يونس البوسعيدي-شاعر عماني
إن معرفتي بالشاعر أشرف العاصمي تخولني أنْ أقول بأن معظم نصوصه كانت كلوحة تنطق بضرباتٍ لونية للفرشاة، ولم تكن تلك الضربات تشترط على نفسها أن ترسم ملمحًا متضِحًا، بل كانت تكتفي ببثّ أثير تلك الألوان في المتلقي لينفتح التأويل على مصراعيه، إنما في هذا النص (رقصة تحت الركام) كانت ضربة الفرشاة واحدة، وبدرجةٍ لونية واحدة، بدأتْ من العنوان (رقصة) تحت (الرماد)، وما حمله من تضاد يحيلنا لقول الشاعر (لا تحسبوا رقصاتي بينكم طرباً * “فالطير يرقص مذبوحا من الألم”) فلم يكن ميدان ذلك الرقص فسيحًا، بل ركام تختنق منه الأنفاس، وهو هكذا التقاطة تخييلية تحيلُ للمعنى مباشرةً بتضاد العلائق بين مكوناتها.
دعِ العنوان لتقرأ التشظي، وكذلك دع توالي الأسئلة لتدرك القلق الفوار مثل جمرٍ تحت الرماد، واذهب للالتماعات الصارخة كأنين مكبوت في النص، فهي القسمات في الفسيفياء المتشكلة ذاتًا متشظيةً اختتمَها الشاعر أشرف العاصمي بتذكر تلك الأنا المتشظية لوطن سليبٍ، إنما تحت جمرةٍ تخبو، وتخبو فعل مضارع يفيد الاستمرارية ولكنه يفيد فعل الانطفاء البطيء.
بدءاً نجدُ النص قد ترقرق في بحر وافر، و رويّ الباء المكسور، وهذا أضفى غلالة حزنٍ شفيف تتعاضد مع ما في النص من وشايةٍ وبوح بالحزن.
مفاتيح النص هنا، وهي ربما تأتي في مساق ما يسمى ببيت القصيد، هذه المفاتيح هي (وهل ما بعد هذي الروح روحٌ) ( وهل هذي المرايا بعض ذاتي) (تثور قوافل الأشلاء حيرى * كما ثار الرماد على اللهيبِ) ومثلها (كما يرجو السقيم من الطبيب) وكذلك (سيكفي ما تبقى في الكثيبِ)، والملاحظ أن في هذا النص مفارقات لعلائق معنوية وليس لفظية، وهذه المفارقات قد تشكل نسقا سرديا بصورة ما، فالرّوحُ الآنية تأملُ روحًا أخرى قد تكون طوق نجاة، والمرايا التي تعكس الملامح قد تنفذ وتعكس الذات، وهذه الذات تستصرخ كالرماد في اللهيب، موحيةً أو مستوحيةً فعل الثورة إلى أو من قوافل الأشلاء، وهي ثورة مرتطمة بالحيرة وهذا انعتاق جليّ في الحزن، يؤكده رجاء السقيم في الطبيب، ويؤكد فعل الحيرة وسَدرة الحزن أن الشاعر إنما يكتفي بما تبقى من كثيب ليواري معانيه، لما يراه من خبو الجمر، جمرة الوطنِ السليبِ، وهي خاتمة مُشرعة على التأويل، هل الوطن هنا هو مرسى الأمان والحب الذي ينشده الشاعر، وهذا أمر ممكن، أم هي فطنة وحنكة الشاعر في صياغة نصه في حمولات غنائية عالية مع شذرات تلمع بالمعاني وثم يصل لأعلى سُلّمٍ في حمولاته الغنائية بتركه التاويل مفتوحا، وكل هذا ممكن ومقبول، فالنص بإيحاءاته يشير لنا بمعانيه الكاملة بتعالٍ عن المباشَرة أو العبارات الإنشائية في قوالب خبرية.
حفِل النصُ بِصور متوالية متعتقة بالحزن الشفيف الذي ينث في هذا النص، وشعّ فيما أراه بابتكارات لفظية جميلة تُعطي رؤًى تضاف إلى الإلتماعات السابقة، ونأخذ على ذلك كأمثلة:
١- (كأيةّ) شمعةٍ قد (قيل) ذويي، فاللفظان أيةِ وقيل يومئان للمجهول، واللامبالة في خطاب تلك الشمعة بتغييبها وكأنه لا مبالاة بتغييب الروح التي جسدتها الشمعة، وتصوير الشمعة بالروح استقاءٌ من بعض المخيّلات الأدبية المتكررة، فكثير ما يرد انطفاء الشمعة كدليل على انطفاء الروح بمعنى الموت.
