الأولى

زاهر المحروقي يكتب: الانتماء للوطن والولاءات المزدوجة

الانتماء للوطن والولاءات المزدوجة

أثير - زاهر بن حارث المحروقي

لفت نظري تعليق الصديق سليمان المعمري الذي أرسله لي مع مقال الدكتور خالد بن علي الخوالدي في جريدة الرؤية الأسبوع الماضي عن “ازدواجية الولاء والمواقف”، بأن قال: “أظن أنّ المقال سيعجبك، لأنه يتكلم عن فكرتك نفسها”. وفورًا قرأتُه ورددتُ عليه: “نعم. أعجبني جدًا”.

تناول الخوالدي في مقاله ظاهرة اتسعت في مواقع التواصل الاجتماعي، عن مغرّدِين عُمانيين يتحدثون باسم “الحياد” و“الأخوة” وغير ذلك من الكلمات الرنانة دون مضمون، بينما هم في الحقيقة يُمارسون ولاءً مشوشًا لأجندات خارجية ربما بجهل منهم، مستشهدًا بردود الفعل المبالغ فيها على تصريح الكاتب والمحلل علي بن مسعود المعشني.

ولعل المتابعين لما أكتب يعرفون أنّ موضوع الولاء والانتماء شغل بالي كثيرًا، وكتبتُ فيه غير مرة، ومن هذه المرات مقال في جريدة الرؤية نُشر في 29 يناير 2013 تحت عنوان “الولاء والانتماء الوطني في خطر”، تناولتُ فيه بعض الظواهر منها “أن تجد مواطنين عُمانيين، عاش أجدادُهم في عُمان على مدى التاريخ، درسوا وعملوا وعاشوا على خيرات الوطن، إلا أنّ تعصَّبَهم للخارج أحيانًا يصل إلى درجة الولاء”. وأشرتُ إلى أنّ المسألة تحتاج إلى بحث ودراسة واهتمام. وبعد أكثر من اثني عشر عامًا من ذلك المقال، يظهر لنا ألّا أحد كلف نفسه بدراسة الظاهرة وأسبابها ومحاولة إيجاد حلِّ لها؛ فالأمر على ما يبدو ازداد سوءًا حتى وصل إلى حادثة الوادي الكبير، سيئة الذكر. وإذا أردنا أمثلة على أنّ مسألة الانتماء في خطر، فما علينا سوى متابعة الردود العُمانية على المعشني. فنحن نفهم أن يهاجم الذباب الإلكتروني التابع لبعض الدول المعشني وعُمان، ولكن مالا نستطيع فهمه ولا تفهّمه هجوم العُمانيين الساذج عليه وتقويله أحيانًا ما لم يقله، وكأنّ بيده أن يحرّك الطائرات والبوارج والأساطيل لاحتلال مكة أو غيرها من المدن، ورأينا من ينتفض دفاعًا عن كلِّ من هاجم عُمان، كأنهم أوصياء على سمعة الآخرين، بينما يصمتون صمت القبور حين يُساء إلى وطنهم، أو تُمس رموزه، وكأنّ الانتماء لعُمان أصبح أمرًا ثانويًّا وعبئًا ثقيلًا.

كثيرٌ من هؤلاء رفعوا شعارات جوفاء عن “الأخوّة” و“الموضوعية” و“التحرر من العاطفة” وغيرها من الشعارات الرنانة، لكنهم في الواقع يُمارسون الانحياز لجهات خارجية تستهويهم، ولم يعد هذا الانحياز مبطّنا، بل صريحٌ وواضحٌ وضوح الشمس في نهار يوليو. ومن المظاهر اللافتة، أنّ بعض هؤلاء يُزيِّن صفحاته على منصة “إكس” بعلَمَيْ دولتين، وكأنّ وضع العلم العُماني يعطي المغرِّدّ الحقّ في أن يقف ضد الوطن، مع أنّ الانتماء للوطن ليس قابلًا للمساومة ولا يقبل القسمة على اثنين، إذا وصل الأمر إلى تهديد أمنه واستقراره.

وحتى لا يُخرَج كلامي عن سياقه -لأنّي لاحظتُ من تجارب سابقة أنّ معظم التعليقات تدل على أنّ كاتبيها لا يقرأون المضمون- أقول: ليس من الخطأ أن نتغنّى بالأخوّة، ونُعجب بتجارب الآخرين، لكن الخطأ أن يتحوّل هذا الإعجاب إلى حالة من المرض، تجعلنا نُهاجم كلَّ من يردّ على هجوم الآخرين علينا، ونُبرّر لهم ما لا نُبرره لوطننا.

ما أود تأكيده هو أنّ الوطنية لا تعني أن نُصفّق لبلادنا دائمًا، وأن نُغلق أعيننا عن الأخطاء، لأنّ الأخطاء موجودة في كلّ مكان في العالم، لكنها تعني أيضًا أن نُدافع عن وطننا حين يُهاجَم، وأن نُحسن نقده من الداخل لا من الخارج، وأن نُفرّق بين النقد البنّاء والتشكيك الهدّام، ذلك أنه من المتوقع أن تزداد وتيرة الهجوم على عُمان بسبب مواقفها المشرفة تجاه القضايا العربية العادلة. ومن المؤسف أنّ البعض يستشهد بحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خطأ: “لو أنّ أهل عُمان أتيتَ ما سبّوك ولا ضربوك”، ليُبرِّر صمت العُمانيين عن الإساءات، وكأنّ الحديث يُلزمهم بعدم الرد على من يطعن في وطنهم أو يُسيء إلى رموزه. وهذا تأويل خاطئ ومُجتزأ من سياقه؛ فالحديثُ يُثني على أخلاق أهل عُمان، لكنه لا يعني أبدًا أن يُصبحوا هدفًا مباحًا للشتائم دون رد؛ فالدفاع عن الوطن لا يُناقض الحِلم، بل هو من صميم الكرامة والانتماء الصادق، وأظن -وليس كلّ الظن إثمًا- أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم، لو علم أنّ الناس سيسيئون فهم حديثه هذا لما نطق به.

