د. رجب بن علي العويسي
ينطلق طرحنا للموضوع من فرضية ما تمثله مؤسسات التعليم الوطنية من رافد لتعيين قيادات الدولة من وزراء ووكلاء وزارات ورؤساء تنفيذيين ومن في حكمهم، ومسؤولية التعليم في صناعة المخلصين الذين يحتاجهم الوطن للقناعة بأن صناعة القدوات وإنتاج المخلصين والحاجة إليهم وأهمية وجودهم في المؤسسات يفوق الحاجة إلى المهارة والخبرة والتجربة والشهادة العلمية، لذلك لم تعد طموحات المجتمعات من التعليم فقط في إنتاج الوظائف، وبناء المهارة، وتأصيل الهوية، وترسيخ القيم، بل والأهم من ذلك مسؤوليته في صناعة المخلصين وإنتاج القدوات المجتمعية التي ستحمل في يوم ما مسؤولية القيادة في منظومة الجهاز الإداري للدولة، لتترك بإخلاصها بصمة عمل مشهودة، وسيرة مهنية حسنة، وإنجاز وظيفي يفوق التوقعات ويحقق الأحلام والأمنيات.
ولعل ما ترصده أبجديات الإدارة من سرّ تقدم المجتمعات وتطور جهازها الإداري، وانخفاض معدلات الفساد فيها، وانحسار الهدر في الموارد والفاقد في الثروات، وقدرة المؤسسات والشركات على تحقيق تحول في أدائها، وكسبها ثقة المستفيدين والشركاء ومجتمعها الوظيفي؛ إنما يكمن في وجود المخلصين على رأس هرمها، وحضور العقل الإستراتيجي المخلص في صناعة القرار، وتمكين المخلصين من إنتاج الحلول واستمطار الأفكار، وتكوين الفرص المناسبة لهم في رسم ملامح التحول، وإعادة إنتاج الواقع وهيكلة وفق مبادئ الحق والعدل، والكفاءة والإنتاجية، والمصداقية والموضوعية.
إن عُمان وهي تتجه إلى المستقبل، بخطى ثابتة، وأهداف طموحة، وغايات كبيرة، وإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين على أعتاب مرحلة مهمة في تاريخها المعاصر تجسدها تطلعات أبنائها في الرؤية المستقبلية “عمان2040″، بحاجة إلى المخلصين الذي يواصلون مشوار العمل الكفء والإنجاز الأصيل، بطريقة أكثر ابتكارية واحترافية ومهنية، تتجاوز سلبيات الماضي وشطحاته، وانزلاقاته وانحرافاته، وتقف في وجه مسببات الهدر والفساد، وحالة الأنانية وسوء استغلال الوظيفة العامة، وما ارتبط بها من نزوغ إلى الفردانية والسلطوية وحب الذات، وتغليب المصالح الذاتية، والسقطات التي تسببت فيها بعض العقول، لتنعكس سلبا على حياة الوطن والمواطن، وسلبه ثرواته وموارده وحقوقه، واختزال أفكاره وأطروحاته، ومصادرة تفكيره ووجهات نظره، بما ولده ذلك من أزمات متتالية، وتركه من صدمات متراكمة، وسلبه من إرادة الأمل والحب والحياة والشعور بالأمان النفسي في مجتمع السلام والأمن، حتى أنتج حالة من التذمر والتنمر، وفجوة الثقة وتدني مستوى التفاؤلية في أداء المسؤول الحكومي وقدرته على صناعة مواطن المرحلة، وبالتالي تتجه الأنظار في ظل ما تعيشه المرحلة من تحولات وتداخلات وتشابك في المؤثرات والظروف، وعقدة المسؤول الحكومي التي بدت تتصاعد في فقه المواطن وقناعاته، إلى أهمية استحضار معيار الإخلاص في اختيار المسؤول الحكومي بكل ما يحويه هذا الخلق من معنى، ويجسده في بنيته ومحتواه من مغزى، لتصبح مسألة استقطاب المخلصين في وحدات الجهاز الإداري للدولة أولوية في كفاءة المسؤول الحكومي تفوق غيرها من معايير الشهادة والخبرة والمكانة الاجتماعية، ويبقى الإخلاص لغة جامعة تحتوي كل المميزات والمعايير والممكنات والفرص التي تحتاجها كفاءة المسؤول الحكومي ليؤدي دوره بإخلاص، ويمارس مهمته بمسؤولية، ويسكب عليها مساحات الوعي والذوق والمهنية وأخلاقيات الإنسان، ويستقطب فيها الضمير الحي الذي يجسد التغيير في واقعه، ويرسم التحول في إنجازاته.
