أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
ميلان كونديرا. ليس من الهين فهم ميلان كونديرا الكاتب والإنسان. شخصية مركبة وذات أوجه متعددة، ومن الصعب ضبط مسافاتها وحدودها. من الروائي الكبير الذي أخطأ نوبل بإنش واحد، القاص، المسرحي، العازف على البيانو والمحب للموسيقى والفنون، الباحث، الفيلسوف بطريقته، إلى الشخصية الغامضة التي لا حدود لسلطانها الأدبي والثقافي لدرجة أن نطرح السؤال الذي ينتابنا عفويا: هل كان كونديرا سعيدا في حياته؟
الطبيعي أن يكون كذلك بعد الشهرة التي حققها، لكن المتتبع لسيرته سيكتشف نقاطا في تلك الحياة التي عاشها وتستحق الاهتمام والتقدير. لماذا يكره السيرة؟ بل لماذا رفض تدوين سيرته وترك الناس يعبثون بها ويرونها على طريقتهم؟ هل هو مجرد قرار شخصي لكيلا يُستهلك بالخصوص عندما رفض الصحافة والظهور على الشاشات التي هي حلم أغلب الكتاب والفنانين في زمن الصورة وميلتيميديا. أم في السيرة ما يتعبه أو يرهق ضميره وذاكرته؟ لماذا اختار في أواخر حياته أن يقدم الطبعة الإيطالية على الطبعة الفرنسية ويسافر إلى روما ويعلن عن كتابه هناك بدل باريس، ولا تُنشر الطبعة الفرنسية في غاليمار إلا بعد مدة؟ هل هي نزعته الأوروبية التي ظلت تشغله، أم هو غضب من اللغة الفرنسية، وفرنسا التي استقبلته في أصعب ظروفه الحياتية، لكنها تركته ينتظر لسنوات قبل أن يحصل على الجنسية الفرنسية. كان يريد أن يكون أوروبيا لكنه أدرك بسرعة أن الحلم الأوروبي ما يزال بعيدا. ثم ما قصته مع الشاب الذي اتهمه بالوشاية عنه للبوليس السري التشيكوسلوفاكي في 1950، عندما كان في الحزب الشيوعي، ويحكم على الشاب بالسجن لمد ربع قرن نافذة. التقرير الذي كتبه كونديرا (بحسب غرفة الاتهام) ضد الشاب، نشرته إحدى الصحف التشيكية؟ أم أن ذلك كله لا يعدو أن يكون واجهة عامة وأن منتهى هذه التجربة التي تكاد تكون صوفية، هو أن يذهب وراء الكتابة دون التفاتة إلى الوراء، لدرجة التلاشي فيها. تلك كلها أسئلة لا يمكن تفاديها لأنها أساسية في الكاتب وفي حياته.
لهذا، لم تكن وفاته حدثا عابرا. بل على العكس من ذلك، فقد كانت حدثا عالميا حرك كل العواصم ثقافيا من خلال تشكيلة آراء متضاربة في مجملها، ولكنها أجمعت كلها على جدارة هذا الرجل بتمثل العصر روائيا. فقد كُتبَ عنه بعد وفاته، الكثير، والكثير جدا، لدرجة أنه لم يُترك مديح إلا وطاله، ولا سؤال حائر، إلا وطرح. الأمر طبيعي، فالرجل الذي ترجم إلى أربعين لغة، عظيم، وعالمي، ومد البشرية بأرقى النصوص وأكثرها عمقا وسخرية أيضا من عالم يسير نحو حتفه لا يمكن إلا أن يواجه بمزيد من العبثية “أدركنا منذ زمن بعيد أنه لم يكن بالإمكان قلب هذا العالم ولا تغييره للأفضل ولا إيقاف جريانه البائس للأمام، لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة، ألاّ تأخذه محمل الجد”: رواية حفلة التفاهة (حفلة اللاّجدوى). عالم خان مبادئ حداثته ودخل دائرة الوهم معتبرا نفسه “المركز” و”النموذج” الوهمي. اختار كونديرا الحياة الخاصة التي كثيرا ما يختارها “المنشقون” للعيش بعيدا عن الأضواء والإثارات.
