أثير – مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
بعد قصيدة افتتاحية بعنوان “العاصفة” فيها الكثير من الشعرية العالية، تمرّ بنا الشاعرة إلى صلب الموضوع وتتحوّل بنا إلى قصيدة مفتاح تحت عنوان “نساء” وتستهلّ الصهيل المرّ المتعب الحزين والقويّ العنيف، مندّدة بكلّ ما حدث للمرأة وما يحدث لها من مظالم ومن نظرة دونية، وتعدّد ما تقاسيه وما تعانيه ذلك الكائن الهشّ الجميل من جور شديد جرّاء سيطرة الرجل على كلّ شيء، وما دمنا نتحدّث عن هذه القصيدة، سنقتطع منها جزءا بسيطا لكي يكون دليلا لنا في قراءة هذه المجموعة لشاعرة تونسية مجيدة أعرفها منذ قرابة أربعين سنة وها قد أهدت الساحة العربية متْنا شعريّا تحت مسمّى “سيّدة الخريف”:
“النساء اللائي تعبنَ من نشر الغسيل
ومن تقشير الثوم في المطابخ المظلمة
ومن رتقِ جوارب العصافير
والنسور المتغطرسة
ومن تذوّق وجبات الملح
الشاكيات من الدوالي ومن عرق الأسى
ومن فراغ قاموس الحبّ..”
قبل أن أواصل تمحيصي لهذه القصائد، لا بدّ من الإشارة إلى شجن كثيف يكتنف هذه المجموعة، ربّما لأنّ وطن الشاعرة يعاني من صدمات متتالية، تسبّب فيها الساسة الهواة وقد يكون الحزن وجودي متأصل في كلّ الشعراء، على كلّ في هذا المتن المطروح أمامي شرخ كبير في ذات الشاعرة ورغبة ملحّة في البكاء على كلّ ما كان وعلى ما يعدّ لهذا الوطن وهذا الكائن المنسي في أصقاعه المنسية، أمّا القصيدة التالية فهي بعنوان “أنا”، لكأنّها قد كتبت بالدمع والآه، مقتطعة من خلايا الجسم والروح، فيها أحزان جمّة للذات الموجوعة المصدعة، وفوزية العلوي تستهلّها هكذا:
“نحتاج كتابة تبكينا
في عالم كلّ ما فيه يكذب
نحتاج كتابة تشبه أعيننا
حبرها مالح وحروفها قاتمة
ما لهُدبي لا يكتب إلاّ هذا الأسى؟”
نصل الآن إلى قصيدة “سيدة الخريف” التي أهدت للمجموعة عنوانها، وهي حسب قراءتي المتواضعة، مقابلة وجها لوجه بين سيدة فاتها كلّ شيء ورجل له صفات الخريف، ما يشدّ القارئ في هذه القصيدة: الهدوء والسكينة واللامبالاة بشيء، السيدة قانعة بقدرها والرجل يقول لها في آخر المتن الشعريّ: “اجلسي، لنا كلّ الوقت، لا حاجة لنا بالربيع”، على كلّ تعكس هذه القصيدة رضوخ الشاعرة لحظّها ومسايرتها للحياة، نقتطف هذا المقطع من هذا البكاء المتّزن والعالي والمتعالي:
“تنزل الأدراج المترعة بالماء
شالها دالية صفراء ومطريتُها مجهشة
لا كُحل في عينيها إلاّ ما تصاعد
من دخان المواقد
أو ما تلبّد من رذاذ الغيم
تقرأ كثيرا سيدة الخريف
والكتب تأخذ لون التبغ وهي تتدفأ
تتذوّق حساء الفطر والمحار
وتضيف الملح الكافي لتتبيل الحكاية”
هذه محاولة لقراءة مجموعة “سيدة الخريف” للشاعرة التونسية المميزة فوزية العلوي، وهي مبدعة لها باع وذراع في فنّ القول الشعريّ، وما هذه المحاولة إلا تسليط للضوء على تجربة هامة لسيدة كرّست عمرها للأدب وشاركت في مختلف التظاهرات في تونس وخارجها، وأصدرت عديد المجاميع الشعرية وفرضت نفسها في الساحة الأدبية العربية.
وفي آخر هذه الورقة أترككم سادتي القراء مع هذا المقطع من قصيدة “سفر”:
“أمضي إلى حيث لا وجع
ولا انتظار
منضدة المعاني كما الحبّ في
قلب السنبلة
وجارية الكلمات كما الماء
في عدوة النهر
الدمع أعرفه لا ينكتم
فلينهمر إذن”