أثير- د. محمد بن حمد العريمي
بيني وبين منطقة (وسط البلد) في قلب العاصمة المصرية القاهرة عشقٌ قديم يتجدد في كل مرةٍ أزور فيها مصر التي ما من مرةٍ حطّت فيها قدماي إلا وكنت أكاد أطير شوقًا إلى لقاء وسط عاصمتها لقاء الملهوف، وكأنني لم أرها من قبل، بل وكأنني لن أراها بعد ذلك مرةً أخرى، وأنا الذي أحفظ شوارعها وبناياتها ومحلاتها ومقاهيها كما يحفظ الطفل أصابع يديه.
إن وسط القاهرة ليس مجرد حيزٍ سكاني يمتلئ بالمباني ويعج بالبشر، بل هو متحفٌ مفتوح يكاد كل شبرٍ فيه يحكي قصةً ما، وكل حجرٍ فيه كان شاهدًا على حدثٍ معين. إنه أشبه بمغارة علي بابا الممتلئة بجرار الكنوز الثمينة، فلكل شارعٍ قصة، ولكل بنايةٍ حدث. هي أوروبا الشرق، تجد فيها الشانزليزيه، والبوليفار، وفيا أبيا، وبردواي، والسلطان أحمد، وتجد فيها ضالّتك من المكتبات والمسارح والسينمات والمقاهي وعربات الفول والنكتة والتاريخ والأدب وكل شيء تبحث عنه أو ترغب في رؤيته.
إن وسط البلد (عكّاسة) أو (صوّارة) أو فانوس سحري يعود بك إلى الوراء لتلمح الخديوي إسماعيل وهو يناقش مع مستشاريه رغبته في تطوير هذه البقعة، وتشاهد سعد زغلول وهو في طريقه إلى بيت الأمة، وتلمح نجيب الريحاني يستعد لدخول أحد مسارح عماد الدين، وترى الملك فاروق يدخل خلسةً إلى عمارة الإيموبيليا، وتراقب حديثًا هامسًا بين اثنين من الجواسيس وهما يتناولان إفطارهما في جروبي، وتنضم إلى شلة شبابٍ حجزوا لتوّهم تذاكر حفلة الساعة السادسة في سينما مترو أو ميامي أو أوديون، وتذهب لحجز طاولتك في مطعم (ألفي بك) الذي تأسس عام 1938، وتجلس على المقعد نفسه الذي كانت تجلس عليه أم كلثوم أثناء زيارتها للمقهى الشهير الذي يحمل اسمها. إن وسط البلد باختصار هو حكاية حياةٍ جميلة لم يشعر بها سوى من عاش بعضًا من فصولها.
“أثير” تختار لكم في هذا التقرير بعضًا من معالم هذه المنطقة – وما أكثرها – للحديث عنها والاقتراب منها، في محاولة للتعريف ببعض معالم ذلك المكان الذي زاره بعضنا، ورآه البعض الآخر من خلال الدراما والسينما المصرية.
بناية الإيموبيليا
عزيزي القارئ. أثناء تجوالك في شارع قصر النيل بوسط القاهرة، وعند وصولك إلى تقاطع الشارع مع شارع آخر لا يقل شهرةً عنه وهو شارع شريف فستجد أمامك بناية ضخمة قد يستوقفك ضخامة حجمها، وجمال تصميمها. إنها بناية الإيموبيليا التي ربما رأيت جانبًا منها في بعض الأفلام المصرية.
كانت هذه البناية سرايًا مبنيًا على الطراز الأندلسي تتخذ منه السفارة الفرنسية في القاهرة مقرًا لها حتى عام 1937 عندما تم بيع الأرض إلى أحد أثرياء مصر الكبار ألا وهو أحمد عبّود باشا الذي أراد أن يبني عليها بناية ضخمة، حيث استقدم اثنين من المصممين الأجانب الذين قاموا بتصميمها على هيئة برجين كل برج له 3 مداخل، ويضم البرج الأول 11 طابقاً فيما يضم الثاني 13 طابقاً، ويبلغ عدد شقق العمارة 370 شقة وبها 27 مصعداً، وتكلفت نحو مليون و200 ألف جنيه، وكان مبلغًا ضخمًا في تلك الفترة.
