عزة بنت محمد الكميانية- روائية عمانية
تفتح الفيسبوك تجد أحد الأصدقاء الافتراضيين نشر صورة قدمه مغلفة بالجبس، وهو يتأوه ألمًا، فتتعاطف معه، بعد أيام قليلة يصاب ابنك في الملعب، فتجبس قدمه!
ترى أحدهم ينشر صورة ابنه منوما في المستشفى، وأمصال الأدوية موصولة في ذراعه، فتتعاطف معه، بعد أسبوع يقرر الطبيب إجراء عملية مستعجلة لابنك الآخر، يتغيب عن المدرسة أسبوعين، ويظل شهرا آخر لا يقوى على حمل الحقيبة.
تظل لأشهر تتعاطف مع إحدى صديقات العالم الافتراضي وهي تتعالج في أحد المستشفيات من المرض الخبيث، تتابع منشوراتها، تتحسس نعمة الصحة التي أنت فيها، حتى لو كنت تعاني من أمراض مزمنة، وآلام مبرحة، فلا شيء يقارن مع المرض الخبيث، تعجبك قوة تحمُّلها بالرغم أنك غالبا تغلق منشوراتها دون أن تقرأها حينما تكون بمزاجٍ سيئ، حتى لا يتعكر أكثر، وحتى لا يتلبسك الحزن عليها، ويتسلل الألم إلى جسدك كما تسلل لجسدها، ولكن تعود حينما يروق مزاجك لتتابع خط سير علاجها، فيتعكر مزاجك مُجددا، ويتعاظم التعاطف معها في أعماقك، ولكن عند اقتراب نصرها على المرض الخبيث، وقبل رجوعها من رحلة علاجها الطويلة تكتشف أن أعز قريباتك أصيبت بالمرض الخبيث، تظل لأيام تترنح من هول الصدمة.
تكتشف أن كل شيء تتعاطف معه يتشكل في حياتك، وبالرغم أنك تعلم هذه المعلومة من قبل، وتحاول أن لا تتعاطف بكل مشاعرك مع الأحداث، إلا أن الأحداث المُّصورة تجبرك على ذلك، ولا حل سوى الابتعاد عنها، ولكن كيف السبيل لذلك والصور والأخبار تزداد كل يوم في مواقع التواصل الاجتماعي، تشكر الله أن مصيبتك أقل من مصيبة غيرك، فما هو حجم مصيبتك مقارنة بمن فقد عزيزًا على قلبه، فهناك أخبار أشد قسوة من تلك، طفلٌ غرق في دلو ماء ضج الواتساب بالخبر، فتتعاطف مع أمه، تتخيل حزن قلبها عليه، بالرغم أنك لا تعرفها ولا تعرفه، ولكن مجرد سماعك للخبر يجعلك تحزن، فلا يمضي شهر إلا يأتيك الخبر مفجعا، موت ابنة أعز البشر على قلبك غرقا في حوض السباحة، ينفطر قلبك، ليس على بهاء الطفلة الذي غاب للأبد وحسب، وإنما على قلب أمها أيضا، تحاول أن تجمع عبارات المواساة لقلبها، لكن لا تستطيع، تتلعثم الكلمات في فمك، تشعر بالمرارة في كل خلية من جسدك، وتظل كلماتها ترن في أذنك وهي تصرخ في حضنك باسم طفلتها التي غادرت الحياة، شعور قاسٍ جدا لن يشعر به إلا من مرَّ عليه، لم أكن أعلم أن فقد طفل مؤلم لتلك الدرجة، ونحن نعلم يقينا أنها في جنات الخلد، لكن يظل الفقد مُرًا، فكيف يمكن أن يتداول الغرباء صورهم، وينشرونها في كل مكان دون أن يراعوا حزن أقاربهم.
