أثير- الروائي الأردني جلال برجس
في عام 2018 ابتعثت في دورة تدريبية بمعية عدد من زملائي إلى بريطانيا تحديدًا إلى بلدة ريفية تدعى (Radnor) التي تقع على مقربة من حدود Wales) ). وصلنا الفندق ليلًا، وفي الصباح انطلقنا عبر طريق تحفها الأشجار، وترافقني فيها رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح. وضعت الرواية جانبًا ورحت أحاول تبديد اللون الصحراوي الرابض في ذاكرتي بما يعلن عنه الصباح من اخضرار. عند مقر الشركة الذي يقع بين جبلين مكسوين بالأشجار هبطنا من الحافلة. ذهب زملائي كل إلى جهة، أما أنا فبقيت واقفًا أنظر إلى كل الجهات وأفكر: (هذا المكان يصلح للتأمل لا الهندسة). جلست على حافة إسمنتية قبالة قاعة سنتلقى فيها الدورة، وأدرت ظهري للجميع. تنحدر المسافة الواقعة بعد تلك الحافة نحو الوادي، حيث نهر يجري بوداعة بين الأشجار والحشائش. في مرمى البصر ثمة أرانب برية غير مرعوبة، وسناجب تتقافز على الشجر، وكثير من الأغنام تتسلق كتف الجبال بلا راعٍ إلا من كلب يردها كلما ابتعدت. كان أمامنا بعد حفلة استقبال قصيرة ما يزيد عن الساعة على بدء الدورة التدريبية.
مشيت لدقائق بين الأشجار، وافترشت العشب أقرأ كيف كان يوقع مصطفى سعيد في (موسم الهجرة إلى الشمال) النساء الإنجليزيات في شباكه، يقتادهن إلى غرفة جاء إليها بكل ما يتوهمه الغرب عن روح الشرق السحري، بخور، وروائح، ومقتنيات شرقية. كان يعرف إلى أي حد ترسخت تلك الصورة التي رسمها بعض المستشرقين في أذهانهم؛ فاستخدمها كمنتقم لبلاده، وكعطشان ليروي ظمأ جسده، من دون أن تعرف النساء أنهن سيبقين عالقات في طقس سحري، وراءه بقعة مظلمة في دواخل مصطفى سعيد الذي انتحرت عدة نساء بسببه، حينما اقتربن منه، ووقعن في غرامه. تغلب عليهن لكنه لم يقوَ على (جين موريس)؛ فتزوجها لكن بشروطها. إن أشد العلاقات إشكالية في هذه الرواية هي علاقة مصطفى سعيد بـ (جين موريس) التي يبدو أنها تمثل الغرب بنظرته الفوقية للشرق. حين تعاليت هذه المرأة على مصطفى سعيد، أحبها، وهذا الحب ربما كان معادلًا موضوعيًا لتقرب الطرف إلى المركز، والسعي إلى الاندماج به، وهذا لن يحدث إلا بتقديم تنازلات. اعطى مصطفى سعيد بعضًا من حاجياته الشرقية المتعلقة بهويته لـ (جين موريس) مخطوطة، ومزهرية، وسجادة للصلاة؛ فقامت بإحراقها، لقد أحرقت هويته. وحين أعطته جسدها كانت تعرف أنه سيقتلها، لكنها فعلت ما تريد.
(وتذكرت ما قاله أن القاضي قبل أن يصدر عليه الحكم في الأولد بيلي قال له: ” إنك يا مستر مصطفى سعيد رغم تقوفك العلمي، رجل غبي، إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة، لذلك فأنت بددت أنبل طاقة، يمنحها الله للناس: طاقة الحب)
كان القاضي على علم بحقيقة تلك البقعة المظلمة التي خلَّفها آباؤه من المستعمرين، لكن قانونه لن يعفيه من الحكم بتهمة تسببهِ بانتحار عدد من النساء، وقتل زوجته. يقطع المستعمر أشجار الآخرين الضعفاء ليبني بيته، ويطبق فيه القانون الذي يجعله مميزًا، وأكثر رقيًّا من الآخرين. لكن لا ينسى الإنسان ألمه، سيثأر بقصد أو بغير قصد ذات يوم. إن الاستعمار من أكثر الأفعال البشرية التي يمكن أن تترك رواسب في النفس، ستبقى تلح على صاحبها إلى أن يأتي الثأر، إما كلمة، أو ربما رصاصة مباغتة.
