصة حول التعليم ومؤسساته، يستدعي اليوم أن تقدم الأخيرة صورة نموذجية أكثر تفاؤلية لدى مخرجاتها، تضع هذه المخرجات أمام مبادرات متجددة، وفرص تستشرف فيها كفاءة المنجز التعليمي وقدرته على التعاطي مع الإخفاقات الناتجة عن فجوة التباين بين مخرجات التعليم وسوق العمل، والممارسة التعليمية وامكانيات سوق العمل الوطني، آخذا في الاعتبار الهاجس الذي يعيشه المتعلم في ظل معطيات واقع الباحثين عن عمل والمسرحين من الشركات ومؤسسات القطاع الخاص، وتجديد الثقة في الكفاءة العمانية ومخرجات مؤسسات التعليم، وتناغم هذه الصورة مع توقعات الطلبة وطموحاتهم واولوياتهم ومستوى التفاعل الذي يبديه التعليم في بنيته ومحتواه وهيكلته في بناء أرضية صلبة تقف عليها مخرجات التعليم لاستشعار جميل ما قدمته هذه المؤسسات إن لم يكن على جانب توفير الوظائف ومساهمة التعليم في صناعة وظائف المستقبل ، فعبر تعزيز بناء المهارة، وإدارة المشروع الذي يتيح للمخرجات فرص الاستفادة من تراكم المهارات والخبرات والتجارب والمواقف التي عايشتها في مقاعد الدراسة أو في مواقف الحياة المختلفة.