تاريخ عمان

تعامل حاكم عُمان وقاضيه المغوار ..مع الغريب المستهزئ في الصير “جلفار”

تعامل حاكم عُمان وقاضيه المغوار ..مع الغريب المستهزئ في الصير “جلفار”
تعامل حاكم عُمان وقاضيه المغوار ..مع الغريب المستهزئ في الصير “جلفار” تعامل حاكم عُمان وقاضيه المغوار ..مع الغريب المستهزئ في الصير “جلفار”

أثير – تاريخ عمان
إعداد : نصر البوسعيدي


يوثق لنا التاريخ العماني واقعة حدثت في عهد دولة اليعاربة وتحديدا في أيام الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف اليعربي الذي بويع لحكم عمان بعد وفاة أبيه تقريبا في سنة 1679م.

لقد كان الإمام بلعرب من أكثر حكام عمان في زمانه اهتماما بالعلم والعلماء وبنى لهم حصن جبرين الذي يعد وقتها كجامعة علمية في وقتنا لأنها تخصصت باستقبال طلبة العلم وإيوائهم وتدريسهم بمختلف العلوم المتاحة بفكر أساتذتها ومشايخها من كل مكان، وكان مجلس الإمام عامرًا بالعلماء وأهل الحكمة والنبلاء، وسار بعمان نحو العدل والمساواة والازدهار مع مواصلته ولو على فترات متقطعة وليست بالكثيرة بمحاربة البرتغاليين في المحيط الهندي والقارة الأفريقية.
وبما أن الإمام يحترم العلم كثيرا فقد كانت سياسته مبنية نتيجة تأثره بذلك على مناقشة الفكرة بالفكرة وتجنب الإساءة بالابتعاد عنها ومواجهة بعض القضايا بالمنطق والسلام وليس بالسجن والقيد والترهيب.
ولذا فإن أغلب العرب والغرباء ومن تصلهم وقتها أخبار عمان كانوا يدركون تماما بأن هذا البلد وحاكمه يحترم الجميع ولا يقابل إساءات أفكار وتوجهات الغريب إلا بالهدوء والاتزان وفي بعض الأحيان مجاراة عقول البعض من باب القوة لا غيرها خاصة إن كان الطرف الآخر مستهزئا لا يدرك قيمة الفكر ولا يعي مفهوم الاحترام.
يحكي لنا التاريخ أن رجلا من ناحية بلاد الخليج أتى إلى عُمان وأقام تحديدا في جلفار ومنها أخذ يستهزأ كثيرا في أمور الدين ومنهج فكر أهل البلاد وأصبح بين الأهالي يفتي دون علم في الكثير من القضايا الفقهية، حتى وصلت أخباره للإمام الذي بدوره وجه له من خلاله أصحابه نصيحة لطيفة بما أنه ضيف في الممتلكات العمانية بأن يحترم فكر وإيمان الأفراد وكل من يسكن في حدود جغرافية حكمه وسلطته، إلا أن هذا الغريب رد برسالة لأصحاب الإمام فيها من التعجرف والإسفاف الشيء الكثير، فكتب في رسالته لغزًا متحديا العُمانيين بأن يأتوه بالجواب وحينما وصلت رسالته للإمام، لم يأمر الجنود بسجن الرجل لتوجيهه على احترام الآخرين والكف عن الإفتاء وخداع الضعفاء والبسطاء والاستهزاء بالحكماء رغم أنه بين يديه ويقيم في الأرض العمانية التي يحكمها بكل قوة وحزم، بل تصرف الإمام مباشرة بإرسال رسالة عاجلة إلى أحد قضاته من أهل نزوى وهو الشيخ ابن عبيدان الذي يعد من أشهر أهل زمانه علما وفقها وزهدا وشجاعة للحق ونصرته وكتب فيها :
” من الفقير إلى الله إمام المسلمين بلعرب بن سلطان بن سيف إلى شيخنا الرضي الفقيه وولينا في الله محمد بن عبدالله بن جمعة بن عبيدان وبعد الخير والسلامة ..
وصلت إلينا كتب من عمالنا في الصير – بأحدهم – صار له عند مخالفينا شأن عظيم وصار له مجلس يجتمع فيه 100 رجل فصاعدا من قومنا، وصار متطاولا تيها بذيله على ديننا ، ويفتي في الأثر نظما ونثرا ويمتحن أصحابنا بمسائل، وأرسلوا لنا مسألة في بعض امتحانه لهم وطالب جوابها، والمسألة هي هذه شعرا :
وذي رجل كالزوج دينا ومذهبا … ومات ولم تلحق صداقا ولا إرثا
وليست بذي قتل ولا ذي جراحة … فأنعم لنا بالكشف عن هذه الأنثى
فإن أنت لم تستطيع لرد جوابنا … فعلمك أضحى في الورى ثوبه رثا
فأرسل بها نزوى وما شئت من القرى … فإن تظفروا بالكشف عنها أكن إرثا
فتفضل يا شيخنا برسم ما يرضي الله ويسر المسلمين ومرادنا – بعد ذلك – نفي هذا الرجل من أرض عمان …”.