كما كانت البناية محل السكن المفضل لنجوم وفناني وأدباء وسياسيي مصر في حقبة الخمسينيات والستينيات وحتى الوقت الحالي، ومن بين الشخصيات المشهورة التي أقامت بها: نجيب الريحاني، ومحمد فوزي، وأنور وجدي، وليلى مراد، ومحمود المليجي، ومحمد عبد الوهاب، وماجدة الصباحي، وكاميليا، والسياسي فؤاد سراج الدين أحد قيادات حزب الوفد، وإبراهيم عبد الهادي رئيس وزراء مصر السابق، والأديب توفيق الحكيم.
في هذه البناية صوّرت عدد من الأفلام من بينها فيلم ” بين السماء والأرض” الذي صوّر في أحد مصاعد البناية، كما أن فكرة فيلم “غزل البنات” قد ولدت لدى الفنان نجيب الريحاني في أحد مداخل هذه البناية الشهيرة.
باختصار، يمكن أن نقول إن عمارة الايموبيليا تعد شاهدة على جانب مهم من تاريخ مدينة القاهرة خلال فترتي الخمسينات والستينات بما شهدته من زخم أحداثٍ كثيرة ارتبطت بسكّانها، ولا يزال من تبقى من بوّابي البناية الأربعة عشر يتذكرون كثيرًا من أسرارها التي لم تروَ بعد.


بناية التأمين الأهلية
وأنت في طريقك من ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة مخترقًا شارع قصر النيل الشهير، وعند وصولك إلى ميدان مصطفى كامل سترى خلف التمثال الذي يتوسط الميدان والذي يخلّد ذكرى أحد أبرز الشخصيات السياسية المصرية في التاريخ المعاصر وهو الزعيم السياسي مصطفى كامل مؤسس الحزب الوطني، وصاحب جريدة اللواء، وصاحب مقولة ” لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً“، بنايًة ضخمة تحمل الرقم 41 شارع قصر النيل، وتعلوها اسم “شركة التأمين الأهلية المصرية”.
بنيت هذه البناية عام 1900 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، على يد معماريين فرنسيين على غرار أغلب بنايات وسط البلد التي صمّمها مهندسين أوروبيون، وتأخذ شكل القوس المطل على الميدان، ولها ثلاث واجهات تطل على ميدان مصطفى كامل، وشارعي قصر النيل ومحمد فريد.
بناية عدس
يعد شارع عماد الدين من أهم شوارع وسط البلد في القاهرة خاصةً في النصف الأول من القرن العشرين وقبل حريق القاهرة الشهير في يناير عام 1952، حيث كان يعج بالحركة والنشاط، وكان يعد شارع الفن والترفيه، حيث اصطفت على طول الشارع العديد من السينمات والمسارح ودور الفن، والمقاهي الخاصة بالفنانين والكومبارس، ومن بينها: سينما بيجال، ومسرح ماجيست، وسينما ليدو، وسينما كوزموس، وسينما ريسانس، ومسرح نجيب الريحاني، ومسرح متروبول، ومسرح الهمبرا، وسينما يونيون، وغيرها. حتى إن الشوارع المحيطة به تحمل أسماء الفنانين، فهناك هناك شارع نجيب الريحاني، وشارع زكريا أحمد، وشارع علي الكسار، وشارع سيد درويش.
ويمكن أن نعد الشارع نسخة من حي البوليفار في باريس، حيث أن بناياته تميزت بطابع فريد في التصميم تضاهي بنايات باريس، ومن أبرزها عمارات الخديوي الشهيرة التي تأخذ جانبًا من الشارع، وبنيت على الطراز المعماري الإيطالي، واستخدم الرخام فيها في الأعمدة والسلالم.

جانب من شارع عماد الدين بوسط القاهرة وفي نهايته تبدو البنايات الخديوية
ومن البنايات ذات التاريخ المهم في شارع عماد الدين هناك (عمارة عدس) التي تحمل رقم 10 شارع الألفي، وتحديدًا عن تقاطع شارعيّ الألفي وعماد الدين، وهي من تصميم المهندس المعماري الإيطالي ماركو أوليفيتي عام 1935.
في يومٍ من الأيام وأثناء ما كان (عماد الدين) في قمّة عزّه الفنّي، كانت هذه البناية مقرًا لأحد المسارح الشهيرة وهو مسرح (الكورسال) الذي تأسس عام 1913 وكان أكبر مسرح في القاهرة وقتها، وقد شهد المسرح إقامة عدّة حفلات غنائية للمطربة أم كلثوم، كما عمل به العديد من النجوم من بينهم نجيب الريحاني.