“المنشق” هو النعت الذي أطلقه عليه الرئيس فرانسوا ميتيران للتدليل على أصالة الرجل. فقد رفض بصرامة الظهور على شاشات التليفيزيون على مدار 35 سنة، وأعطى ظهره للإعلام المكتوب والسمعي والمرئي بلا ندم. ومارس هذا الخيار لدرجة المحو الإعلامي لولا منتجه الروائي. فقد أصبح شبحا يتخفى وراء سحنة تشبه ظلا مديدا بلا أي ملمح. لم يكن خيارا عاديا بالخصوص لإنسان يحمل أفكارا كثيرة وإشكالية ويريد إيصالها لجمهور محتمل عبر العالم. كان يحمل شيئا عميقا في داخله يتبدى واضحا على ملامح وجهه الصلب والبارد. فـ”براغ” مدينته الأولى، أصبحت بعيدة حتى بعد استرجاع جنسيته التي سلبت منه، بينما “باريس” على الرغم من قربها، كانت كل يوم تبتعد أكثر إلى درجة الصمت وربما الغضب، وتقديم كتبه الأخيرة خارجها، في إسبانيا وفي إيطاليا، بهذا المقياس أصبحت باريس ثانوية بالخصوص بعد محدودية بيع روايته ما قبل الأخيرة. الأمر الذي يشي بخلاف خفي مع “دار غاليمار” التي تبنته حتى قبل أن ينتقل إلى باريس. المشكلة الكبرى هي أنه لا أحد، من الذين كتبوا عنه، تحدث عن صمته، أو حاول اختبار هذه المساحة البكر التي تضج بها رواياته التي تمزج بين السخرية واللاجدوى. تكاد تكون لازمة. السمة الكبيرة عند كونديرا. الصمت أو اللاّجدوى، محصلة وليست خيارا. لغة داخلية مشحونة ومثقلة بالصمت Le non-dit. فقد كان يعيش تحت ضغط خيبة نيتشه، وانهيار أحلام سيرفانتيس، وعدمية كافكا، المثلث الذي يتجاذبه ويتوغل في كتاباته الإبداعية بقوة لدرجة أن صبغها ببعض تشاؤمه من زمن لا شيء فيه يوحي بأنه استفاد من تجاربه. هذا الصمت صنع الكاتب وصاغ داخله.
أتذكر أني طوال إقامتي في باريس، التقيت به ثلاث مرات، الأولى قبل فترة طويلة، في مكتبة “لاكومبياني” la Compagnie، المواجهة للسوربون حيث كنت أدرس، في شارع المدارس La rue des Ecoles، التي كانت تقدم إحدى رواياته، روايته، الأولى التي كتبها باللغة الفرنسية “البطء” (1995). كان جالسا صامتا، قبل أن ينطفئ فجأة. فقد نسي مخطوط هذه الرواية في شرفة مطعم لاغونويير La Grenouillère)) حيث كان يرتاد المكان باستمرار، في بادوكالي (Pas-de-Calais). في الثانية اشتركت في نقاش حول روايته الثانية بالفرنسية “الهوية” (1998) التي مجد فيها الحب الحقيقي بوصفها حاميا للإنسان المعاصر. فقد أثارت هذه الرواية جدلا كبيرا حول قوتها قياسا بنصوصه الأولى، إذ رسّخ كونديرا انتقاله إلى الكتابة باللغة الفرنسية، في المرة الثالثة كان لقاء خاطفا وليد صدفة طارئة، فقد لمحته في الدائرة الباريسية السابعة، برفقة فيرا، زوجته، التي كانت تبدو متشبثة به مخافة أن يسرقه القدر منها. فقد قضى برفقتها نصف قرن.
