فضاءات

قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي

قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي
قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي

أثير – مكتب أثير في تونس
إعداد: محمد الهادي الجزيري


كيف أخوض هذا البحر ولا أغرق فيه؟، سؤال ألحّ عليّ وأنا أطالع مدوّنة الشاعر الفذّ الملقّب بأمير البيان، كيف أقتطف منه ما يكفي مقالتي دون أن أظلم مسيرته وأُنقص من عليائه؟، على كلّ..يحقّ لي طرح الأسئلة وقدمي ما تزال عند العتبات الأولى من تاريخ الشيخ عبدالله بن علي الخليلي، شاعر عُمان الذي شرب الشعراء العُمانيون من فيضه وتعلّموا منه ترويض المفردات صراحة من أين أبدأ؟ من شِعره أبدأ؛ فهو القائل:

“هو العلم أحْكم به واقفاً
هو العلم اعْظم به مَقْدَمَا
يموت النبي ولا وارث ٌ
سوى العلماء فما أكرما”

في أوائل القرن العشرين وُلد الشاعر وكان ذلك في حارة الحباس من ولاية سمائل في أغسطس 1922، ونشأ هناك في البيت المعروف ببيت السُبْحِيَّة، وقد بدأ تعليمه المبكر
ومن ضمنهم الشيخ سالم بن حمّود السيابي فقد جالس عددًا كبيرًا من جهابذة علماء عُمان، وتتلمذ على يديه وأخذ جوهر العلم ولم يقتصر في كتابته فيما بعد على الشعر، فمن الجميل أن نتاج الخليلي الأدبي لم يقتصر على القصيدة، بل كتب في مجال المقامات والقصة القصيرة، وله مخطوط سجلات الأدب جمع فيه المقامات والقصص القصيرة…


قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي
قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي


“أرى العلم في صحف الكائنات
ضياءً وأسفاره أنجما

ينال المرادَ به سالكٌ
ويعلو السها من إليه انتمى

ولا شيء من مكرمات الوجود
سواه يدوم فما أعظما”

لقد شُغف عبدالله الخليلي بالشعر فصار تجسيدا له في صحوه ومنامه، وقد نمى من بعد ذلك حبه لكتابة القصيدة وشغفه بها، فلا يستغرب أحد إن “يراه يقوم فجأة عن الطعام فلا شك أنه قام لكتابة أبيات خطرت لحظتها عليه، كما أن الشعر قد يأتيه وهو نائم؛ فينهض من نومه ليبحث عن ورقة وقلم ليكتب ما تذكره، فكان يحرص قدر الإمكان على مصاحبة الورقة والقلم؛ فوحي الشعر قد يطرق بابه في أي لحظة، وقد طرق معظم أبواب الشعر القديمة منها والحديثة”، ومن غزله المعروف بالرقة والرهافة والذوق الرفيع وحسن الخلق، نقرأ له هذه الأبيات الأنيقة عن الحبيب وتلاعبه بالمحبوب:

قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي
قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي قامات مضيئة عبر “أثير”: أمير البيان الشاعر الشيخ عبدالله بن علي الخليلي


ومما لا شك فيه أن الانتماء الوطني لدى الخليلي تعدى حدود وطنه الصغير عُمان، وتعدّاها لما هو عروبي وإنساني، فقد تناول قضايا الهم العربي وأوّلها القضية الجرح النابض النازف الحيّ، ألا وهي فلسطين، وتطرّق إلى تفرّقنا على عكس الخصوم فهم وحدة صماء كلما كانت الحرب:

“مالي أرى العرب العرباء في هرج
خلف الشقاق شتاتًا في الإرداتِ
كأنها تحت أحقاد علقن بها
غيم عفا تحت هبات عقيماتِ
يا قوم حتى ما يهوى في الحضيض بكم…
رأي شتات لأعداء غير أشتاتِ”



وقد كُتبت في الشاعر شهادات شتّى ودراسات مختلفة، ونذكر منها مقالة للأستاذ سعيد الصقلاوي بعنوان “الشيخ عبد الله الخليلي في عيون معاصريه في جريدة “الرؤية” قدّم خلالها شهادات متنوعة لعدد من الأساتذة في تجربة الشاعر، ومن ضمنها هذا المقطع:

“الشيخ الشاعر بالرغم من ذيوع شهرته، وبراعته وهمته العالية وفصاحة بيانه في شعره ونثره، إلاَّ أن قسمات شخصيته قد ختمتها البيئة العمانية بخاتم البساطة والتواضع الجم، وأذكت فيها روح النوايا الصادقة التي تأخذ بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، وقد تنبه إلى هذه الميزة في شخصيته الدكتور عبداللطيف عبد الحليم حيث وصفه بأنه من شيوخ شعراء عمان، ومن أكبرهم قدراً، يذكّر قارئه بشيوخ المحافظين في مصر والوطن العربي، لسعة ميدانه وحضور جنانه، كما يضيف بأنه من جيل يدرك جيداً ذخائر التراث العربي، حفظه وفقهه، وتوفر عليه درساً ووعياً”.