٢- قوافل الأشلاء: وهذه صياغة جديدة وموفقة ومبتكرة من زاوية مغايرة لِ (نسب الهالكين) في قول أبي نواس (وما الناس إلا هالكٌ وابن هالكٍ * و ذو نسبٍ في الهالكين عريقُ) ولكن صياغة أشرف العاصمي أمعنُ في القتل، لوجود لفظة أشلاء، كما أن لفظة قوافل وليس قافلة لا توحي هنا بالزمن كلفظة (نسب) عند النواسي، بل توحي بحركة، وتكرر هذه الحركة كونها قوافل وليس قافلة واحدة، وتشير لجموع متكتلة من أشلاء، وحركة هذه القوافل إنما هي هبّةٌ للثورة، ولكنّ هبّتها للأسف مغلولة بالحيرة، وإنما لا عجب، فذات الشاعر بها
اليقين الراسخ والمخبوء في حينه أنها ثورة الحالم الذي لا حول ولا قوة له على كرومه التي تعب منها، والتي رغم استكانِهِ لها وهو يعصِرُها، لكنها تفرُّ (ويهربُ ما تخمّر ملء كوبي)، كما تمنيّتُ صياغتها، لكني أعترف أن اشرف كان أيضا هنا فنانا مبتكرًا حين حلّق عن ما يتبادر للذهنية، وربْط الشراب بالكوب مثلا، وإبقائه الشراب المعصور عناقيداً تتخمر في جيوبه، فأشغل الذهنية عن المعتاد لصورةٍ تحتاج للارتفاع مع الشاعر ليراها أو يقبل بتأويلها بمنظور آخر غير الانسياب مع لحظة الانسكاب الشعرية فقط، والتي يُوول بها الكثير من الصور الغائمة عن الذهنية المباشرة.
٣_ الجهات التي تغفو على منفى (مجهول غير معرف بأل) لأجل أن تلملم، أو وهي (تُلملم ما تبقى من دروبِ) وكذلك دروب غير المعرفة بأل، وبالتغاضي عن الضرورة الوزنية التي تحتم كيفية صياغة اللفظ، وبتتبع لحظة الانسكاب الشعرية، فإننا نجد أن تلك الجهات المليئة بالمعالم و بالأماكن والطرقات، يُراد منها في (غفوةٍ) أنْ تُلملم ما تبقى من دروبِ، وليس ما في الدروب. فالشاعر هنا لا يريد أن يكنس ذكرياته من الدروب، بل ربما يريد محوها آيسًا من المنافي، وهذا يرتبط بعلاقة سردية مع خاتمة النص وخبوّ جمرة الوطن السليب.
٤_ بحث الشاعر عن الغراب في قوله (وأبحث يا غراب العمر وحدي * أُواري سوءة المعنى) ، ومع أن هذا استقاء من القصة القرآنية الكريمة وقوله تعالى في سورة المائدة ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ…)، إلّا أن استقاء الشاعر اشرف العاصمي للنص القرآني كان ذكيا، حيث حوّر الفعلَ (بعثَ) إلى الفعل (ابحث)، فحدث تبادلُ أدوار يؤكد حالة التيه والخوف التي انعكست من ابن آدم الذي قتل أخاه، وفِعل الشاعر (أبحث عن غراب) جاء بعد (ثورة قوافل الأشلاء)، والتضاد المعنوي الآخر هنا، نِسبة الغراب للعمر، (غراب العمر) وما تحمله هذه النسبة من صورة سوداء تعكس حالة التشاؤم التي يعيشها الشاعر على المتلقي، وما يُعرف عن الغراب في الفلكلور الأدبي العربي، وهذه الحالة تأتي مرةً أخرى في البيت الأخير من النص والذي أشرنا إليه سابقا، وإنما هذه المرة من العناكب والخراب، وهما لفظتان صريحتان في النص بإيحاءاتهما الدلالية تكملان النسق السردي (أنا أبحث عن الغراب لأواري السوءة، فنحن في خراب أيتها العناكب التي تعشش في اوهى البيوت، وهو الوطن السليب).
٥_ أخيرا المواراة، وهو فعل يحيل مباشرة لعملية دفن الموتى، ومجيئه فعلا مضارعًا بضمير المتكلم (أُواري) في بيتين متتالين، (أُواري سوءة المعنى) وكذلك (أُواري ألف معنى) وبجمع الجملتين نستشف هدير الألم والخيبة، ففيهما إفراد المعنى ونسبته للسوءة، والجملة الأخرى ينضح بكثرة الألم وخيباته، الذي كان استدعى (قوافل الأشلاء) لتثور.
ومواراة المعنى هنا يفاجئنا بحال بالخيبة وكمية الألم العظيمة، فبعد أن استجدى الشاعر (غراب العمر) ليبحث، لم يجد الشاعرُ اليقين الكافي أنه سيجد ما يكفي مما تبقى من كثيب الذي نعرف أين ذهب أكثرُه، وهذا الحال أي البحث عن قبر استنطقتْهُ النفس المتألمة، فلم تقُل تلك النفس ما قاله الشنفرى (ولا تدفنوني إن قبري محرم * عليكم، ولكن أبشري أم عامر).
واستخدام الشاعر للفظة (المعنى) ليواريه يحمّل هذه الكلمة تآَويلا عديدة لتفسيرها، كما أنه في الحين نفسه يجعلها عرضة للسؤال عن بلاغة استخدامها، وانكشافها للمتلقي بكافة طبقاته، كما أنها لو انكشفت لما كانت مفتاحا في النص فحسب، بل كانت باباً ينغلق عن لذة الجدل الحميد في ماهية معنى هذا (المعنى).
وفي الختام، يظل هذا النص (رقصة تحت الركام) للشاعر أشرف العاصمي نضاحًا ونضاخًا بالعلائق التي تُقوِّلُ المتلقي ما قاله وما لم يقلْه النص بذاته، كون النص الشعري ذي القيمة الفنية العالية كمرايا الماء تظن أنها أرتك أعماقها، وما رأيتَ غير سطحها.