كلما رأيت صور الموتى تنتشر في كل مكان يجتاحك الخوف من فقد عزيز عليك، ما دام أخبار شبكات التواصل الاجتماعي تتشكل في حياتك، والهلع يزداد كلما حدث شيءٌ أربك حياة بشر لا تعرفهم، ولكن حتما سيربك حياتك أيضاً، إذا حدث حريق ينتابك الخوف من تكرار ذلك في بيتك، وأنت ترى الحرائق تتابع في البيوت، يصيبُك الهلع من نسيان الطبخة على النار، فتتفقد مفاتيح الموقد حتى لا تنسى أحدها مشتعلة، وقبل أن تنام تغلق مفاتيح الكهرباء للأجهزة غير المستخدمة خوفًا من اندلاع شرارة، فتُحول كل شيء لسواد، الذعر يتسلل إلى أعماقك كلما نشر أحدهم صورا لطفلهِ المريض بمرضٍ عضال، تحزن عليه وتخشى على أطفالك، حتى أطفال متلازمة داون تكاثر عددهم في السنوات الأخيرة من كثر ما ينشر أهلهم صورهم وكأنهم يتفاخرون بأن هؤلاء أحد أفراد أسرتهم، وأنهم لا يستحون من ذلك وأنهم يهتمون بهم، وبدارستهم، هذا بالتأكيد شيء جيد، فيجب أن يحصل هؤلاء على حقهم بالتعليم والاهتمام وبالدفء العائلي، لكن لا يحتاج الأمر لكل ذلك التفاخر والتباهي، فهذا حق مشروع لهم، فنشر صورهم باستمرار أدى لتزايد عددهم، أشياء كثيرة ازدادت في السنوات الأخيرة، موت الفجأة، الحرائق، حوادث حافلات المدرسة، حوادث الغرق، جرائم القتل، أمراض السرطان، فمتى سيعي الناس أن نشر الأخبار السيئة يجعل عددها يزداد.
متى يعي الناس أن ليس كل ما يحدث لنا صالحًا للنشر؟! وأن تعاطف ووقفة أحبتنا في تلك المواقف خير معين على تجاوزها، فلمَ نشرك العالم بها، لمَ نجعلهم يتعاطفون معنا؟!
عندما نكون حزينين ونكتب عن ذلك، فإن الحزن يتكاثر، ويتعاظم في صدورنا، بينما لو صبرنا وكتمنا ما في أنفسنا فإن كل شيء سيمضي بسلام، متى يتعلم الآخرون ذلك فلا يشتكون، ولا يتذمرون، ويفوضون أمرهم إلى الله؟ّ! أما نشر كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، فإنه يضرنا أكثر مما ينفعنا، ويضر الآخرين أيضاً حينما نشركهم في أحزاننا، وهم لا يعرفوننا ولا يمتون لنا بصلة، فيصابوا بالعدوى منّا، فالحزن معدٍ أيضاً، فلننشر الفرح بيننا حتى تختفي الكوارث فلا تعود بالظهور إلا بالقدر اليسير كما كانت في الماضي، وليس في فترة زمنية قصيرة فلا يكاد الإنسان يلتقط أنفاسه من مصيبة حتى تحل عليه أو على أحد أقاربه مصيبة أخرى.