كما له مئات الأشعار الموجّهة إلى بلده الحبيب عُمان، أشار فيها إلى أفكاره البريئة من كلّ دم، الداعية إلى نبذ الخصومات ورفض المذهبية والطائفية، مذكّرا إلى أنّ هذا الشعب الطيب لا يقبل من يحمل سيفا أو يكون كالذئب يريد الانقضاض عليه، وهذه شهادة غالية وعالية من شاعر كبير جرّب الدنيا وخبرها:

“عُمان منبت أهل الله من قدم
ومعقل العزٌ والعلياء سربال 

عُمان ما جشأت للذعر جازعة
يوماً ولا ركعت والشر زلزال 

هبّت إلى المصطفى تسعى طواعية
ولم يقدها له سيف وعسّال”

وقد وردت في مجلة “نزوى” سنة 2000 هذه الكلمة التي تنمّ عن الوفاء والإخلاص له، فقد كان أبا للمبدعين الحدثيين، منه استلهموا أجود الجمل وأبدعوا أجمل الصور وبه استعانوا على حبك المعانى:

“خرج معظم شعراء عُمان المعاصرين من تحت عباءته، ونشأوا تحت ظلال قصائده، وتغذوا بلغته، واقتاتوا من مفرداته، خصوصا أولئك الذين تعلقوا بأهداب القصيدة العمودية”.

من أجمل ما قرأت في غدر الأحبة وخيانة الأصدقاء ما خطّه الشاعر عبد الله الخليلي فقد أجاد الوصف، وأحسن البكاء “الخفيف” على الخونة، وذكّرهم بأجمل العطايا ولكنّهم من طينة لا يفلّ فيها الكلام ولا الحديد، وهكذا هي الدنيا صفاء بخيانة، لكن يبقى صوت الأنقى هو المنتصر دائما، يقول الشاعر:

“وصاحبٍ كان مرأى العين من بصري
وكان مرعى ضميري أينما ذهبا

أوليته الحب عمري فاستهان به
كما استهان بفضل العذب من شربا

وعدت أمحضه حسن الولاء فما
والى ولكنه ولى وما صحبا

أهكذا الدهر إن تحفظ إخاءك في
أخ تنمر أو في صاحب وثبا

حتى كلاب الحمى إن تخشها وثبت
عليك لكن إذا خافتك لم تثبا”

يكاد الشاعر أن ينبذ التطرف في كلّ قصيد أو فقرة نثرية، فالتطرف أو التعصب والتمذهب هم الداء الدفين الذي إن استفحل بجسم الأمة أتى عليه وفتك به، لهذا دأب شاعرنا الكبير على مقاومة هذه الظواهر المشينة، آملا أن يقضي عليها، وهذا وطنه عُمان سالما من هذه الأمراض الفتّاكة، وقد أفلح الشاعر في محاربتها وبيّن لكلّ قارئ مدى خطورتها إن وقع الصمت عليها، هذا صوت الشاعر الحرّ:

“دعوا بينكم كيد التعصب إنه
يغادر مخضرّ المعالم أغبرا

دعوا بينكم شر الجدال فإنه
يخلف إيوان الصلاح مكسرا

دعوا سيئ الظن المشتِّ وأخلصوا
إلى الله يأتِ الكون قسراً مسخرا

دعوا فاحش الإنكار فالدين واسع
وعروته التوحيد حكماً فلا مرا”

يُعتبر الشاعر الكبير عبدالله بن علي الخليلي، شيخ القصيدة العمانية في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد كان شعره ينمّ عن تمكن في سبك الألفاظ وتصوير المعاني، حتى أنه سمي بأمير البيان، وليس الشعر النتاج الأدبي الوحيد له فقد كتب مقامات وقصص، وكما قال الأديب العماني أحمد الفلاحي فيه:

 “لو ظهر أمثال هؤلاء في دمشق أو القاهرة أو بيروت
لكانوا ملأوا الدنيا العربية..
لكن الحيز الجغرافي العماني
هو الذي دسّ هؤلاء من أن يُعرفوا”



مرض الشيخ عبدالله بن علي الخليلي عام 1982م بشلل الرعاش، أعقب ذلك حالة من العزلة عاشها خلال 18 عامًا القادمة، إذ قلّ اختلاطه بالناس، وعلى الجانب الآخر زاد نتاجه الأدبي خلال هذه الفترة، وفي أواخر حياته اشتهر بالزهد في أشعاره، وقد شهد يوم 30 يوليو 2000، أفول نجمه، بعد أن أسهم في إعادة الرونق الجميل للشعر العماني والعربي، وقد أسهم شعره في بناء عمان الحديثة، أحسن الله مثواه وأجازه عنّا كلّ خير، فقد أخلص في صياغة رسالته الشعرية والإنسانية.. تلك هي الحياة..

Your Page Title