أثير- مكتب أثير في دمشق
لا زِلتُ تلك الطفلة التي تتأرجح على غيمة بيضاء.. وأتزحلق على حافة القمر.. أمدّ يدي إلى السماء لأقطف نجمة وبعض أمنيات. ما تزال السماء بعيدة ونجومها تحاكيها بعداً.. ما يزال القمر حيث هو.. وما زلت أمد يدي وكلّي يقين أنني سأقطف يوماً ما طاب لي من نجوم وأمنيات.. بهذه الكلمات المليئة بالطفولة والجمال أحبّت الكاتبة والشاعرة والمترجمة والمتخصصة في أدب الأطفال ثراء الرومي أن تقدّم نفسها لأثير، وكان لأثير معها هذا الحوار ..
الدّخول إلى عالم الطّفل والكتابة له يعدّ السّهل الممتنع… كيف استطعت الولوج إليه وأيّ أسلوب تتّبعينه للتّواصل مع هذا العالم المتفرّد وهو عالم الأطفال؟
بالفعل أدب الطفّولة هو عالم محفوف بمخاطر الانزلاق في هوّة الاستسهال أو المباشرة الفجّة، طفل اليوم كائن بالغ الذّكاء، إن لم يخاطبه العمل الأدبيّ محترماً هذه المَلَكة، فلن يلقى لديه استحساناً أبداً.
وأهمّ عنصر في الكتابة للطّفل أن يتحلّى الكاتب أو الشّاعر بروح طفوليّة ترافق كل حرف يكتبه لهم، هذه الرّوح تمدّه بالمرح والفكاهة، وتزوّده بعنصر الإدهاش والمباغتة. فكلّ هذه عوامل تشدّ الطّفل إلى العمل الأدبيّ الموجّه له. أنا شخصيّاً لم أبدأ الكتابة للأطفال إلّا بعد أن ترجمتُ لهم، وبعد أن قرأت الكثير، ولا زلت أقرأ ولا أرتوي. ولا أبوح سرّاً إذ قلت أنّني أستمدّ من يوميّاتي مع أطفالي وسواهم أجملَ الأفكار الخلّاقة.
ربّما تكون أجمل تجاربي ورشات القراءة وحلقات الكتاب التي استهدفت بها تلاميذاً وطلاباً من أعمار مختلفة بحكم عملي في المجال الثّقافي. وأصدقك القول: لا فرحة تداني فرحتي وأنا أرى تفاعل الأطفال مع قصّة أو قصيدة لي أو لغيري وأنا أقرأها عليهم.
هل يستطيع أيّ أديب أو شاعر أن يخاطب الطّفل أو يكتب له؟
قطعاً لا.. الأمر يحتاج دراسة مستمرّة لأنّه امتحان دائم لعلاقة قصصنا مع الأطفال تتغيّر إجاباته وفق معطيات المرحلة وتثريها تجارب الآخرين. من لا يقرأ قبل أن يكتب، وللأطفال بالدّرجة الأولى، فليعلن إفلاس قلمه مهما بلغت ثقته بنفسه. قد يمتلك الشّاعر كلّ أدوات البلاغة والعروض لكنّ الطّفل الذي في داخله يأبى الظّهور في طيّات القصيدة أو ربّما يكون قد تاه في غياهب الوقار. وكذلك الأمر بالنّسبة لكلّ الأنماط الإبداعيّة، فمن يتمتّع بلغة سليمة قد يصوغ جملاً وعبارات ملفتة لكن، لكي نخاطب الأطفال في قصصنا ورواياتنا علينا أن نتحلّى بروح الطّفل وروح الباحث التي إن لم نسلمها دفّة وقتنا وصبرنا واجتهادنا فلن ترسو سفينة إبداعنا على شواطئ الأطفال…
من قصيدة: فنّان
بـحّارٌ، وشِراعي لونٌ
فُـــــــرشــــاةٌ وخيالٌ آسِــــرْ
أقطـــــفُ نـجـمــاً، أرسمُ حُلْماً
شلّالاً مِن فرحٍ هادِرْ
*
ألواني طَيْفُ فراشاتٍ
تَـــرقصُ عَبْـرَ الـمَرْجِ الأخضرْ
تَتنفَّسُ فُرشاتي زَهْراً
