أخبار

من الأسر إلى صناعة التاريخ: السنوار والجعبري وهندسة تحرير الأسرى الفلسطينيين

أحمد الجعبري ويحيى السنوار

رصد - أثير

في تاريخ المقاومة الفلسطينية، تتكرر قصة رجال كانوا أسرى، ثم أصبحوا قادة ثم شهداء، لكن أثرهم تجاوز حياتهم الشخصية ليتركوا إرثًا إستراتيجيًا دائمًا.

أحمد الجعبري ويحيى السنوار هما مثال حي على هذا المسار، حيث جسّدا فلسفة الإصرار على تحرير الأسرى وتحويل قضية السجون إلى محور مقاومة لا يمكن التنازل عنه.

قبل 13 عاماً وفي نوفمبر 2012، استهدفت طائرة إسرائيلية أحمد الجعبري، القائد العسكري البارز في كتائب القسام ونائب القائد العام للجناح العسكري لحركة حماس محمد الضيف، وسط مدينة غزة، في عملية أطلقت بعدها إسرائيل حرب “حجارة السجيل”.

وظل اسم الجعبري حاضرًا في الذاكرة الفلسطينية بوصفه أحد أبرز مهندسي العمل المقاوم، والرجل الذي قاد أهم صفقة تبادل أسرى مع الاحتلال خلال العقود الأخيرة: صفقة “وفاء الأحرار” (صفقة شاليط).

من السجن إلى قيادة الميدان

ولد أحمد سعيد الجعبري عام 1960 في حي الشجاعية شرق غزة. في شبابه، انخرط في العمل الوطني المقاوم، ليعتقله الاحتلال ويقضي أكثر من 13 عامًا داخل السجون، هذا الاعتقال الطويل شكل شخصيته السياسية والتنظيمية، وغرس فيه قناعة راسخة بأن ملف الأسرى ليس مجرد قضية إنسانية، بل جوهر الصراع مع الاحتلال.

بعد الإفراج عنه في التسعينيات، انضم الجعبري إلى كتائب القسام، وسرعان ما أصبح من أبرز قادتها الميدانيين. تولى منصب نائب القائد العام للقسام، وبدأ عمليًا إدارة الملف العسكري والتنظيمي للحركة داخل قطاع غزة، عُرف الجعبري بصبره الاستثنائي وحسه التفاوضي الدقيق، ما جعل منه شخصية محورية في إدارة الصراع مع الاحتلال.

خطف شاليط وصفقة التبادل

بعد أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في 25 يونيو 2006، أصبح الجعبري المسؤول الأول عن ملف الأسرى، ونجح خلال سنوات في إدارة الملف بمنهج معقد يجمع بين الحزم العسكري والتفاوض المدروس، رافضًا أي تنازل يفرغ العملية من مضمونها.

وفي أكتوبر 2011، تحققت أكبر عملية تبادل أسرى في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، إذ أفرجت إسرائيل عن أكثر من 1027 أسيرًا فلسطينيًا مقابل جندي واحد فقط. شكلت هذه الصفقة تحولًا استراتيجيًا في وعي الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، وأثبتت قدرة المقاومة على فرض قواعد تفاوض جديدة، وأعادت الأمل لعائلات آلاف المعتقلين.

إرث الجعبري بعد الاغتيال

اغتيل الجعبري في 14 نوفمبر 2012، لكنه ترك إرثًا عميقًا في إدارة الملفات الحساسة، خاصة بعد الأسر الجماعي للجنود الإسرائيليين في الحروب اللاحقة. وصفه الفلسطينيون بـ“الرجل الغامض“، صاحب الرؤية التي تجمع بين القوة العسكرية وإدارة التوازنات الداخلية، وحماية ملف الأسرى كخط أحمر، وإشرافه الدقيق على القوة التنفيذية في غزة.

يحيى السنوار: الأسير الذي قاد معركة الأسرى حتى الاستشهاد

من مخيم خان يونس إلى قيادة حركة حماس، مرّ يحيى السنوار (1962 2024) برحلة حياة استثنائية، بدأت كأسرى طويل، ثم قائد ميداني وسياسي، وصولًا إلى أن يصبح واحدًا من أبرز مدبّري صفقات تبادل الأسرى ومنهجه في المقاومة.