فأجاب الشيخ القاضي ابن عبيدان بالتالي :
” – أيها الإمام – الجواب بأن مثل هذه المسألة يبطل صداق المرأة وميراثها من الزوج الميت من وجوه شتى مثال ذلك إذا تزوجت بزوج آخر عمدا ومعها زوج ولم يطلقها ولم يمت عنها ثم مات الزوج الثاني والزوج الأول فإن هذه تحرم على الأول والثاني ولا يكون لها ميراث من الزوج الثاني ولا الأول لأنها تصير بمنزلة الزانية لأنه لا يحل فرج امرأة لزوجين وكذلك لا يكون لها صداق على الأول والثاني، وكذلك إذا زنت امرأة وهي مع زوج ثم مات عنها زوجها، فقال بعض المسلمين إن ليس لها ميراث ولا صداق من الزوج وفيه قولان الصداق والميراث وأمثال هذه كثيرة.
وأنا إن شاء الله تعالى سأكتب شيئا من التغابي في مثل هذا، وأنا أكتب المسألة وجوابها وانتم اكتبوا المسألة له بلا جواب وهاكم المسألة :
ما تقول في رجل نظر إلى امرأة وقت الغداة وهي عليه حرام ونظر إليها وقت الظهر وهي له حلال ونظر إليها وقت العصر وهي عليه حرام ونظر إليها وقت العشاء وهي له حلال ونظر إليها وقت الضحى وهي عليه حرام، ولما كان وقت الظهر نظر إليها وهي له حلال ثم نظر إليها وقت العشاء وهي عليه حرام ؟!
وجوابها هذا الرجل نظر إلى أًمة (جارية) قوم وقت الغداة وهي عليه حرام لأنها ليست بملكه، ثم لما كان وقت الظهر اشتراها ونظر إليها وهي له حلال، ثم لما كان وقت العصر أعتقها فحرمت عليه لأنها ليست له، فلما كانت المغرب تزوجها فحلت له، فلما كان العشاء ظاهر منها ( حرمها باللفظ على نفسه كأنه يقول لها أنت كأمي ) فحرمت عليه، فلما كان الصبح أعتق عنها رقبة فحلت له، فلما كان الظهر ارتد عن الإسلام فحرمت عليه، فلما كان العشاء أسلم فتاب فحلت له.
وهذه مسألة أخرى :
ما قولك في رجل أدخل بيته ضيفا فخرج رب البيت ليطلب لضيفه طعاما وفي وقت خروجه كان قد جامع زوجته حلالا وخرج حين فرغ من جماعة إياها، فلما رجع إلى منزله بالطعام وقبل أن يغتسل من جنابته ليطعم ضيفه ، منعه ضيفه من الدخول وقال لقد تزوجت بزوجتك حلالا بكتاب الله وسنة نبيه ورسوله وقد حرمت عليك؟!
وجوابها أن رجلا له امرأة حامل فقال لها إن ولدت أنثى فأنت طالق، فلما ذهب الزوج ليطلب طعاما لضيفه ولدت الزوجة جارية فتطلقت، ثم ولدت بعد ذلك – في اللحظة نفسها – غلاما فحينئذ ملكت نفسها وانقضت عدتها فخطبها الضيف إلى وليها فزوجه إياها وملكها بعقد النكاح بلا وطء وأتى الزوج وقد فاتته وتزوجت بالتزويج الحلال”.
وغيرها من أسئلة لم أكتبها في هذا المقام خشية الإطالة.
وعطفا على ما سبق نلاحظ هنا بأن الشيخ القاضي ابن عبيدان تعمد بأن يوصي الإمام بإرسال هذه الأسئلة وغيرها كمثيلاتها لذلك المستهزئ بنفس أسلوبه وطريقته، ولذا فمجاراة بعضهم بنفس الأسلوب ليس إلا تقليلا من حجمه والتعاطي معه حسب عقله وحدود تفكيره.
كذلك نلاحظ أن الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي وهو حاكم البلاد وسيدها ، أولى اهتماما كبير لشأن ما يفعله هذا الرجل لأنه يخشى كثيرا على رعيته وسلامة فكرهم حتى من أقل الأمور بمسؤولية منقطعة النظير دون النيل من الضيف الغريب الذي أقام بين رعيته في الصير (جلفار)، بل كان يفكر بكل لطافة بالإجابة أولا عن أسئلة هذا الرجل ومطالبته بعد ذلك بالخروج من البلاد والرجوع لموطنه ليكف شره عن العباد، رغم أن الإمام كان باستطاعته إلقاء القبض عليه وسجنه وهو من يملك الحكم والقوة وقيادة دفة الأمور في عمان.
رحم الله تلك الأمة ومن كان على طريقهم من المشايخ والعلماء الأجداد الكرام، وكل من أعطى من علمه وعمله وضحى بحياته من أجل عمان.












المرجع : السالمي، عبدالله بن حميد، تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، الناشر مكتبة نور الدين السالمي – سلطنة عمان 2000م.

Your Page Title