وهناك نقطة أخرى لا أجد لها تفسيرًا، وهي التمسك بشيء اسمه “التسامح” بشكل أضحى مبالغًا فيه؛ بحيث صار خطاب المرونة والتسامح في كلّ نشيد وأغنية، وفي كلّ منتدى ومحفل ومؤتمر ومحاضرة، وفي المناهج والإعلام، الأمر الذي يبدو أنه أثّر سلبًا على الانتماء، بل الأدهى أنّ المبالغة في هذا الخطاب يظهر العُمانيين “وكأنهم شعبٌ متوحشٌ كاسرٌ معادٍ للآخر، ولذا يحتاج إلى جرعات مكثفة من ذلك الخطاب حتى يصير مرنًا متسامحًا ودودًا”، كما قال لي د. إسماعيل الأغبري.

إنّ أخطر ما في ازدواجية الولاء، أنها تفتح الباب لظهور “الطابور الخامس” داخل المجتمع، أولئك الذين يتحدثون بلسان الوطن لكن قلوبهم معلقة بالخارج. هؤلاء يُشكلون خطرًا على الأمن الوطني حاليًّا ومستقبلًا، ويُضعفون الجبهة الداخلية في لحظات تحتاج فيها الأوطان إلى التماسك. وقد رأينا كيف أنّ بعض مظاهر الولاء للخارج بدأت تُفرِز سلوكيات دخيلة على المجتمع العُماني، ولعلّ حادثة الوادي الكبير العام الماضي -والتي أشرتُ إليها في مستهلّ هذا المقال- تمثل نموذجًا صادمًا لما يمكن أن تؤول إليه الأمور حين تكون الولاءات للخارج ويُستبدل الانتماء.

من الأصوات الجميلة التي تناولت مسألة الولاءات والخيانات، السيد سامي خضرا، وهو باحث إسلامي وإعلامي لبناني، يُعرف بطرحه المباشر ومعالجته لقضايا سياسية واجتماعية من منطلقات دينية ووطنية، تتسم بالصراحة والتحليل النقدي، ففي أحد مقاطعه في على “تيك توك”، يشير إلى أنّ العمالة أو الخيانة ليست بالضرورة مرتبطة بموقع وظيفي أو مهمة رسمية، بل قد تكون انعكاسًا لحالة ذهنية تغيب عنها الفطنة والوعي، فيقول: “قد تكون الخيانة ليست وظيفة بل قد تكون نمط تفكير... بعض السذج والجهلاء يلحقون أضرارًا بالأوطان تفوق ما يُحدثه العملاء الرسميون، ويكونون عملاء مجانًا”. وأظن أنّ هذا الطرح يسلط الضوء على فهم الخيانة، ويميّز بين الخيانة الرسمية، كالتجسس والعمالة مثلًا، والخيانة الناتجة عن الجهل والسذاجة، حيث يسهم الفرد في إضعاف الجبهة الداخلية من خلال مواقف أو آراء أو تصرفات غير مدروسة، غالبًا ما تصبّ في خدمة العدو دون إدراك منه لذلك. أما الأولى فلا أملك أن أثبتها وذلك ليس من اختصاصي، ولكن الثانية واضحة تمامًا ولا تحتاج إلى شرح. يكفي المرء أن يلقي نظرة عابرة على منصة “إكس” ليعلم حجم الاختراق.

للحد من هذا النوع من الخطر الداخلي، يرى خضرا أنّ المجتمعات مطالبة ببناء “جدار معرفي وأخلاقي” يحول دون الانجرار غير الواعي خلف الشعارات أو الخطابات المغرضة. وهناك دراسات تناولت أدوات الحماية من مثل هذا الاختراق (الذي يبدو ظاهريًّا أنه بريء)، وتشمل هذه الأدوات تفعيل دور المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية لترسيخ قيم الانتماء والمسؤولية الوطنية، وهذه بالفعل نقطة مهمة، في وقت نرى فيه أنّ مواقع ومنصات التواصل من المستحدثات التي تفرض تعليم النشء أسلوب التعامل معها، حتى لا يُخترَق الوطن من خلالها، وبالتأكيد فإنّ بناء الوعي الجماعي ضرورة وطنية تضمن بقاء المجتمعات متماسكة أمام محاولات الاختراق الناعمة والخداع المنهجي.

الأمر يستدعي وقفة جادة؛ فالانتماءات المزدوجة غالبًا ما تؤدي إلى الكوارث، وقد كشفتْ في أكثر من مكان كيف يمكن للسذاجة الفكرية أن تتحوّل إلى تهديد حقيقي لأمن المجتمع. ولدينا في عُمان أكثر من إشارة الآن. ويدور في خلدي سؤال: هل هناك شعب ما يُهاجِم وطنه نصرة للآخرين، مثلما يفعل بعض العُمانيين؟!

لا يُطلَب من أحد معاداة الآخرين، لكن يجب أن يكون الولاء واضحًا لا مزدوجًا، وأن يكون الدفاع عن الوطن أعلى من الدفاع عن أيِّ جهة أخرى. فمن لا يُدافع عن وطنه، أمام ذلك الهجوم الشرس، لا يحق له أن يُنصّب نفسه مدافعًا عن الآخرين. ومهما يكن فلن يكون له قيمة مهما بالغ في الدفاع عنهم على حساب وطن

Your Page Title