كان صوت النهر في (رادنور) يتقاطع بصوتي موسيقاي الداخلية، وأنا أوغل في قراءة رواية استطاع فيها الطيب صالح أن يجمع بين المتناقضات: حضارتان مختلفتان، القرية والمدينة، الأسود والأبيض، الدفء والبرد. في روح مصطفى سعيد بقعة مظلمة، ومع الأيام سيكتشف بعضنا أن هناك الكثير ممن في أرواحهم مناطق مجعدة، وأخرى فيها بقعة إما رمادية، أو مظلمة. إنها الحياة، حديقة لا تمنحك وردتها من غير أن يصيب الشوك يديك.
في قاعة المحاضرات لم أكن بكل ذلك الانتباه المطلوب من واحد مثلي قطع مسافة طويلة ليتعلم مبدأ جديدًا في الهندسة؛ كنت أنفق جل وقتي أتأمل جبالًا رأيت السحاب يلامس رؤوسها. أتلقى شيئًا يسيرًا من المعلومات ثم أعود إلى شرودي الطويل بالسماء، وبالجبال، وبالشجر، حتى بطيور تحلق عاليًا ثم تهوي إلى النهر بجسارة فريدة. قلت لهم سأذهب لأتبول؛ فضحك جلهم. غادرت القاعة، وهبطت ذلك المنحدر. افترشت العشب، وجلست على ضفة نهر فيه الماء رقراقًا، يتدفق مطمئنًا لمجراه بين سكينة الشجر، وامتداد العشب. وجدته باردًا لحظة أن سلمته يدي، ثم غرفت منه القليل؛ فشربت، ومسحت بالباقي وجهي. أفكر:
من أين تأتي الأنهار؟ من البحار؟ من باطن الأرض؟ من أين يأتي الماء؟ من السماء؟ من الأرض يذهب عاليًا بحجة التبخر؟
الأنهار، والبحار، والمحيطات، والينابيع دلالة واضحة على أننا نحوم في دائرة كونية. نحن وكل أشيائنا كائنات في دائرة. نطوف بالمركز المتوهج، منا من يفتش عن إجابات لأسئلة تحيره، ومنا من يريد أن ينسى. الماء متحرك، ونحن ثابتون؛ لهذا قال (هيراقليطس): (أنت لا تستطيع أن تضع قدمك في النهر نفسه مرتين).
ما إن هممت بالمغادرة، حتى جاء رجل ستيني يسبقه كلب أسود برأس ضخم. لم أنتبه أن شاة من شياهه المنتشرة على الجبال عالقة بشجرة قرب النهر. حررها ومضت في طريقها، ثم نظر بوجهي وحياني بلكنة إنجليزية ثقيلة بالكاد فهمتها وهو يسألني متفحصًا ملامحي: (أنت لست من هنا). لم ينتظر إجابتي بل قرفص قرب سيل الماء وغسل يديه ثم ملأ كفيه بالماء وارتوى. سألته إن كان الماء صالحًا للشرب. فلم يجبني. أخبرته أني قادم من الشرق حيث الشموس، وتفشي اللون الصحراوي، وحيث وجوه لا تبتسم بسهولة. قال لي: (اقترب. سأحرك هذا الحجر الصغير من الماء. لاحظ شكل الحشرة تحته). رفع الحجر؛ فرأيت حشرة سوداء صغيرة. قال: (إنها لا تعيش إلا في المياه النقية) أشار بيده لعشب أخضر على الصخور المنتشرة في الماء: (وهذا العشب دليل على نقاء الماء أيضًا). غادرنا النهر سويًا، ولاحظ أنني ألهث ونحن نتسلق الطريق؛ فقال هامسًا: (اقلع عن التدخين لتتنفس بشكل سليم). حدق بوجهي: (إذن أنت من الشرق. كيف تستدل على الجهات من النجوم، هل تعرف ذلك؟) قال ذلك ثم غادر، تاركًا إجابتي في فمي.