وقد هدم المسرح عام 1935 لصالح بناء عمارة تحمل اسم عدس، وسمي نسبة إلى إحدى العائلات اليهودية الشهيرة في عالم الاقتصاد في فترة ما قبل ثورة 1952، والتي أسست مجموعة شركات مثل بنزايون، وريفولي، وهانو،وعمر أفندي.
عمارة تيرنج
تعدّ العتبة بأسواقها الشعبية الشهيرة، وشوارعها الكبيرة المتفرعة منها، وترامها الشهير، ومبانيها التاريخية، هي “سرّة القاهرة” ومركزها، حيث إنها تتوسط المنطقة ما بين القاهرة الإسلامية والقاهرة الأوروبية، لذا فلا يمكن لزائر القاهرة أن يزورها دون المرور على عتبتها الشهيرة. ولا يمكن نسيان الفيلم الشهير الذي مثّله الفنان إسماعيل ياسين وحمل اسمها مضافًا إليه اللون الأخضر، مع إن العتبة كانت في الأصل زرقاء!
في العتبة تقع العديد من المعالم التي ارتبطت بوجدان ساكنيها، وصنعت جزءًا من أحداثها، ولعل من بينها بناية (تيرنج) الشهيرة التي تعد أحد معالم العتبة والشاهدة على حقبة مزدهرة حضاريًا وثقافيًا.
اشتهرت البناية التي صمّمها المعمري النمساوي أوسكار هوروفيتس وتم الانتهاء من بنائها عام 1913، بقبّتها المتفرّدة، وتعود ملكيتها إلى الثري اليهودي فيكتور تيرنج، الذي كان يطمح إلى أن يحاكي في عمارته فنادق (سيزار ريتز) التجارية في أوروبا، واختار العتبة نظرًا لموقعها التجاري المتوسط، ويذكر البعض أنها بنيت على أنقاض مسرحٍ بناه الفرنسيون أثناء الحملة الفرنسية على مصر، واتخذه محمد علي باشا مقرًا له قبل أن ينتقل إلى القلعة.
أصبحت ” تيرنج” من أكبر المتاجر متعددة الطوابق بالقاهرة في ذلك الوقت، وكانت تتكون من خمسة طوابق تعرض فيها البضائع الأوروبية المتنوعة من منسوجات وأدوات منزلية وعطور وأقمشة.
أراد تيرنج تمييز مبناه فأمر بتصميم كرة أرضية تحملها أربعة تماثيل أعلى قبة المبنى، وكانت تلك الكرة تظهر لامعة براقة في الليل، وقد ارتبطت بقصص وأساطير عن وجود مشنقة أعلى القبة.
تحولت طوابق البناية وشققها في الوقت الحاضر إلى محالتجارية وورش لتصنيع الملابس، ومخازن للمحلات المنتشرة في منطقة العتبة واحتل مدخلها الباعة الجائلون وسيطروا عليه، بعد سنواتٍ من العز والمجد الغابر.
بناية جراند هوتيل
وأنت تتجوّل في شارع 26 يوليو الشهير في وسط البلد بمحلاته ومقاهيه الشهيرة، في طريقك إلى شارع طلعت حرب، أو إلى بسطة عم عثمان الأسواني الشهيرة لبيع الكتب والصحف، أو لتستمتع بوجبةٍ مصريةٍ دسمة في أحد مطاعم شارع سراي الأزبكية المتفرع من ميدان أحمد عرابي، ستصادفك بناية ضخمة تأخذ الرقم (17) من الشارع، وتحمل اسم (فندق جراند هوتيل).
هذه البناية كانت في الأساس مجموعة من ثلاث عمارات بنيت على قطعة أرض تعود إلى الأمير مصطفى ابن الأمير إسماعيل كتخدا، الذي كان قد جعل الأرض وقفًا على ذريته عام 1092 هجرية، أي منذ أكثر من 340 عاما، إلى أن آلت إلى وزارة الأوقاف التي قررت بناء بناية عليها، حيث طلبت من المهندس محمد كمال إسماعيل، مصمم مجمع التحرير أن يضع تصاميمها، حيث قسمت الأرض إلى ثلاث بنايات تجمع بينها ممرات خصوصية، وتلتقي هذه الممرات معًا مكونة ما يشبه ميدانًا صغيرا به نافورة.