كان سؤال الكتابة باللغة الفرنسية حساسا لهذا تردد طرحه كثيرا. إلى أي مدى تسعف اللغة الفرنسية أو غيرها، الكاتب، أي كاتب كان، في وقت أن حياته اللغوية كانت كلها بلغة ثانية؟ بالتشيكية في حالة كونديرا، ومن الصعب أن يمتلك كاتب ما نفس القدرات التعبيرية عندما ينتقل إلى لغة أخرى يعرفها، لكنها غريبة عنه كممارسة يومية. لكن كونديرا كان براغماتيا. فهو يعيش في مجتمع آخر، أي المجتمع الفرنسي، ويريد من هذا المجتمع أن يعرفه وأن يقرأه، في لغته التعبيرية وليس عن طريق الوسيط الترجمي. فقد ظل يشكك في جدوى قيمتها بالقياس للأصل. فقد أعاد النظر في كل رواياته المترجمة إلى اللغة الفرنسية، ودققها بنفسه بين 1985-1987 بحيث أصبحت أكثر التصاقا بالأصل. يشرح في ترجمة روايته “المزحة” يشرح الدوافع التي قادته إلى تدقيق ترجمة رواياته السابقة، واعتبر نفسه كاتبا فرنسيا يكتب براحة وبلا خوف من الرقابة. أصبحت لغته (الفرنسية) أكثر بساطة وأقل حمولة عما كانت عليه في البداية. كانت روايته “خفة الكائن” (1984) هي من أواخر رواياته التي كتبها بالتشيكية وأتمها في فرنسا، ولم يفكر في كتابتها باللغة الفرنسية. اقتبسها فيليب كوفمان وجون كلود كاريير للسينما في سنة 1988. فقد ظل فيها تحت مظلة الفكر النيتشوي. نعيش مرة واحدة، الحياة لا تتكرر مرة ثانية وبالتالي ليست لدينا أية إمكانية لتصحيح أخطائنا، لهذا يعيشها الإنسان باستخفاف ولا مسؤولية. ويقدم فيها مفهومه للكيتش، أي الاعتماد فقط على الإيديولوجية التي تزين ما تراه مناسبة لأفكارها، وترفض ما لا يناسبها. لهذا نجد الكيتش الكاثوليكي، البستنتاني، اليهودي، الشيوعي، الفاشي، الديمقراطي، الأوروبي، الأمريكي، الوطني…
تجسد رواية “الجهل” التي نشرت في 2000 لحظة قطيعة غير مرئية. فقد فضل الإعلان عن روايته في إسبانيا وهي ظاهرة جديدة. فضل الترجمة على لغة الكتابة (الفرنسية). ولم تنشر الرواية باللغة الفرنسية إلا بعد ثلاث سنوات (2003). الشيء نفسه قام به في “احتفال التفاهة” في 2013. فقد اختار نشرها أولا بالإيطالية في سنة 2013، الطبعة الفرنسية في 2014. كانت هذه الرواية هي رابع نص كتب باللغة الفرنسية مباشرة، بينما كان قد قطع نهائيا مع اللغة التشيكية بعد أن نزعت منه الجنسية في بلده الأصلي، لتعاد له بعد نصف قرن تقريبا في 28 نوفمير 2019، من طرف الدولة التشيكية، وسلمها له السفير التشيكي في فرنسا.
بعد كل هذه الجهود كلها، في العلاقة باللغة الفرنسية، لم يكرم في البداية بما يليق بكاتب كبير. تجربة المنفى حملت العنصرين المتناقضين. فقد ترك وراءه بلادا كانت في حالة انهيار كلي، وانتمى لأخرى اختارها. هروبه نحو فرنسا كان بالنسبة له منفذا للحرية. لكن المؤسف هو أنه ووجه بحالة خلفت فيه ألما كبيرا. أول ما قام له أنه تقدم بطلب الحصول على الجنسية الفرنسية كان يريد أن ينهي علاقته بماض اسمه تشيكوسلووفاكيا وقتها (تشيكيا) دمره داخليا. ظل يركض بين مكاتب ومكتب في ظل بيروقراطية فرنسية ثقيلة إلى مجيء الاشتراكيين وميتيران إلى الحكم، فتدخل من خلال وزير ثقافته وقتها جاك لونغ، ومنحت له الجنسية في ظرف أقل من شهر، هو والكاتب كورتزار. تفرغ بعدها نهائيا للكتابة باللغة الفرنسية وظل يلح بشكل معلن أنه ليس كاتبا تشيكيا يكتب بالفرنسية ولكنه كاتب فرنسي. كان يرى في ذلك إنقاصا من قيمته. لا يقال ذلك مثلا عن كاتب روسي، ألماني، إيطالي، نمساوي يكتب باللغة الفرنسية. كان ذلك النعت “كاتب تشيكي يكتب بالفرنسة” يشعره بأنه خارج الدائرة الفرنسية. ولا أعتقد أن الكتابة بالفرنسية أعانته للحصول على نوبل، لأن من بين ضوابط التفضيل في الجائزة أن يكون الكاتب داخل لغته الأم، إلا في حالة انعدام كتابة اللغة المحكية التي ينتمي إليها الكاتب. لم تكن الكتابة باللغة الفرنسية مفيدة أيضا لآسيا جبار، من هذه الناحية على قيمتها الإبداعية. جزء من “مأساة” نوبل ترك فجوة فيه. فقد رشح لها العديد من المرات كروائي يستحق الجائزة بامتياز، لكنه كان يصطدم في كل مرة بالخيبة، فتُمنح الجائزة لغيره. نظريا طبعا، لا أثر لذلك في حياته، ولكنه في النهاية ظل الإحساس قائما في شكل “سخرية صامتة” تجاه كل ما كان يقلقه. من الأديب العاقل الذي يرفض أن تختم حياته باعتراف عالمي “جائزة نوبل”؟
كان إلى وقت قريب بلا جنسية، بعد أن أسقطت عنه الجنسية التشيكية بعد اتهامه بالخيانة الوطنية العظيمة والمشاركة في ربيع براغ. أمر مثل هذا كان له ثقله من الناحية النفسية. لهذا نفهم جيدا قطيعته لكل ما يحيل إلى وطنه الأول. لدرجة أنه رفض أن تترجم أعماله إلى اللغة التشيكية. لكن لم تكن حياته في فرنسا أمرا سهلا. لكنته اللغوية الفرنسية الشرقية وضعته في مدارات الأجنبي. كاتب كبير ولكنه ليس باريسيا أصيلا. وربما عمق ذلك لديه الإحساس بالعزلة التي كان عليه تحملها مثلما فعل أساتذته الأوائل ومعلمهم الأكبر نيتشه.