وفي سبيل تأسيس هذا المعيار وتأصيله- الجامع لكل فضيلة، والحارس الأمين لموارد هذا الوطن وإنسانه- تتجه المسؤولية إلى التعليم –مدخل إنتاج هذه القيادات- في صناعة المخلصين المحافظين على أمانة الوطن، الواقفين على مسؤولياتهم، والقائمين بواجباتهم، والمنطلقين نحو تحقيق غاياته وأهدافه بروح المواطن المخلص الغيور المؤمن بوطنه حق الإيمان، واضعين المواطن نصيب أعينهم وطريقهم لبناء مجتمعهم، واضعين نصب أعينهم أولويات المواطن، زارعين في طريقه غراس الأمل والتفاؤل والإيجابية، ساعين لتذليل الصعوبات وتجاوز العراقيل بعزيمة صلبة وإرادة لا تلين تسهر على راحة المواطن، وتتفانى في خدمته، انطلاقا من إيمانها بأن الوظيفة تكليف لا تشريف، مستثمرين كل الفرص لحياة كريمة وعيش سعيد، إنهم المخلصون الذي يحتاجهم الوطن، وتخصب بهم البلاد، وتتجسد في شخصيتهم فضائل الأعمال، وتسمو بهم طاقات العطاء، ويفتخر بهم المواطن، ويتفاخر بهم الإنجاز، وتتحدث عنهم النتائج، ويحافظون على استدامة الفرص، واستمرارية النجاح، من يرسمون ملامح التغيير بواقع متجدد يتجاوز كل الأفكار السوداوية والأنماط التقليدية في طلتهم الإعلامية، من يصنعون للحياة في ظلال الوطن وخيراته مذاقا جميلا، ولحنا يستوعب القلوب النقية، إنهم من يتقدمون المواطن في الدفاع عن حقه ومبدئه، من يتحملون مسببات الإخفاق، وينسبون لأنفسهم التقصير، ويؤسسون نماذج إيجابية في الواقع، ويتركون ذكرى حسنة لن تنسيها السنون والأيام، ويبنون لها نهجا، الصادقون الأوفياء، العاملون الكرماء، الحافظون لحدود الله والوطن والسلطان، المتجردون من أنانية الذات وعقدة الأنا، من يستكشفون العمق، ويقفون على التحدي، ويتفرغون للمتابعة، ويستمعون للشكوى، وينتجون حافز الإلهام وبدائل الحل، من يحملون رسالة عمان: الأرض والدولة والإنسان، ويؤسسون فرص الحياة الكريمة لأبناء وطنهم في مختلف المواقع والمسؤوليات، من يأخذون بيد بني جلدتهم لما فيه خير الوطن والمواطن، ويمتلكون عقلية الوفرة التي تستثمر في الكفاءة العمانية والخبرة الوطنية باعتبارها أهم الأولويات، وأفضل الاستثمارات وأدومها وأنضجها على الإطلاق، فإن قدرة التعليم على إكساب المهارة، وإنتاج فقه الشخصية، وترقية الدوافع، وتعزيز الإنتاجية لا تكفي إن جانبها الإخلاص وانتُزعت منها القدوة، وضاع من وجهها الحياء وحس المسؤولية وحياة الضمير.
أخيرا وفي ظل معطيات المرحلة وشواهدها الكثيرة التي باتت تحدد ملامح المسؤول الحكومي الذي يريده الوطن والمواطن، يبقى الإخلاص سيد المواقف، وحامل لواء المنافسة، وحكيم الزمان في صناعة الإنسان وبناء الأوطان، وبقدر حرص المؤسسات جميعها بلا استثناء على ترقيته، وتشخيصه، وتعزيز حضوره، وتنشيط حركته، واستحضار موقعه، وإبراز نواتجه؛ بقدر ما تكسب الرهان، وتنتج معايير القوة، وتضمن قدرتها على صناعة الفارق، والخروج من مرحلة الازمات والشكاوي والتحديات إلى إنتاج الحلول الواقعية، والبدائل المقنعة، والمبادرات الجادة، بما لا يترك مجالا للهدر، أو يعطي مبررا للهروب من المسؤوليات والتنصّل من الالتزامات، ليصنع تحولا إستراتيجيًا إيجابيًا عميقا، يظهر في سلوك المجتمع الوظيفي وكفاءة الأداء المؤسسي، وعندها يصبح العمل الموحّد من أجل سعادة المواطن وتوفير العيش الكريم له، الطريق الذي يضمن لمؤسسات الجاز الإداري للدولة لجاهزيتها في اللحاق بركب التقدم العالمي ودخولها في ميدان المنافسة.