بدر العبري- كاتب وباحث عماني
بعدما تحدّث الله تعالى عن صنف المؤمنين المتقين كما رأينا في الحلقة السّابقة، وقد تحدّث سبحانه عن صفاتهم، هنا يقابل الله تعالى الحديث بالصّنف المقابل، وهو صنف الكافر الجاحد، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وكما جاء الصّنف الأول مستغرقا للجنس [المتقين] كدائرة واسعة، جاء الصّنف المقابل أيضا عامّا مستغرقا للجنس، باسم الموصول المستغرق للجنس [الّذين]، وواو الجماعة المفيد للعموم [كفروا]، ومجيء الأمرين عامّين فيه دلالة على كونهما الأصل في المجتمع الإنسانيّ، فالإنسان إمّا مؤمن مصدّق، وإمّا كافر جاحد منكر.
ومع هذا حاول البعض تخصيص الّذين كفروا ببعض الفرق أو الشّخصيات، كقولهم أنّها في طائفة من اليهود كحيي بن أخطب، وقيل نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، وقيل أنّها نزلت في قادة الأحزاب، وقيل أنّها نزلت في مشركي العرب كأبي جهل وأبي لهب، وقيل أنّهم مشركو أهل الكتاب كلّهم، وقيل في المنافقين من الأوس والخزرج.
وسبب التّخصيص إمّا استقرائيّ أو تأريخيّ أو عقليّ، أمّا التّخصيص الاستقرائيّ فلأنّهم استقرأوا سورة البقرة، وقد تحدّثت كثيرا عن اليهود، ولأنّهم يعلمون بنبوة محمد، فلما جاء كفروا به!!
وأمّا التّخصيص التّأريخيّ فالآية نزلت على النّبيّ محمد – صلّى الله عليه وسلّم – فانبرى له من قومه وكفروا به وعاندوه وآذوه!!
وأمّا التّخصيص العقليّ فكقول أبي عليّ الجبائيّ [ت 303هـ]: أنّها نزلت في أهل الختم والطّبع الّذين علم الله أنّهم لا يؤمنون!!
وعلى العموم مفردات القرآن الكريم في جملتها تفيد العموم، والتّخصيص الاستقرائيّ والتّأريخيّ في جملته لا عبرة به، وقديما قيل: لا عبرة بخصوص السّبب مع عموم اللّفظ، فالقرآن الكريم جاء في أصلّه محفوظا إلى يوم الدّين، لهذا لابدّ من التّفريق بين تأريخيّة النّص وتأريخيّة الفهم، فمن قال بتأريخيّة النّص إمّا أنّه يقصد وقت الإنزال في زمن مضى، فهذا لا خلاف حوله، بغض النّظر عن الصّراع الّذي لا قيمة له هل هو حادث أم لا، وإمّا أنّه يقصد أنّه مرحلة نصيّة تأريخيّة وانتهت، فهذا لا يمكن قبوله، لمخالفته العقل والنّقل، فأمّا العقل فإذا كان محمد نبيّا حقا، وأنّه أتى برسالة، وأنّه خاتم، فلا يمكن عقلا أن يكون نص رسالته لفترة تأريخيّة تتوقف عند نقطة معينة في الماضي، وأمّا النّقل فلقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر/9].
وأمّا القول بتأريخيّة الفهم والإنزال للدوائر المفتوحة في النّص، فهذا ما يقبله العقل، وما يتوافق مع الصّيرورة الزّمانيّة والمكانيّة، وسيأتي الاستشهاد بهذه القاعدة أثناء التّفسير، بما يتوافق وصيرورة المجتمع الإنسانيّ.
والقضيّة الكبرى اليوم الّتي أصبحت محلّ جدل في المجتمعات الدّينيّة واللّبراليّة قضيّة التّكفير، وربطها بقضايا تأريخيّة أشدّها قضيّة السّيف والقتل، ممّا أحدث ضبابيّة في هذا المفهوم.
وفي الجملة الحدّ المشترك بين الجميع أنّ الكفر في أصله اللّغويّ التّغطية والسّتر، ولهذا سمي المزارع كافرا لأنّه يغطي البذور بالتّربة، واللّيل كافرا لأنّه يغطي المكان بالظّلمة، وهذا دواليك.