للحصول على جائزة كافكا كان يحتاج إلى الجنسية التشيكية التي لم يستعدها إلا بعد التسعين سنة. سافر إلى وطنه الذي ظلت فيرا زوجته تحلم بالعودة له نهائيا. يظل وطنه الذي ترسخت تجربته الروائية فيه. حصوله على جائزة كافكا كانت تعني أن شيئا تغير في علاقته بوطنه الأصلي. فقد منحت له كما يقول فلاديمير زيليزني، رئيس مؤسسة كافكا “إن نصوص كونديرا شكلت مساهمة فعالة في الثقافة التشيكية”. كافكا جزء حي من تجربة كونديرا الروائية والحياتية حتى ولو كانت حياة كونديرا أكثر استقرارا بزواجه مرتين، وتنظيما من كافكا الذي عاش ممزقا بين حياة أثثتها الخيبات والأحلام والأمراض والنكران.
قصة أخرى عمقت صمته، لا أعتقد أنها مرت عادية في حياة كونديرا. السيرة التي كتبها عنه جون نوفاك Jean Novàk، تحت عنوان: “الحياة التشيكية في زمانه” (زمن كونديرا) من 900 صفحة والتي أثارت جدلا واسعا في الأوساط الثقافية التشيكية. فقد عمل جون نوفاك على تدمير الصورة المعطاة عن ميلان كونديرا التي صنعها لنفسه في فرنسا وأوروبا. فقد كشف ما خفي من سيرته في الفترة الشيوعية التي كان عضوا فاعلا فيها. يقول كاتب السيرة جون نوفاك لابد أن يكون قد أثر بشكل بالغ في نفسية كونديرا: “كان كونديرا متلاعبا يكذب بشأن حياته وسخَر من كل الناس”. يضاف إلى ذلك قصة وشايته للشرطة الأمنية في سنة 1950 بالطالب ميرسلاف دفوراسيك الهارب من خدمة الجيش الشيوعي، سجن على إثرها لمدة 22 سنة قضى منها 14 سنة نافذة. فقد نشرت الجريدة التشيكية “ريسبكت Respekt” في أكتوبر من سنة 2008، محضرا مستخرجا من الأرشيف، مؤرخا بـ 14 مارس 1950 أكدت فيه على الحادثة. رفض كونديرا التهمة واعتبرها مجرد هراء لا أساس له. فالكاتب الذي اعتبر النظام التشيكوسلوفاكي دكتاتورية في حالة تحلل وتفسخ في 1960 والذي شارك في ربيع براغ في 1968، فصل من عمله، ومنعت كتبه كليا، لا يمكنه أن يكون عميلا ومخبرا لنظام كان يرى فيه هلاك تشيكوسلوفاكيا وقتها. ناصره وقتها فافلاك هافيل، والكثير من الكتاب من أمثال برنارد هنري ليفي، آلان فيلكنكراوت، فيليب روث، سلمان رشدي، وغيرهم.
الصدمة الكبرى عند كونديرا هي أنه وجد نفسه في عمر 94 سنة، بعدا أكثر عن “براغ” التي عاد لها دون قناعة كبيرة بعد قرابة النصف قرن من المنافي (1979-2023)، لم يكن الصمت خيارا ذاتيا أو مزاجيا، لكنه حالة من اللاجدوى القصوى، حيث تفقد اليقينيات كل مبررات وجودها، والتي مسته في العمق. الخيبات المتراكمة جعلت من حالة الصمت قضية وجودية وفلسفية عند كونديرا، وجد لها منفذا في فكره وفي نصوصه الروائية تحديدا، وحتى في محو جسده نهائيا باختياره “الحرق” على الدفن التقليدي، خارج أي قداس جنائزي.