أثير – مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
أحبّ كلّ شيء ينتمي إليها، وأودّ أن أحضن كلّ ذرّة فيها، لذا سعدت وأحسست بطربٍ عظيم حين وصلني خبر فوز رواية “ناغوغي الصغير” للفلسطيني الدكتور حسن حميد، بجائزة نجيب محفوظ، وقلت في نفسي هذا نصر آخر للأرض المغبونة وللشعب الواقف رغم حصارات شتّى، هذا وقد أعلن المجلس الأعلى للثقافة في جمهورية مصر العربية مؤخّرا عن نتائج الفائزين في مسابقة جائزة نجيب محفوظ في مصر والعالم العربي، وهي المسابقة التي أقامتها إدارة المسابقات التابعة للإدارة المركزية للشعب واللجان الثقافية برئاسة الكاتب محمد ناصف، وفاز الكاتب والروائي الفلسطيني الدكتور حسن حميد بجائزة المسابقة لأفضل رواية عربية عن روايته (ناغوغي الصغير)، ويشرّفني اليوم أن أقدّم لقرّاء أثير هذه الرواية بعد أن قرأتها وأوغلت فيها ورحلت معها إلى أثيوبيا والكيان الغاصب، وعانيت ما عاناه البطل الروائي “ناغوغي الصغير” من أوجاع جسيمة في الجسم والنفس.
في البداية يحكي الراوي عن الشخص الرئيسي بخوف وحذر منه، فالفاعل الأوّل في الرواية أسود اللون ومن يهود الفلاشا من أثيوبيا ويلاقي نفورا من الجميع، باستثناء أمّ الراوي الذي علّمته العبرية، ثمّ كتب بها النصّ الذي تركه خلفه، وترجمه السارد إلى لغته العربية، كما طلب منه ذلك ناغوغي، الذي مضى إلى بلاده، علما أنّ الراوي قام بمقامرة بحياته وحياة أسرته بسبب الترجمة التي احترمها ولم يحرّف فيها شيئا.
يفتتح ناغوغي الصغير روايته بعنوان أوّل هو “هنا في إسرائيل”، فيه وصف وتدقيق للإذلال المهين للذات الإنسانية: “وكان النهر والسباب والزجر والضرب، آذيات يومية تطال الجميع” ويسرد بالتفصيل ما تعرّض له القادمون من أثيوبيا من ظلم وتعذيب وإهانة، ووصف لعملية الإيذاء المدروسة من قبل الجنود الإسرائليين، وانتهى بقبوله في الجيش ولم يتحقّق له شيء من الآمال المهدورة الضائعة.
ويُختتم هذا الفصل بملاحظة يسوقها ناغوغي:
“ها أنذا، أكتب للورق، أو لعلّي أكتب للمجهول، لعلّ خبر ما وقع لي، يصل إلى آخرين يحلمون في أثيوبيا العزيزة، كما كنت أحلم بالوصول إلى هنا”
ثمّ تنتقل الحكاية إلى أثيوبيا، فنجد أنفسنا وسط ثلّة من الصبيان في مدرسة القرية، يكتبون ويرسمون، وفجأة يتمّ نقل ستّة منهم بفعل معلّمهم وضابط إلى أماكن نائية وهم يرتدون ثياباً جديدة ذات لون واحد، بعد أن يودّعون أمهاتهم، وبعد أن يقع دفع الأموال للمعلّم، وبعد مرور السنوات وقد بلغوا العشرين سنة من عمرهم، يكونون قد تمّ إعدادهم لنشر تعاليم اليهودية في أثيوبيا وكره الفلسطينيين.
يواصل “ناغوغي الصغير” الغوص في لجّ حكايته، فنعرف أنّه ابن غير شرعي ففي غياب “ناغوغي الكبير” رضخت الأمّ لسطوة “أمادوا”، خلاصة الأمر، تعترف الزوجة بالسرّ ثمّ تلد، وفي نهاية الفصل يسامحها الزوج ويتركها مع طفلها ويذهب إلى ما كان عليه من غربة وقتال وسفر طويل في أحراش البلاد، كلّ هذا باح به ناغوغي الصغير لـ “ريفا” التي ظهرت في حياته صدفة (خرجت من الليل)، ففي فصل “في وداع أمّي” يجد نفسه متسللا إلى إسرائيل لكي ينسى فراق أمّه المتوفية، ويعرف حياة التشرّد ويمرّ بمراكز الشرطة والإهانات المذلّة، إلى أن يتعرّف على زبّال، فصار يعمل مثله، في جمع الفضلات في الليل لكي يتفادى الناس، ولا يرون لونه الأسود، إلى أن ظهرت ريفا في حياته.