فإذا أطلق الكفر في القرآن انصرف إلى أصله اللّغوي إلا إذا جاءت قرينة تصرفه إلى الكفر الملّي أو القانونيّ، ويسمي البعض الكفر اللّغويّ بكفر النّعمة، أو كفر دون كفر، أو الكفر الأصغر، ولهذا اعتاد الإباضيّة على كثرة استخدام هذا المصطلح، ممّا توهم خصومهم أنّهم يكفرون بالمعاصي، ولا يستبعد هذه التّهمة أيضا ألصقت بالخوارج، لسببين: أنّهم قريبون من إنزال القرآن ولغته ولغة العرب، والعرب يستخدمون هذه المصطلحات حتى قبل نزول القرآن الكريم، والثّاني لا يوجد لهم مصادر نحاكمهم إلا من مصادر خصومهم، ودعوى الخصم باطلة ولا قيمة لها معرفيّا إلا كاستشهاد تأريخيّ، وهذا ما وقع فيه اللّبس في فهم مصطلحات سيد قطب [ت 1966م] وتعميم إطلاقه بالكفر والجاهليّة لكثرة استخدامه المصطلحات اللّغويّة، خاصّة وأنّه أديب ناقد في أصل توجهه!!
ويرى البغويّ [ت 516هـ] أنّ الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق، فكفر الإنكار أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به، وكفر الجحود أن لا يعرف الله تعالى بقلبه، ولا يقرّ بلسانه، ككفر إبليس، وكفر العناد أن يعرف الله بقلبه، ويعترف بلسانه، ولا يدين به، وكفر النّفاق أن يقرّ باللّسان، ولا يعتقد بالقلب.
وعلى العموم إطلاق الكفر كان سابقا أقرب إلى المصطلح العام، وإنزاله قانونا عائد إلى الله وحده، ولمّا تقدّم الزّمان ضاق المصطلح، وأصبح لصيقا بالمذهب، وشارك النّاس في إنزاله، لهذا ربط الكفر بالسّيف لا دليل عليه عقلا ولا قرآنا، فالله تعالى أعطى النّاس حريّة المعتقد والعمل حيث قال في المعتقد: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف/ 29]، وقال في العمل: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء/ 84].
وأمّا رواية: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى، فهذه الرّواية معارضة لكليات القرآن، حتى ولو قلنا بأنّ لفظة النّاس عامّة أريد بها الخصوص، فقيل اليهود، وقيل المحارب، أمّا اليهود فلا يلتفت إليه، وأمّا المحارب فيحارب حتى يفيئ إلى السّلم، فإن جنح للسّلم يجنح لها، وهكذا ما يتعلّق بحدّ الرّدة وتقسيم النّاس ثلاثة أقسام، فقد أسهبتُ الحديث حوله في كتابي فقه التّطرف يرجع إليه، وسيأتي العديد من تطبيقاته في هذا التّفسير.
فإن كان هذا يتعلّق بالإنزال الدّنيويّ، إذ لا يجوز أخذ النّفس بغير حق كدفاع عن ذات أو قصاص؛ فكذلك الإنزال الأخرويّ بيد الله تعالى وحده، وعلى الإنسان البلاغ لا الإنزال.
وللرّازيّ [ت 604 – 606هـ] كلام نفيس في تكفير الأمّة لبعضها لخلافات كلاميّة كالرّوية والصّفات والخروج من النّار، حيث يقول بنصه: فأمّا الّذي يعرف بالدّليل أنّه من دينه مثل كونه عالماً بالعلم أو لذاته وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنّه خالق أعمال العباد أم لا، فلم ينقل بالتّواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السّلام بأحد القولين دون الثّاني، بل إنّما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثّاني بالاستدلال، فلا جرم لم يكن إنكاره، ولا الإقرار به داخلاً في ماهية الإيمان فلا يكون موجباً للكفر، والدّليل عليه أنّه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنّه هل يعرف الحق في تلك المسألة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمّة، ولنقل ذلك على سبيل التّواتر، فلمّا لم ينقل ذلك دل على أنّه عليه السّلام ما وقف الإيمان عليها، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجباً للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمّة، ولا نكفر أرباب التّأويل.
