أثير- محمد قراطاس
شغلني شعره كما شغل آلاف الشعراء والقرّاء في العالم. فعندما أقرأ له أشعر بحرارة الكلمات تغمرُ روحي. شاعرٌ قادرٌ على نقلك من خيال إلى آخر آخذا بيديك إلى محطات كثيفة في الحبّ الطاهر والخالص. قررتُ الوقوف على مسجده في زيارتي الأخيرة للقاهرة، وقد وصلتُ إليه بعد صعوبة وذلك بسبب وجوده بين الكثير من الأحياء المتداخلة والمدافن.
الإمام الذهبي قال عن قصيدته التائية أنها إن لم تكن فيها عقيدة الإتحاد فليس هناك في العالم من زندقة ولا ضلال! وقال عنه ابن خلّكان كان شاعرا رقيقا ينحو منحى الفقراء وهو مسمّى الزهاد في تلك الفترة، واختلف في أشعاره الجميع. لكنهم يتفقون جميعاً على أنّه مبدعٌ استثنائي في استدراج القلب إلى الدهشة.
أُخفي الهوى ومدامعي تُبديهِ
وأميتهُ وصبابتي تُحييهِ
فكأنّهُ في الحسنِ صورةُ يوسفٍ
وكأنني في الحزنِ مثلُ أبيهِ
ياحارقاً بالدمع وجه محبِّهِ
مهلاً فإنّ مدامعي تُطفيهِ
هو شرف الدين عمر بن علي الحموي من أعمق وأرقّ الشعراء في العشق والمحبة الإلهية، ولد في القاهرة سنة 576 بعد الهجرة. غلب عليه اسم ابن الفارض لأن والده كان فقيها كبيرا في علم الفرائض.
درس الفقه ولكنه قضى معظم أوقاته معتزلا الناس في الأماكن النائية في الجبال أو في الخرابات البعيدة، متأملاً وباحثاً في الحياة والخالق والوجود. دفعه ذلك البحث المضني إلى الرحيل من القاهرة تجاه مكة ليقضي فيها 15 عاما متنسكاً في وادٍ قريب منها وهناك هدأت نفسه وامتلأت بالنور والعشق وكتب الكثير من قصائده.
اشتهر اسمه بعد عودته فتقرّب إليه الجميع، كان مرحباً ودمثاً في تعامله مع جميع زوّاره، عمر ابن الفارض كان يتحاشى قرب السلاطين، كان يعيش في زمان السلطان الكامل ناصر الدين محمد الأيوبي الذي أرسل إليه في إحدى المرّات 1000 دينار – وهو مبلغ ضخم في حينها- فرفضه، وطلب منه أن يحجز له مكانا بجانب قبر والدته أي والدة السلطان بقرب الإمام الشافعي، وهو اعتراف كبير بحسن ظنّ السلطان فيه وفي ورعه، لكنه رفض ذلك أيضاً، لأن ابن الفارض لم يكن طالبا للجاه أو المال وإنما هو روحٌ عاشقةٌ واقفةٌ على باب المحبة.
قلبي يحدثني بأنّك مُتلفي
روحي فداكَ عرفتَ أم لم تعرفِ
ما لي سوى روحي.. وباذل نفسه
في حبِّ من يهواهُ ليسَ بمسرفِ
ما لا يعرفه كثيرٌ من قرائه أنّ سبب اغترابه لأكثر من خمسة عشر عاما في مكّة كان بقّالا بسيطاً لا يُحسنُ الوضوء في المدرسة السيوفية. حين صحح له ابن الفارض، قال البقال: يا عمر أنت ما يُفتح عليك بالقاهرة ولكن يُفتح عليك بالحجاز، فسافر إلى مكة مباشرة ودون تردد وكان ذلك في غير توقيت رحلة الحج، لنعرفَ مقدارَ حجم المحبَة التي استولت على مجامع روحه.
فلسفته في الحبّ والتصوف غلبت على أشعاره فكان حضور الرمزية والمجاز فيها قويا. وكان غارقاً في المحبّة لدرجة أنّها تملكته واحتلت كلّ حرفٍ في شعره.
يُحشر العاشقون تحت لوائي
وجميع الملاح تحت لواكا
أوّل الكثير قصائده إلى غير معناها الأصلي واتهم بعقيدة الاتحاد والحلول وتم تكفيره ورميه بالزندقة، وأغلب الكتابات والاتهامات صدرت بعد رحيله عن الحياة. في حين لم يكن ابن الفارض سوى محبٍّ مخلصٍ لحبيبه فسخّر لهُ كلّ معنى مدهش وأبدع له كلَّ مجازٍ مذهل.
لم يعش ابن الفارض سوى 56 سنة. ولا أستطيعُ تصوّر حال الشعر العربي لو عاشَ أكثر من ذلك.
ترك ديوانا واحدا كان تأثيرُه وحضورهُ كبيراً في الأدب العربي والعالمي وبالذات الشعر الصوفي. من ضمن الديوان قصيدته التائية الكبرى التي يزيد عدد أبياتها عن 760 بيتا سمّاها نظم السلوك، لا تستطيع أن تجد فيما بينها حشوا أو بيتا زائدا عن الحاجة. وقد قام الكثيرون طوال العصور المتعاقبة بعد وفاته بشرح ديوانه لما يحتويه من شعرية عالية وعمق فلسفي.
توفي ابن الفارض سنة 632 ودفن تحت سفح جبل المقطّم في القاهرة. وهو مزار حاليا يتوافد إليه الناس بمختلف مشاربهم من الشعراء إلى المريدين.