مقهى جروبي
يومًا ما وقبل حوالي 80 عامًا من الآن قال ثعلب الصحراء الألماني روميل: “سأشرب الشاي في جروبي”، في دلالةٍ على أهمية هذا المكان وما يمثله من رمزيّة. فجروبي ليس مجرّد مقهى على الطراز الفرنسي، بل أيقونة كانت يومًا ما رمزًا ثقافيًا يعبّر عن عصرٍ جديد عنوانه الحداثة، حيث أدخل صاحبه لأول مرة أنواعًا من العصائر والحلويات والمثلجات لم تكن معروفة من قبل، كما كان يقدّم الأفلام السينمائية في حديقته الخلفية.
في هذا المقهى الذي أسسه السويسري جاكومو جروبي نهاية القرن التاسع عشر في وسط البلد قريبًا من ميدان طلعت حرب، وافتتح له فرعًا آخر في شارع عدلي، ثم ثالث في مصر الجديدة، جلست شخصيّاتٍ شهيرة من أقصى الأرض وأدناها، وصوّرت أفلام لا تزال باقية في ذاكرة من شاهدها، وحيكت دسائس ومؤامرات سياسيةٍ عديدة، ومنه خرجت العربات تحمل ألذ الحلويات والفطائر إلى بيوت الباشوات وأثرياء البلد لتقديمها في حفلاتهم اليومية.

أثناء دراستي في (عين شمس) بروكسي كنت أذهب كل عصرية إلى مقهى جروبي القريب حيث فندق هليوبليس وقصر العروبة وشارع الأهرام لاحتساء ألذّ شاي في العالم، وفي كل مرةٍ تقودني قدماي إلى وسط البلد لابد من المرور على حديقة جروبي الكائنة بين شارعي عدلي وعبد الخالق ثروت، ولو طال الزمن، فهناك تأخذني الذكريات والتخيلات إلى زمنٍ جميل قد ولّى وانصرم، وهناك أتذكر من جلسوا على تلك المقاعد المتناثرة من شخصياتٍ توالى حضورها إلى المكان على مدى قرنٍ كامل، وفي عيون من تبقى من كبار العاملين به ألمح بقايا دموعٍ تتحسف على زمنٍ مضى بذكرياته.

معهد الموسيقى العربية
وأنت تتجول في شارع رمسيس باتجاهك نحو جامع الفتح أو محطة مصر للسكك الحديد، أو وأنت قادم من الإسكندرية وترغب في أن تصل وسط البلد على رجلك ماشيًا رغبةً في رصد الحراك البشري والحضاري في تلك المنطقة التي تعد قلب القاهرة وذروة نشاطها، ستلمح على يمينك وأنت في الطريق إلى منطقة وسط البلد مبنى مصمما على الطراز المملوكي المستحدث ويشبه آثار المماليك المنتشرة على طول شارع المعز لدين الله الفاطمي. إنه معهد الفنون العربية.
تأسس المعهد عام 1914 في محاولة جادة لحفظ تراث الموسيقى العربية، وبهدف النهوض بتراث الموسيقى العربية وتعليم النظريات والنوت الموسيقية العربية وأداء المؤلفات المختلفة لتراث الموسيقى العربية، وكان خلف تأسيسه مصطفى بك رضا، وكان على شكل ناد للموسيقى لحفظ الموسيقى العربية من الاندثار.
وفي عام 1921 أهدته الحكومة المصرية قطعة من الأرض، وبعد عام كان قد تم افتتاح معهد الموسيقى العربية على يد الملك فؤاد الأول وكان اسمه حينئذ المعهد الملكي للموسيقى العربية، وتخرج منه عدد من الفنانين والمؤلفين من بينهممحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم نويرة. وهو ينقسم إلى الأقسام التالية: مسرح معهد الموسيقى العربية، والمكتبة الموسيقية، ومتحف محمد عبد الوهاب، متحف الآلات الموسيقية.
في سبتمبر عام 1977 تم نقل المعهد إلى أكاديمية الفنون بالهرم تحت اسم المعهد العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار)، أما مبنى شارع رمسيس فقد تحول إلى متحف، وفي عام 2002 تم إعادة افتتاح المبنى بعد تطويره.
المراجع