ببَـــــراعـمِـــهِ الكونُ تَعطَّـــرْ
يقال الطفل وليد بيئته وهو يقلد ويفعل ما يرى وليس ما يسمع. كيف نشجعه على القراءة؟ وأيّ عمر هو الأنسب ليبدأ الطفل في المطالعة؟
هذه الرّحلة ينبغي أن تبدأ منذ السّنوات الأولى من عمر الطّفل، عبر مخاطبته بصريّاً بالقصص المصوّرة، انتقالاً إلى القصص البسيطة المواكبة لاكتسابه الحروف الأولى. والطّريقة الأمثل لجذب الأطفال إلى القراءة هي خلق مناخ يجدون فيه مدى أهمّيّة الكتاب بالنّسبة لمحيطهم الأسريّ. لكن قد يضطّرّ بعض الأهل للأسلوب السّماعيّ فحسب حين تضيق بهم السّبل، فالطّفل المتململ يجب أن نسعى لإحاطته بسرد قصصيّ وشعريّ يتلاءم مع مرحلته العمريّة بحيث نغرس هذا الأمر في لا وعيه من حيث لا يدري. ولا يجوز إدخال الطفل في متاهات العبارات المعقدة والمركبة في السنين الأولى.. لهذا يجب أن نبحث عن كل ما قد يلفته ويسترعي انتباهه وبشكل لطيف بسيط وعفوي حتى نبسط له الفكرة، أعطيك مثالا حاولت في قصيدتي صانع الألعاب أن أعلّم الطفل كيف نصنع الألعاب من صوف الخاروف..
أنا صانعُ ألعابٍ ماهرْ
أغزل خيطاني كالسّاحرْ
ها سترة صوفٍ منسيّةْ
صارت حالاً خيرَ هديّةْ
أحشو الدّمية بالخيطانْ
صحبي قالوا: يا فنّانْ
*
للّحيةِ أستخدمُ قُطْنا
بالأسلاكِ أَشدَ القرنا
من بعضِ بقايا الأقمشةِ
أزياءُ دُمايَ المدهشةِ
فيها مُهرٌ جَرَّ العربة
وغزالٌ، ثورٌ في حلَبَةْ
طفلٌ يحبو، سِربُ حمامْ
وعرائسُ، راعٍ، أغنامْ
*
كَمْ تسحرُني كُرةُ الصّوفْ
قبلاً كانت ثوبَ خَروفْ
في ظلّ التّطوّر التّكنولوجيّ الهائل والمتسارع، وفي عالم السّوشيال ميديا وما رافقها من تقنيّات وألعاب خاصّة بالأطفال. كيف نستطيع أن نعيد الطّفل إلى القراءة وكيف نستطيع أن نستغلّها لفائدته؟
ليس لأحد أن يتجاهل حقيقة هذا الزّحف التّكنولوجيّ الذي يحاصرنا جميعاً. قد يقول قائلون كثر: “لا حيلة لنا فالجوال لا يبرح أيدي أطفالنا،” لا شكّ أنّ التّحدّي جسيم، لكن برأيي يحتاج الأمر بعض الحزم عبر تحديد وقت معيّن في اليوم يبتعد فيه الطّفل عن الشّاشة الزّرقاء وينصرف إلى أنشطة قرائيّة أو فكريّة تغدو رونيناً يوميّاً مهما كانت درجة تذمّره. وقد يتطلّب تقبّل الأطفال لوضع كهذا وقتاً وجهداً، لكنّ نتائجه المثمرة تقتضي الخوض المضني فيه. ولعلّنا في الخيارات الدّنيا المتاحة لنا نستطيع توظيف أسلوبَي التّرغيب والتّرهيب لنؤسّس لزحف عكسيّ. أعني أن تكون هذه الألعاب والوسائل التّقنيّة سلاحاً في يدنا بدلاً من أن تُشهَرَ في وجوهنا، ويكون ذلك عبر مكافأة الطّفل الذي يعطي وقتاً أطول للقراءة بلحظات لعب إضافيّة، وأن تكون عاقبة أيّ سلوك غير مرغوب به حرمان مؤقت من فردوس هذه الألعاب. هي أزمة جيل كامل ولا ينبغي أن يقف كلّ منّا مكتوف الأيدي أمام معطياتها، فكلّنا مطالبون بمحاربة تفشّيها.