فكلما فتحنا أحد برامج التواصل الاجتماعي اندلقت منها صور الموتى، بشرٌ لا تربطنا بهم علاقة، ما الداعي لأن نعرفهم ونحزن لموتهم، أذكر حينما توفي الطفل السوداني المنسي في حافلة المدرسة، حزنا لأجله، تعاطفنا مع أهله، ودعونا الله أن يصبرهم، لكن مهما كان التعاطف لم يكن عظيما مثل تعاطف وحزن من يعرف الطفل أو أحد أقاربه، هكذا نحن البشر مهما تعاطفنا مع الآخرين يظل تعاطفنا مع أقاربنا ومعارفنا أكبر وأكثر عمقا، لكن لم تمضِ سوى أيام حتى حصل أحدهم على صورة للطفل المتوفى فنشرها في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ثم انتشرت في كل المواقع الأخرى، صُدمت حينما رأيت صورته، شعرت بالألم وبمرارة الفقد، طفلٌ وسيم، ويبدو أنه طفل هادئ وذكي، دعوت الله كثيرًا أن يصبر أمه، ازداد تعاطفي أكثر، فمن يفقد طفلا كجماله وبراءته يعد شيئا صادما ومؤلما جدا، بالتأكيد حينما تغيب صورة الشخص المتوفى عن أذهاننا لا نتعاطف معه بالقدر نفسه لو كنا نعرف شكله، نذهب كثيرا لعزاء الصديقات والقريبات لوفاة أحد أقاربهم دون أن نعرف شكل المتوفى، يبدو الأمر أقل ألما من لو كنا نعرفه، أو رأينا صورته، ولكن أصبح في الآونة الأخيرة نعرف وجه كل من يتوفى؛ لأن الصور تنشر في كل منصات التواصل الاجتماعي، فيزداد الألم، ويزداد التعاطف مع ذويه، ربما يقول البعض وما الضير في ذلك؟! ألا يكفي الإنسان المصائب التي تصيبه، أو تصيب أحدا من أفراد أسرته أو أقاربه أو أصدقائه، نشر صور الموتى وأخبار الموت يجعل الإنسان لا يمر يوم دون أن يسمع خبرا محزنا، مما يجعله في ضغط نفسي كل يوم، ربما يكون يومها مبتهجا لأن ابنه حصل على شهادة تقدير لتفوقه الدراسي ثم فجأة وسط ابتسامته الكبيرة، وغبطة وحبور قلبه، يفتح أحد برامج التواصل الاجتماعي فيجد خبرا عن موت فلان أو فلانة، وهو لا يعرفهما، ولكن لأن أحد أعضاء المجموعة علم بوفاتهما فأرسلها لهم، متى يفهم الناس أن هذه العادة سيئة جدا؟!
إذا توفي شخص فإن أهله وأقاربه ومعارفه وأصدقاءه سوف يعلمون بموته بالتأكيد، لا داعي لنشر خبر وفاته في مجموعات الواتساب، ولا داعي لنشر صوره في منصات التواصل الاجتماعي، لا داعي للتباكي والحزن عليه في كل الحسابات، ممن يعرفونه وممن لا يعرفونه، إنهم بذلك ينشرون الحزن كل يوم، ألا يكفي حزن أهله عليه، ألا يكفي ترحمهم عليه؟! فالمؤمن يرحمه الله دون أن يترحم عليه أحد، أما الكافر فلن يغفر الله له حتى لو استغفر له كل من في الأرض، حقيقة ربما يجهلها الكثيرون ويظنون أن آلاف الترحمات التي تنطلق من الأفواه ستغير من مصائر الذين ماتوا، وبعضهم يبلغ بهم المبلغ أن يجزم أن المتوفى في جنات النعيم، والله تعالى قال “لا تزكوا أنفسكم” فكيف بمن يزكي غيره! فالله تعالى وحده (جل وعلا) يزكي الناس ويعلم ما اجترحوا من سيئات أو اكتسبوا من حسنات، فيبادر البعض بالنشر، وكأن هناك تنافسا بينهم، ألا يكفي موت شخص عزيز عليك قبل أشهر أو سنوات واندمل الجرح قليلاً، فيأتي أحدهم ليفتح جراحا أخرى، والعجيب أنها جراح ليست جراحنا، أشخاص لا تربطنا بهم أي صلة، أشخاص لا نعرف عنهم شيئاً، وربما لم نسمع عنهم إلا بعدما توفوا، فليرحمهم الله، وليُصبِّر أهلهم، فما ذنبنا لنتعاطف مع هذا الكم الهائل من الموتى الذين لا تربطنا بهم صلة، فليمت من يمت وليعش من يعش، وليمرض من يمرض، لمَ النشر؟! ولمَ التباكي والنواح على بشر ربما حتى من نشر صورهم لا يعرفونهم في الواقع؟!