فالمنشّأ التّأريخيّ جعل من الكفر ضيقا، ورّتب عليه أحكاما دنيويّة جعل النّظرة إلى المصطلح نظرة سلبيّة وقاتمة، ويزيدها ظلمة إذا أنزلت فقها وفق العديد من الرّؤى السّلبيّة الّتي تحتاج إلى دراسة ونقد!!!
وفي نهاية هذه الآية يبين الله تعالى أنّه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} كقاعدة عامّة في التّسوية بين الشّيء وضدّه، أي أنّ الإنذار والعدم لن يجدي شيئا، والإخبار بهذا إمّا عن قاعدة عامّة، أو عن إخبار بعلم الله تعالى عن قوم لا يجدي فيهم البلاغ ولا البرهان، ولا تعارض بين الأمرين، فالله تعالى يقرر من النّاس من لا يستجيب أصلا لأي برهان إمّا لكبر، أو لخوف على مصالح دنيويّة قاصرة، خاصّة إذا كان الدّاعي من الفئة المستضعفة عددا ورتبة دنيويّة، ولهذا سيأتي الحديث عن دائرة المنافقين، وهي الدّائرة الرّماديّة بين الدّائرتين!!!
فهذا الصّنف يشبه الله تعالى مستخدما أسلوب الاستعارة والتّشبيه كالشّيء المطبوع أي المختوم عليه لا يمكن فتحه، وكالغطاء الّذي يمنع دخول شيء إلى ما بعده!!
ولهذا أسند الله تعالى الختم إلى القلوب والأسماع، وأسند الغطاء إلى البصر، ويعلل محمد عبده [ت 1905م] هذا بقوله: وأمّا النّكتة في استعمال الختم مع القلوب والسّمع، والغشاوة مع البصر؛ فهي أنّ الختم من شأنه أن يكون على المكنون المستور، وهكذا موضع حس السّمع، وموضع الإدراك من العقل، والأسماع في ظاهر الخلقة، وأمّا البصر فالحاسة منه ظاهرة منكشفة.
بيد أنّ الله تعالى قدّم القلب هنا بينما أخر ذكره في قوله تعالى: {وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النّحل/ 78]، وذلك لأنّ الإنسان عندما يولد يبدأ الإدراك عن طريق الحواس كالسّمع والبصر، ثمّ يبدأ بالتّفكر والتّعقل، بينما هنا يصل الإنسان إلى الإيمان عن طريق التّعقل والتّفكر مستعينا بحواسّه كالسّمع والبصر.
والختم جاء في القرآن بأسماء متعددة كالطّبع، والأكنّة، والرّان والوقر، والغشاوة معناها الغطاء، ولا يهمنا هنا أيهما أقوى السّمع أو البصر، وهل محل العقل القلب العضويّ أم الدّماغ، كذلك لا يهمنا الخلاف الكبير والقديم بين المعتزلة والأشاعرة في إسناد الختم إلى الله أم إلى الشّيطان، وفي نسبة خلق الشّر إلى الله تعالى، ولهذا لمّا سُئِلَ الإمام أبو القاسم الأنصاريّ [ت 511- 512هـ] عن تكفير المعتزلة في مسألة خلق الأفعال أجاب بلا؛ لأنّهم نزهوه، وسُئِلَ عن تكفير أهل السنّة فقال لا، لأنّهم عظموه، وقال الرّازيّ [ت 604 – 606هـ] معقبا على هذا في تفسيره: والمعنى أنّ كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه!!!
ويختم الله تعالى هذا الفريق بالتّوعد بالعذاب، وأصل معنى العذاب العقاب والنّكال، ويبين الطّبرسيّ [ت 548هـ] في مجمع البيان أنّ العذاب استمرار الألم.
وعلى العموم نختم بهذا أنّ صنفا من النّاس يكابر الإيمان ويجحده، عن علم ووصول وبرهان، ويقابل هذا الصّنف صنف المتقين حسب ما صل إليهم الإيمان عقلا ونقلا، فيتقون الله تعالى بقدر ما يستطيعون، ويؤمنون بالغيب، وهذا كطبيعة أي مجتمع إنسانيّ، إلا أنّ الكفر هنا لا علاقة له بعدم العدل في الدّنيا، أو بمشاركة الله في الحكم في الآخرة، لذا الختم لا يعلمه إلا الله تعالى، والمؤمن عليه البيان والبلاغ لا الحكم والإنزال.