على عاتق من يقع الدور الأكبر في تنشئة جيل مهتمّ بالقراءة.. المدرسة… العائلة… الجهات الرّسميّة والوزارات المعنيّة؟
الجميع يتقاسمون المسؤوليّة، كلٌّ من موقعه… فخلق مناخ القراءة الذي ذكرته وتعزيزه بكلّ الوسائل يحتاج تضافر جهود المعلِّمة والمدرسة مع جهود الأمّ والأب والجدّ والجدّة. ومن الحلول التي أراها مجدية للغاية أن تتحوّل قاعات المكتبات في المدارس إلى ميادين تنافس تشرف عليها أمينات وأمناء المكتبات بمتابعة حثيثة من معلّمة اللّغة العربيّة وبدعم كامل من إدارة المدرسة. كما أؤكّد على نشر ثقافة الكتاب المهدى التي أحرص عليها شخصيّاً بكلّ ما أوتيت من سبل التّواصل مع الأطفال، فالقراءة صنعت منّي ما أنا عليه. والكتاب هو قطعة السّكاكر المفضّلة التي يطيب لي إهداءها لكلّ طفل ألتقيه، فهذا يختزل رسالتي في الحياة ككاتبة ومترجمة وكمربية في المقام الأوّل.
من قصيدة أهلاً بالصّيف
الصّيف الهانئ إذ لاحَ
وغدوتُ الطّيرَ الصّدّاح
غنَّيْتُ وداعاً مدرستي
عطرٌ بحروفي قد فاحَ
*
ألواني الحلوةُ تبتسمُ
بيدي والرّيشةُ والقلمُ
ثمراً صيفيّاً يرسمُ لي
موجاً بالصّخرة يرتطمُ
هل المسابقات التي أصبحنا نراها وتهتمّ بالقراءة والطّفل مفيدة أم أنّها سلاح ذو حدّين؟
لا يمكننا إنكار الدّور التّحفيزيّ الذي تلعبه هذه المسابقات بالنّسبة لمن يحصدون نتائجها، لكن علينا أن نضع بعين الاعتبار نسبة الأطفال الذين لا يتصدّرون المشهد، ولا يحظون بتسليط ضوء مناسب على اقترابهم من حيازة اللّقب. قد ينقلب الأمر عكسيّاً عليهم ما لم نعزّز لديهم الشّعور بأنّ المشاركة بحدّ ذاتها في حدث كهذا هي قلادة فوز، وأنّ الطّفل الذي لا يكسب اللّقب يعود من المسابقة بعادات قرائيّة جميلة أهمّ من كلّ الألقاب. الأمر ليس بهذه السّهولة ويقتضي جلسات حوار مطوّلة.
أحب أن أختم بجملة لأحد الكتّاب وعلى بساطتها، وبرغم بعض الجدل الذي دار حولها فهي تختصر الكثير من الدروس في التربية والتعليم وتنشئة الأطفال
(يولد الطفل صفحة بيضاء تنقش عليها التجربة ما تريد)
من قصيدة الجوهرة الخضراء
إنّي جوهرة لا تلمعْ
أربعةٌ -يا صحبُ- حروفي
من أخضرِ قلبي تتفرّعْ
للطّيرِ غصوني كرفوفِ
*
أنا عنواني أنقى نسمةْ
والفيءُ هديّةُ زوّاري
ثَمَراتي هيَ أحلى نعمةْ
أجملُ لوحاتٍ أزهاري
*
من يعرفُ سرّ حكاياتي
أسردُها والصّوتُ حفيفُ
ترويها كلّ وريقاتي
وعليها للطّيرِ رفيفُ
*