ظاهرة نشر صور الموتى والمرضى والأخبار الشخصية المؤلمة أصبحت ظاهرة مزعجة جداً؛ لأنها تكاثرت كثيرا، فلا أعلم متى ستختفي وتجعلنا نهنأ في حياتنا، دون أن تتكدر كل يوم؟! فلا يوجد بيت ليس فيه مريض أو فقد عزيز، أو حلَّت عليه مصيبة، لكن لم نكن نشعر بها، يكفينا مصائبنا وأحزاننا، ومصائب أقاربنا، وجيراننا، ومعارفنا، فلمَ نقحم أحزان الآخرين في حياتنا، حتى ظننا أننا نعيش في حزن كل يوم، بالرغم من النعم العظيمة التي تحيط بنا، لا نستشعرها ونحن نرى بشرا آخرين يتعذبون، ويتألمون، ويحزنون، كل يوم نحن نشاركهم مشاعرهم، وخاصة حينما يتم نشر الصور، فمهما تجاهلنا الأمر وحاولنا أن ننساه تظل صور موتاهم الذين انفطرت قلوبهم عليهم تتقافز أمام أعيننا، حتى حينما نغمضها للنوم، فكيف نهنأ في حياتنا ونحن نعلم أن هناك من فقد عزيزا أصبحنا نعرف شكله، وصورته لا تغادر أذهاننا، وهناك من يتألم لفقده، كيف يمكننا أن نهنأ ونحن نعلم أن صاحب الصورة لم يعد يحيا في عالمنا، وأنه انتقل لعالم مجهول لا يمكننا الإحاطة بما يمكن أن يكون حاله هناك بعيداً عنَّا.
وما إن يمرض أحدهم حتى نشر صورة يده موصولة في الدواء، وما إن أصيب أحدهم بمرض عضال حتى ورَّط الآلاف معه بمرضه وتعاطفوا معه، وما إن يموت طفل حتى ضجَّت شبكات التواصل الاجتماعي بصوره، وبالبكاء والعويل على فقده، وإذا كان لدى الشخص حساب في أحد المواقع الافتراضية فإنهم يحفظون صوره ثم ينشرونها في كل شبكات التواصل الأخرى، علماً أن من ينشرون الصور غالبا لا يعرفون المتوفى ولا أحدًا من أهله، ارحمونا قليلاً، ودعونا نهنأ في حياتنا، فإن كان هذا تأثير صور الموتى والمرضى في نفوسنا، فكيف سيكون شعور أهلهم، وهم يرون صورهم منشورة في كل مكان، فليس كل البشر قادرين على رؤية صور أحبتهم وهم أموات، وخاصة حينما يكون الجرح لا يزال طريا، هل يجب أن يصدر قانون يُجرِّم نشر صور الموتى كما صدر القانون الذي يُجرِّم تصوير ونشر صور الحوادث والمصابين؟.
إذا استمر الأمر هكذا فنحن أمام خيارين: إما أن نصبح متبلدي المشاعر لا يهزنا شيء، وأجسادًا خاوية بلا قلوب، أو أن يظل الحزن يُخيم على حياتنا للأبد.
يجب أن نعلم حجم الضرر الذي نسببه في نشر الأخبار السيئة لنا وللعالم، فالمصائب تزداد، والأمراض كذلك، والحوادث، والحرائق، تعاطفنا مع الآخرين يجعلنا عرضة لجذب نفس الأحداث لحياتنا، فرجاء رفقا بنا وبقلوبنا، وإن علمتم بمصيبة فاكتموها، والأهل بالتأكيد سيعلمون بتلك المصيبة حتى لو كانوا في أبعد نقطة من المعمورة، دعوا أهلهم يمهدون لهم نقل الخبر قبل أن يقرأوه في شبكات التواصل الاجتماعي، فيصدموا دون سابق إنذار.