الاعتقال والسجن الطويل حتى الاستشهاد

اعتُقل السنوار عدة مرات في بدايات نشاطه: أول مرة في أوائل الثمانينات، ثم مرة أقوى في عام 1988، حيث حكم عليه الاحتلال الإسرائيلي بأربع مؤبدات إضافية (أربع أحكام “مدى الحياة”) بتهم تتعلق بتأسيس جهاز أمني حركي وقتل إسرائيليين، وغيرها.

قضى نحو 22 عامًا داخل السجون الإسرائيلية، واستثمر هذا السجن كمنصة تنظيمية: تعلّم اللغة العبرية، ودرس الشؤون الإسرائيلية.

أُفرِج عنه عام 2011 ضمن صفقة تبادل الأسرى مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، حيث كان من بين 1,027 أسيرًا أطلق سراحهم في تلك الصفقة التي قادها أحمد الجعبري.

قناعة راسخة

تمامًا كما فعل أحمد الجعبري، جعل السنوار قضية الأسرى أولوية استراتيجية، حيث قاد المفاوضات ووفّر للملف النفوذ المطلوب كورقة ضغط ضد الاحتلال، مؤكدًا أن تحرير الأسرى ليس مجرد مطلب إنساني، بل جزء من استراتيجية المقاومة.

قاد السنوار معركة “طوفان الأقصى”، ففي هذه الفترة، تحققت عدة مراحل من صفقة تبادل الأسرى، وأُفرج عن مئات المعتقلين، ما يعكس استمرارية نهج الجعبري في إدارة ملف الأسرى بصرامة وحزم.

في 16 أكتوبر 2024، استشهد السنوار خلال اشتباك مباشر مع القوات الإسرائيلية في رفح، منهياً مرحلة قيادية طويلة، لكنه ترك إرثًا استراتيجيًا مستمرًا في ملف الأسرى والمقاومة في غزة.

الزاوية السياسية

في المشهد السياسي للمقاومة الفلسطينية، تطرح صفقة طوفان الأقصى نموذجًا إستراتيجيًا جديدًا لقضية الأسرى: ليس مجرد مطلب إنساني، بل أداة تفاوضية محورية في معادلة الصراع. من خلال هذه الصفقات الثلاث (نوفمبر 2023، يناير 2025، وأكتوبر 2025)، أثبتت المقاومة -بقيادة من أمضوا أعوامًا في السجون- أنها قادرة على تحويل خطف الأسرى وتبادلهم إلى ورقة قوة ضاغطة.

هذا التوجه الإستراتيجي يعكس رؤية أعمق، بدأها الجعبري واستمرها السنوار: تحويل مبدأ “لا حرية للأسرى دون تنازل استراتيجي” إلى نهج تفاوضي متسق. فالإفراج عما يقرب من 4,000 أسير فلسطيني عبر ثلاث مراحل ليس مجرد إنجاز رمزي؛ إنه تأكيد عملي على أن المقاومة تسعى إلى بناء تأمين سياسي عبر الضغوط الميدانية والتفاوض الذكي.

من زاوية الاحتلال، هذه الصفقات تمثل تكلفة كبيرة، لا من حيث عدد الأسرى فحسب، بل من حيث الرسالة: أن المقاومة لا تتراجع عن ملف الأسرى، وأنها ترى فيه رافعة أساسية لمعادلات التوازن مع إسرائيل. أما من جانب الفلسطينيين، فهذه الصفقات تعيد تأكيد الأمل لدى آلاف العائلات التي بحثت عن حرية أحبائها لسنوات.

من أحمد الجعبري إلى يحيى السنوار، يبرز خط ممتد من القيادة الفلسطينية التي بنت نفسها من السجون إلى ساحات المعركة، وحوّلت قضية الأسرى من مأساة إنسانية إلى أداة إستراتيجية محورية في الصراع مع الاحتلال. كلاهما مرّ بالمراحل نفسها: أسير ثم قائد ثم صاحب قرار ثم مدبّر صفقة ثم شهيد، ليؤكد أن الإصرار على تحرير الأسرى ليس خيارًا بل مبدأ راسخًا يحدد موازين القوة والمفاوضة.

إرث الجعبري والسنوار يشكّل مرجعًا حيويًا للمقاومة الفلسطينية اليوم: سرية التخطيط، الحزم في التفاوض، وإدارة القوى الميدانية والسياسية، كلها أدوات تجعل من قضية الأسرى محورًا لا يمكن تجاوزه، وتثبت أن أي معادلة صراع مع الاحتلال لا يمكن أن تتجاهل صوت الأسير الفلسطيني وحقه في الحرية.

المصادر

الجزيرة

الأناضول

الرسالة نت

ذا جارديان

Your Page Title