وتستمرّ الحكاية، فيسرد علينا أنّ حبيبته بولونية ووالدها كان ضابطا في الجيش، وقد قُتل أبوها وصارت أمّها تاجرة ملابس، وكبرت الفتاة الجميلة وعملت لفائدة الشرطة وعرفت رجالا ومدنا وبذخا، وفي الأخير قالت لنفسها ولحبيبها الأسود المتّسخ بالفضلات:
“أن ألوذ برجل لا علاقة له بالحياة أو الصيت، رجل منبوذ، مشرد، مهمل… ولم يكن هذا الرجل سواك، ولم يكن ذلك القبر سواك، ولم يكن السجن الذي أبحث عنه سواك.. يا ناغوغي!”
بعدها يحدّثنا عن انتسابه للجيش ودخوله فيه بسبب ريفا وبفضلها، إذ أرسلت ناغوغي إلى أحد معارفها القدامى، ثمّ وقعت وشاية سابينا المرأة العجوز صاحبة “الكوخ” الذي يؤجّره ناغوغي، وتأتي الشرطة وتغضب ريفا غضبا شديدا، وتتّصل بالمسمّى “شلومو بنانا”، فيعتذر رجال الشرطة، وكطفلة أحسّت بذنبها، قدمت سابينا آسفة ومعتذرة.
“لا أدري كيف جالستني العجوز سابينا ساعة من الزمن، وهي تحادثني، وتنظر إليّ، وتتودد!
وأنا الذي أعرفها، منذ سنتين وأزيد، كارهة لرؤيتي، ولسماع صوتي، وكارهة لوجودي في بيتها! سابينا، بمجالستها هذه علمتني درساً كبيراً، وهو أن الحياة أمُّ المتغيرات!”
ثمّة جمل وفقرات معبّرة عن عنصرية هذا الكيان الغاصب، هذا بعض ما ورد في هذه الرواية من وصف دقيق لهذا المجتمع الديني المسلّح، فرق أتت إلى فلسطين على غفلة من الزمان واستوطنت فيها وفرضوا دولة بقوّة السلاح وبنصرة القوى العظمى:
“تعلمت كراهية الفلسطينيين والعرب والمسيحيين، وأن لا أحد له الجدارة بالحياة سوى اليهودي، وأن العالم خُلق وصار وبدأ، وتشققت عنه العتمة الأبدية من أجل اليهودي، وأن السيادة على الأرض لليهود، وأن الجميع خُلقوا ليكونوا عبيداً لهم”.
يأخذنا في جولة في القدس واصفا لها، لنسائها الجميلات وشوارعها وأزقتها، لأماكن العبادة فيها، ويحدّثنا عن عذابات “أمّ علي” وزوجها المسجون في النقب، كيف فرحت بعودته، نقرأ بالقلب وليس بالعين هذه الفقرة:
“فرحت بعودته، وإن كان مصاباً بمرض السرطان، وبنذرها، وبطريقها الطويل الذي مشته حافية لكي تشكر الله الذي نظر إليها! ورحت أسأل نفسي، أي بشر هؤلاء! إنهم أكثر من بشر، وأكثر من تاريخ، وأبعد من صبر، وأبدى من بقاء!”
في الحقيقة، حدّثنا الكاتب حسن حميد، المبدع الفذّ عن كلّ شيء، عن فلسطين بشكل أدبي موجع وجميل، عن كلّ ما يمتّ بصلة بالبطل الرئيسي، عن نورا التي أحبّها بصدق وأوصاها بنشر الرواية باللغة العبرية، وإن تحمست فبترجمتها إلى العربية، وتنغلق الرواية على سفره وتوديعه للأماكن والناس، فهي ليست هجرة عن طواعية، بل بقرار صارم على عدم القدوم إلى أرض الظلم والإذلال والمهانة، ويختتم برسالة ثالثة لحبيبته نورا:
“إنها غدت أمنيتي في الحياة، فلو وهبني الله عمراً جديداً، وشباباً جديداً لما كنت أعطيتهما لمخلوق سواها، وطلبت منها أن تسامحني على عاطفتي تجاه ريفا، وأن تغفر لي أغلاطي، فلم أكن سوى نبات شوكي! وأرفقت رسالتي لـ نورا بهذه الأسطر الأخيرة التي أكتبها الآن لكي تضمّها لكتاباتي السابقة التي صارت بحوزتها! ثم قبّلتُ الورقات واحدة واحدة، ورجوتُها واحدة واحدة أن تقبّل نورا نيابةً عني.. وباللهفة الكاملة!”.